كان مسلسل الاختيار 3 واحداً من المسلسلات التي حظيت بنسب مشاهدة عالية في مصر خلال شهر رمضان 2022، وأثار المسلسل موجات من الجدل بشأن تجسيد شخصيات وأحداث لا تزال حاضرة وفاعلة، على رأسها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وتخطت حالة الجدل بشأن المسلسل الحدود المصرية وتناولت وسائل إعلام عالمية تلك الحالة؛ إذ نشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تحليلاً عنوانه “الرئيس هو البطل”، رصد ردود الأفعال المختلفة حول المسلسل الذي شاركت في إنتاجه وزارة الدفاع المصرية.
ويعتبر شهر رمضان موسماً تقليدياً مميزاً للدراما التلفزيونية، حيث يجلس ملايين المشاهدين كل ليلة لمتابعة الأعمال الفنية ذات الميزانيات الضخمة ويشارك بها ألمع النجوم.
الرئيس يقول “الهدف تسجيل الحقيقة”
كان مسلسل “الاختيار” من بين هذه المسلسلات، التي أنتجتها الدولة المصرية بهدف تأريخ صعود الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي إلى السلطة عام 2013 بعد فترة من الاضطرابات العنيفة والانقسام الوطني العميق، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
لكن الحلقة الـ25، التي تناولت إحباط قوات الجيش لعملية تهريب أسلحة، أحدثت ضجة كبيرة. فقد خرج الرئيس عبد الفتاح السيسي في ليلة عرض الحلقة ليؤكد للمصريين في خطاب له أنّ كل كلمة ذُكرت في المسلسل صحيحة تماماً.
قال الرئيس: “ربما يتساءل كثيرون منا، ما الهدف من إنتاج هذا المسلسل؟ الهدف هو تسجيل الحقيقة بأمانة وإخلاص وشرف في وقت ينعدم فيه الشرف والصدق”.
لكن يقول منتقدون إنَّ المسلسل بعيد كل البعد عن تصوير الحقيقة ويعيد كتابة التاريخ من خلال تملّق الرئيس وشيطنة خصومه.
استطاع الرئيس السيسي على مدار ما يقرب من 10 سنوات تحويل مصر من بلد يتسم بقدر من التسامح مع بعض النقاشات السياسية والإبداع الفني إلى بلد يسوده الخوف والصمت. سجنت الحكومة جميع المنتقدين وجرَّمت الاحتجاجات وكمَّمت أفواه الصحافة، وهو ما أدَّى إلى تلاشي جميع أشكال المعارضة السياسية تقريباً، بحسب نيويورك تايمز.
الفنان المصري ياسر جلال في دور السيسي/ منصات التواصل
في الوقت نفسه، سيطرت الحكومة على صناعة الدراما والسينما في مصر وكثيراً ما تتدخل بغرض اختبار ردة فعل الرأي العام تجاه موضوعات حساسة سياسياً.
لكن لم يسبق أن وصل أي نظام حاكم في مصر إلى هذا الحد من التدخل؛ إذ يقر مسلسل “الاختيار” صراحةً بتعاون وزارة الدفاع في عملية الإنتاج الفني.
ينتقد بلال فضل، وهو كاتب سيناريو مصري بارز، المسلسل قائلاً إنَّ “العدو الحقيقي للدولة المصرية الآن هو أي شخص يقف ضد الدولة. وفي الحرب، يجب أن تستخدم أي سلاح لديك، وهم يستخدمون الآن الدراما سلاحاً”.
كان الموسم الأول من مسلسل “الاختيار” قد عرض قصة حقيقية عن ضابط قوات خاصة يقاتل الجهاديين، في حين تناول الموسم الثاني من المسلسل جهود مكافحة الإرهاب. أما الموسم الثالث فقد سرد الأحداث المحيطة بصعود الرئيس السيسي إلى سدة الحكم في مصر.
هل هذا ما حدث في مصر حقاً؟
اعتمد هذا المسلسل على أسلوب المزج بين الخيال وما يقال إنَّه وقائع حقيقية ويعرض في كل حلقة مقاطع فيديو تذاع لأول مرة سجلتها على ما يبدو المخابرات المصرية سراً لشخصيات تاريخية رئيسية.
وإذا كان بطل مسلسل “الاختيار” هو السيسي، فإنَّ الأشرار هم الإخوان المسلمون. كان الرئيس الأسبق محمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان المسلمين، قد فاز بأول انتخابات رئاسية ديمقراطية في مصر في عام 2012، في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، الذي حكم مصر لمدة ثلاثة عقود كاملة.
لكن فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي القصيرة اتسمت بالاضطرابات المستمرة، الأمر الذي قاد إلى خروج احتجاجات حاشدة طالب فيها ملايين المصريين بالإطاحة به. وأطاح به الجيش بقيادة وزير دفاعه عبد الفتاح السيسي واستولى على السلطة، ثم أقدم السيسي في أغسطس/آب 2013 على استخدام القوة لفض اعتصام نظمه المؤيدون للرئيس محمد مرسي احتجاجاً على هذا الانقلاب العسكري، وهو ما أسفر عن مقتل ما يقرب من 1000 شخص في يوم واحد.
وفي بداية حكم السيسي كان المنتجون الفنيون يتمتعون بنفس القدر من المرونة التي كانت موجودة خلال عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، الذي سمح بممارسة حرية الفن والإبداع في أواخر ستينيات القرن الماضي شريطة تجنب التطرق إلى موضوعات سياسية مثيرة للجدل، مثل مذبحة فض اعتصام مؤيدي مرسي عام 2013.
لكن منذ عام 2017، احتكرت شركة مملوكة لأجهزة الأمن الحكومية البث التلفزيوني في مصر من خلال السيطرة على شركات الإنتاج والقنوات التلفزيونية والمنافذ الإخبارية وإقصاء شركات الإنتاج الأخرى عن الساحة الفنية.
ووفقاً لمصادر مطلعة من داخل أروقة هذه الصناعة، بات محتوى حلقات البرامج المختلفة يُرسل مباشرةً إلى مسؤولين أمنيين لمراجعتها. لم يعد رجال الشرطة الفاسدون والمسيئون يظهرون في الأعمال الفنية وحلَّ محلهم أبطال قوات الشرطة والجيش. مُنع الفنانون المعارضون لهذا النهج الحكومي من العمل في مصر أو تعرضوا لحملات تشهير واتهامات بالتعاطف مع الإخوان المسلمين، كما تقول نيويورك تايمز.
الدراما في خدمة الرئيس
قالت جوي شيا، الباحثة في معهد دراسات الشرق الأوسط والمتخصصة في الشؤون المصرية، إنَّ “حقيقة وجود مثل هذه السيطرة المركزية على وسائل الإعلام في مصر تعني قدرة النظام الحالي على التحكّم في المنتجين والممثلين والكُتّاب وكل مرحلة من مراحل الإنتاج من أجل إنتاج القصة التي يريدون إخبارها عن أنفسهم”.
غادر بلال فضل، كاتب السيناريو، القاهرة متوجهاً إلى نيويورك في عام 2014 بعدما أصبح منبوذاً بسبب انتقاداته انتهاكات الأجهزة الأمنية في مصر ويُقدّم الآن حلقات على يوتيوب حول قطاع صناعة الترفيه والإعلام في مصر.
قال فضل ومنتقدون آخرون إنَّ مسؤولين تنفيذيين من شركة الإنتاج التابعة للدولة قد كثفوا في السنوات القليلة الماضية سيطرتهم على قطاع الإنتاج الفني وباتوا يصدرون أوامر بإنتاج قصص معينة ويتدخلون في الخطوط الدرامية للشخصيات.
كان هذا النهج بداية نشأة مسلسل “الاختيار”. اعتمد هذا المسلسل، بمواسمه الثلاثة حتى الآن، على أسلوب المزج البارع بين الحقيقة والخيال. انتهت الحلقة الأخيرة من الموسم الأول بمشهد تسجيلي حقيقي يعرض اللحظات الأخيرة السابقة لتنفيذ حكم الإعدام بحق إحدى الشخصيات الرئيسية المتهمة بالتورط في سلسلة من الهجمات الإرهابية.
ينوّه صانعو المسلسل في بداية الموسم الثالث: “هذا المسلسل يستند إلى أحداث حقيقية مع تغيير بعض أسماء الشخصيات والأماكن، وهو يسرد جزءاً من تاريخ مصر شاهدناه بأعيننا أو رواه لنا آخرون عاشوا تلك الأحداث”.
يُصوّر الموسم الثالث من المسلسل، والذي يتناول آخر 96 ساعة في حكم محمد مرسي، الرئيس السابق، وشخصيات أخرى من جماعة الإخوان متآمرين مخادعين. في المقابل، يظهر السيسي في صورة رجل عائلة متواضع قادر على التصرّف بحكمة وهدوء تحت الضغط.
حرص المسلسل أيضاً على تأكيد أنَّ التديّن سمة رئيسية للسيسي، لكن هذا التديّن- على عكس مرسي- لا يؤثر في قراراته السياسية. وحسبما جاء على لسان شخصية السيسي في المسلسل في حوار مع شخصية مرسي، فإنَّ قائد البلاد يجب أن يكون وطنياً وليس أي شيء آخر.
قالت جوي شيا إنَّ “المسلسلات أداة قوية للغاية، فهي دراما تلفزيونية تجذب ملايين المشاهدين”.
حظى مسلسل “الاختيار” بمتابعة كبيرة من الجمهور المصري وحصد إعجاب العديد من المشاهدين، لكنه أثار أيضاً سخرية واسعة النطاق على شبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث انتقد المستخدمون ما وصفوه بدعاية حكومية مبالغ فيها.
لم تكن نهاية الموسم الثالث لغزاً مشوّقاً بالنسبة إلى المشاهدين الذين عايشوا تلك الأحداث قبل أقل من 10 سنوات. أطاح الجيش بمحمد مرسي وأرسله إلى السجن، ثم توفي مرسي في وقتٍ لاحق في قاعة محكمة بالقاهرة في عام 2019.
لكن الإخوان المسلمين ظلَّوا العدو الأول لحكومة السيسي، حيث يُتّهم المعارضون السياسيون بصلاتهم بجماعة الإخوان المسلمين أو التعاطف معها. ويتعرَّض أي شخص توجه إليه هذه التهمة للفصل من العمل أو الاعتقال والمحاكمة بتهم تتعلّق بـ “الإرهاب”.
هذا ما حدث مع عبد المنعم أبو الفتوح، القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين والمرشح الرئاسي السابق الذي اعتُقل في عام 2018 وأُدين في مارس/آذار بتهمة عقد اجتماعات سرية مع هذه الجماعة.
من جانبه، قرَّر خالد علي، المحامي الحقوقي الموكّل عن عبد المنعم أبو الفتوح، قبول تعليقات الرئيس التي تؤكد صدق كل ما جاء في مسلسل “الاختيار” وأعلن أنَّه تقدم بطلب لإعادة محاكمة موكله بناءً على ظهور أدلة جديدة تثبت أنَّ موكله قد قطع علاقته بجماعة الإخوان المسلمين قبل فترة طويلة من الأحداث التي يُحاكم بسببها.
وبالنسبة للأدلة المشار إليها، فهي 4 مقاطع فيديو مسجلة سراً عرضها مسلسل “الاختيار”.
عربي بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.