مقدمة:
في حديثي مع أحد الأصدقاء حول موضوع الثقة والتفاؤل بتحرير فلسطين وزوال “دولة إسرائيل”، بادرني صديقي بالسؤال التالي: هل سترث دولة فلسطين، حينها، كافة الواجبات والالتزامات والحقوق عن “دولة إسرائيل” في المعاهدات التي كانت الأخيرة طرفاً فيها؟ وكيف ستفعل دولة فلسطين، حينها، في اتفاقيات أو التزامات دولية هي لا تقبل بها، ولكنها ورثتها بحكم التوارث الدولي عن “دولة إسرائيل”؟ بحسب تلك الفرضية؟ وقد دفعني هذا السؤال لمزيد من البحث والاستقصاء في موضع بالغ التعقيد في القانون الدولي، هو التوريث الدولي أو خلافة الدول.
ومن خلال التأمل والتحليل يتضح بأن الدراسة قائمة على فرضية من ثلاثة عناصر، وهي مترابطة بحكم المنطق، وليست بالضرورة متسلسلة، وهي:
- هزيمة الجيش الإسرائيلي، وسقوط السلطة الإسرائيلية عن الأرض، وهروب قادتها السياسيين والعسكريين.
- الهجرة الإسرائيلية المعاكسة لجزء كبير من اليهود إلى خارج فلسطين خلال وبعد الحرب.
- إعلان المقاومة أو الجهات القائمة على التحرير عن قيام دولة فلسطين على كامل تراب “فلسطين الانتدابية”، أي امتداد الولاية الإقليمية لدولة فلسطين على كامل أراضي فلسطين زمن الانتداب البريطاني.
وفي حال حدوث الفرضية بالشكل السالف بيانه، فلا يوجد جزم بالشكل الذي ستكون عليه موازين القوى الدولية حينها، والتي هي جزء مهم في صناعة المواقف الدولية تجاه ذلك الحدث الكبير، تلك المواقف التي ستوجد وقائع قانونية مهمة في القانون الدولي، ونظراً لعدم وضوح ما هي التغيرات التي ستطرأ عليها، فإن ذلك يوجب تساؤلات جدية بموجب القانون الدولي، منها مثلاً: هل سيعترف العالم بدولة فلسطين بالحدود الجديدة؟ وماذا لو لم يعترف المجتمع الدولي بذلك ورأى بأن السلطة الإسرائيلية الهاربة هي حكومة منفى؟ وبالتالي، هل سيبقى الاعتراف الدولي بالشخصية القانونية لـ”دولة إسرائيل”؟ وهل سيغير ذلك من معطيات التكييف القانوني لمسائل التوارث الدولي؟ وهل سيعترف المجتمع الدولي من خلال العلاقات الثنائية بدولة فلسطين على كامل فلسطين الانتدابية؟ وكيف ستتعامل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الحكومية مع ذلك؟ مع التذكير بالاعتراف الرسمي للأمم المتحدة بـ”دولة إسرائيل” سنة 1949، وبدولة فلسطين سنة 2012؟ ثم ماذا عن الاتفاقيات والمعاهدات المختلفة التي كانت “دولة إسرائيل” طرفاً فيها، هل سيتمّ توريثها لدولة فلسطين؟ وما هي أنواع الاتفاقيات الملزمة وغير الملزمة التي سترثها دولة فلسطين الجديدة؟ وكيف ستسوى الخلافات التي قد تنشأ مع الدول الأخرى الأطراف في المعاهدات جراء ذلك؟ كل هذه أسئلة وإشكاليات تترتب على الفرضية السابقة، وستحاول هذه الدراسة الإجابة أو الوقوف على الأسئلة الأخيرة المرتبطة بموضوع التوارث الدولي، أما الأسئلة الأولى فهي مرتبطة بالموقف الدولي في العلاقات الثنائية، وموقف الأمم المتحدة المرتبط بالتوازنات السياسية الدولية في تلك الظروف، وليس بالتناول القانوني البحت.
وفي هذا المقام يجدر التذكير بأن عناصر الدولة في القانون الدولي هي ثلاثة؛ أرض وشعب وحكومة، وبالنظر إلى المعطيات الحالية على كامل أرض فلسطين الانتدابية، نجد أنها مقسمة إلى إقليمين، الأول قامت عليه “دولة إسرائيل” سنة 1948، وهو يمثل 78% من الأرض، وقد تمّ الاعتراف بعضويتها في الأمم المتحدة في سنة 1949، أما الإقليم الثاني، فهو قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها شرقي القدس، وهي تمثل 22% من الأرض، والتي تمّ احتلالها في سنة 1967، واعترفت بها الأمم المتحدة على أنها دولة فلسطين، وأصبحت دولة مراقب في الأمم المتحدة في سنة 2012، وهذا أوجد واقعاً قانونياً جديداً، ومختلفاً في كلا الإقليمين وفقاً للقانون الدولي.
والفرضية السابقة تقوم على حدوث التغيرات في العنصرين الثاني والثالث للدولة بالدرجة الأولى وهما الشعب والحكومة، واللذان سيؤثران قطعاً على موضوع السيادة على الأرض. فإذا سقطت سلطة “إسرائيل” بالهزيمة العسكرية، وتمّ فرار قادتها سيتأثر تعريف عنصر “الشعب” وخصوصاً إذا ما قامت دولة واحدة على كامل تراب فلسطين الانتدابية، وستكون الأغلبية السكانية هي للفلسطينيين، والذين هم متفوقون قليلاً في هذه السنة 2022، والهوّة ستزداد وستكون لصالح مزيد من التفوق الديموجرافي الفلسطيني، فوفقاً للإحصائيات؛ فالفلسطينيون في الضفة وغزة وأراضي الـ 48 هم أكثر من اليهود في الإقليمين معاً،[2] ومن الطبيعي عند بدء الحرب وربما قبلها، أن تبدأ الهجرة العكسية لليهود من فلسطين، وهذا يعتمد على عوامل كثيرة منها طول الحرب وقساوتها، وموقف المقاومة الفلسطينية والجيوش المشاركة في تعريف المدنيين الإسرائيليين، وموقف السلطات الجديدة لفلسطين من موضوع المستوطنيين اليهود في أراضي الـ 67، والموقف من مسألة تجنيس مَن لم يولد في فلسطين أو هاجر إليها من اليهود؟ وموقف السلطة الجديدة من تطبيق قرارات الشرعية الدولية بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، كل ذلك سيؤثر على تعريف عنصر “الشعب”. فالتغيّر في عنصر السلطة سيرافقه تغيّر في عنصر الشعب بالضرورة، مما سيوجد وضعاً قانونياً جديداً في فلسطين الانتدابية.
تبحث هذه الدراسة في الآثار القانونية المترتبة، على وراثة دولة فلسطين لـ”دولة إسرائيل” بموجب القانون الدولي، وخصوصاً الاتفاقيات والمعاهدات التي كانت “دولة إسرائيل” طرفاً فيها، وذلك بحكم أن فلسطين أصبحت صاحبة السيادة على الإقليم—حينها—الذي زالت عنه “دولة إسرائيل”. كما ستقدم هذه الدراسة عرضاً موجزاً لأهم القضايا المرتبطة بموضوع التوارث الدولي والحالات المختلفة للتوارث وحكم توريث المعاهدات في كل نوع من أنواعها، متبوعاً بتطبيق ذلك على الحالة في فلسطين بعد زوال “دولة إسرائيل”، وقد تمّ تقسيم هذه الدراسة إلى ثلاثة فروع، هي:
الفرع الأول: طبيعة التوراث الدولي في المعاهدات.
الفرع الثاني: مصیر المعاهدات الدولیة في حالات التوارث الدولي.
الفرع الثالث: التطبيق على الحالة في فلسطين الانتدابية بعد زوال “إسرائيل”.
الفرع الأول: طبيعة التوراث الدولي في المعاهدات:
إن نظام التوارث بین الدول یُعدّ أحد أهم مواضیع القانون الدولي العام؛ لما یثیره من إشكالیات في المجتمع الدولي، وقد أبدت الجمعیة العامة للأمم المتحدة General Assembly of United Nations اهتماماً بهذا النظام، فقد طلبت من لجنة القانون الدولي في دورتها السادسة عشر سنة 1961، أن تضع مسألة التوارث الدولي ضمن جدول أعمالها؛ من أجل دراسة الموضوع وتقدیم التوصیات المناسبة بشأنه. مع الإشارة هنا، بأن المنازعات التي تنشأ من خلال المشكلات المتعلقة بالتوارث الدولي ما زالت تشكِّل تحدیات حقیقیة للمجتمع الدولي، لما فیها من خصوصیة وتعقیدات، ولما فیها من مساس بمصالح بعض الدول أیضاً.[3]
ولدراسة موضوع التوارث الدولي أو خلافة الدول في القانون الدولي، لا بدّ من الرجوع لأهم المصادر التي تنظِّم هذا الموضوع، وهي أولاً؛ الاتفاقيات الدولية مثل (اتفاقیة فیینا لخلافة الدول في المعاهدات الدولیة Vienna Convention on Succession of States in respect of Treaties سنة 1978، واتفاقیة فیینا لخلافة الدول في الدیون والممتلكات والمحفوظات Vienna Convention on Succession of States in Respect of State Property, Archives and Debts سنة 1983، واتفاقية فيينا لقانون المعاهدات Vienna Convention on the Law of Treaties سنة 1969)، وثانياً؛ تحليل العمل والممارسة الدولية، وهو ما جرى عليه العمل بين الدول بهذا الخصوص، وثالثاً؛ البحث في الفقه القانوني الدولي.
أولاً: تعريف التوارث الدولي وأسبابه:
التوارث الدولي: هو استبدال سیادة بسیادة أخرى أو حلول دولة محل أخرى بصدد إقلیم معین وأقالیم معینة، وما یترتب على ذلك من آثار قانونیة في النظام القانوني الدولي والنظم الداخلية.[4] كما يعرف التوارث الدولي: بأنه عملیـة حلـول دولـة محل دولة أخرى من ناحیة مسؤولیاتها عـن علاقاتهـا الدولیـة، وانتقـال الحقـوق والالتزامـات الدولیـة مـن الدولة السلف إلى الدولة الخلف، كنتیجة لما طرأ على كیانها الإقلیمي من تغیـرات، الأمـر الـذي ینشـأ عنه تبدل في السیادة على إقلیم الدولة التي طرأت علیها هذه العملیة.[5] وجدير بالذكر، بأن محكمـة العـدل الدولیـة International Court of Justice فـي حكمهـا الصـادر فـي 11/9/1992؛ قد ذكرت أن استخلاف الدول هو إحدى الطرق التي تنتقل بها السیادة.[6]
وأسباب التوارث الدولي هي:
- التنازل: تنازل الدولة السلف للدولة الخلف عن إقليم معين.
- الاندماج أو الاتحاد: اندماج دولتين أو أكثر مكوَّنتين دولة جديدة ذا شخصية قانونية جديدة.
- الاستقلال: هو نيل شعب الدولة الخلف لاستقلاله، بعد أن كان تحت سلطة وسيادة الدولة السلف.
- الانحلال: وهو تفكك الدولة إلى عدة دول كانت مكوَّنة للدولة السلف، والدول الجديدة لها شخصيتها الجديدة المستقلة عن الدولة الأم.
ثانياً: مبدأ الصفحة البيضاء في التوارث الدولي للمعاهدات:
هناك مبدأ راسخ في الفقه الدولي يقول بأن الدولة الخلف، وخصوصاً في حالات مثل الاستقلال، أو انحلال الدولة السلف إلى عدة دول، تكون في حِلٍّ من الالتزامات التي كانت على الدولة السلف، وهذا المبدأ متوافق مع میثاق الأمم المتحدة United Nations Charter، وبشكل خاص مع مبدأ حق الشعوب في تقریر المصیر، وذلك من أجل أن تعطى الدولة المستقلة حدیثاً الحریة الكاملة في تقدیر المدى الذي یمكن فیه أن تسري المعاهدات التي أبرمتها الدولة السلف على إقلیمها، فحق تقریر المصیر یشمل العلاقات الخارجیة لتلك الدولة.[7] وهذا یتفق أيضاً مع اتفاقية فیینا لقانون للمعاهدات لسنة 1969، فالمادة 34 منها تنصّ على أن المعاهدات لا تُنشِئ أي حقوق أو التزامات على الدول الغیر دون رضاها، وهذا يُعدّ مبدأ عاماً.[8] إلا أن هذا مبدأ الصفحة البيضاء قد ترد علیه بعض الاستثناءات وهي:
- المعاهدات التي تحمل صفة إقلیمیة أو عینیة مثل معاهدات الحدود.[9]
- المعاهدات التي تتضمن قواعد عرفیة عامة تحمل التزامات یفرضها القانون الدولي بشكل منعزل عن المعاهدة؛ مثل: معاهدات إبادة الجنس البشري، ومعاهدة القضاء على الفصل العنصري.
- المعاهدات التي تصبح ملزمة للدول الغیر؛ من خلال صیرورتها مع مرور الزمن إلى أعرافٍ دولیة بناء على المادة 38 من اتفاقیة فیینا للمعاهدات لسنة 1969، والتي جاءت بشأن القواعد التي ترد في المعاهدات الدولیة، والتي تصبح مع مرور الزمن قواعد عرفیة ملزمة للدول الأخرى بواسطة العرف الدولي.[10]
ثالثاً: موقف الفقه الدولي من مشكلة التوارث في المعاهدات:
وقد تعدّدت النظريات الفقهية في موضوع التوارث الدولي والتي من أهمها، أولاً؛ النظرية التقليدية والتي تقـوم علـى أن التـوارث الـدولي، یعنـي انتقـال السیادة على إقلیم معین من الدولة السلف إلى الدولة الخلف، كمـا یحصـل عنـد نقـل الملكیـة من شخص إلى آخر في أحكام القانون الخاص. ويؤخذ على هذه النظرية بأنه لا يمكن أن تتماثل حالة وفاة الفرد مع حالة اختفاء الدولة، لأن اختفاء الدولة يكون في النواحي المعنوية، حيث تبقى بعض عناصرها المادية، مثل الإقليم والشعب. أما النظرية الثانية؛ فهي النظرية الإرادية والتي ترى أن الدولة الخلف تكتسب الاختصاصات التي تمارسها على الإقلیم المعني، على أساس أنها أصبحت قادرة على فرض سیادتها على الإقلیم وفقاً للمنهج الذي تملیه إرادتها الخاصة. ويعاب على هذه النظرية بأنها تقوم على فكرة السيادة المطلقة، في حين أنه لا يصح القول بأن الدولة الخلف لا تتأثر بالآثار القانونية التي نتجت عن تصرفات الدولة السلف، وإلا فإن هذا من شأنه إحداث فراغ قانوني. وثالثاً؛ المنهج الاستقرائي والذي تبناه بعض الفقهاء، ویبحث هذا المنهج في الحالات التي ینشأ من خلالها التوارث بشكل منفصل، أي كل حالة لوحدها، والبحث في حیثیاتها بشكل دقیق للوصول إلى الحلول المناسبة لكل حالة. ویرى “الفقیه” (الخبير القانوني) أوكونیل “أن الطریقة الاستقرائیة لیست كافیة للاعتماد علیها في حلّ مسائل الخلاف، وذلك لاعتمادها على طریقة تجمیع الوقائع السابقة”، كما یقول “إن النتائج التي یمكن التوصل إلیها من خلال المنهج الاستقرائي التقلیدي لا یكون لها إلا قوة نفاذ نسبیة”.[11] ورابعاً؛ النظرية الوظيفية والتي تقول بعدم إمكانیة الدولة نقل سیادتها إلى دولة أخرى؛ لأن كل دولة تملك سیادة خاصة بها مستقلة عن سیادة غیرها من الدول، وعلیه، فإن الذي یحصل في مثل هذه الحالات هو توقف استمراریة سیادة الدولة السلف وابتداء سیادة جدیدة للدولة الخلف. ويلاحظ أن فكرة النظرية تذهب إلى عدم إمكان الدولة نقل سيادتها إلى دولة أخرى، وهذا الأمر غير مفهوم في حالة تفكك الدول الكبرى إلى عدة دول! وخامساً؛ نظرية استمرارية الدولة والتي تقول بأن الدولة سوف تبقى بالرغم من التغیرات الدستوریة التي أصابت نظامها الداخلي. إلا أن مبدأ الاستمرارية قد ترد عليه حدود معينة، وخصوصاً إذا كانت معاهدة ما تتشكل على نظام حكم معين وقد تغير هذا الحكم مثلاً، أو معاهدة أبرمتها حكومة غير شرعية، فالقاعدة أن الحكومة الشرعية التالية لا تسأل عن التزامات الحكومات غير الشرعية إلا في حالات محددة.
يقول الـدكتور الغنیمـي: “والحـق إن العثـور علـى نظریـة صـادقة تعكس حقیقة ما یجري علیه العمل الدولي هو مـن الصـعوبة بمكـان، فالـدول لا تریـد لأسـباب اقتصـادیة وسیاسیة، أن تعترف بمبدأ یضر بمصالحها، وتحاول في سبیل ذلك أن تسـتبعد تطبیـق قواعـد محـدودة لحل مشاكلها، ولذلك فقد تكون النظرة الأسلم هي محاولة تحلیل الأحكـام الخاصـة بكـل مجموعـة مـن الأحداث القانونیة على حدى”.[12] وهذا القول يتوافق مع المنهج الاستقرائي إلى حدٍّ معين.
رابعاً: موقف الممارسة الدولیة من مشكلة التوارث:
يجدر التنويه بأن الحديث هنا عن التوارث الكُلّي وليس الجزئي، حيث یتحقـق التـوارث الكُلّي عنـدما تـزول الدولـة السـلف زوالاً تاماً، وبالتالي تزول الشخصـیة القانونیـة لهـا، مثل زوال الشخصیة القانونیة لدولة النمسا والتحاقها بألمانیا سنة 1938، أما التوارث الجزئي والذي يتحقق عندما ینتقل جزء أو أجزاء من إقلیم دولة ما لینضم إلى دولة أخرى ویدخل في سیادتها، فهذا لا یترتب عليه فقدان الدولة السلف لشخصیتها القانونیة كنتیجة لبقائها قائمة.[13] وأغلب الفقه بأنه لا يتم التوارث الدولي في الإقليم الذي انضم للدولة الخلف، بل ينطبق عليه ما ينطبق على الدولة الخلف من التزمات وفقاً للمعاهدات التي هي طرف فيها أصلاً لتمتد على الإقليم الجديد. كما حصل في معاهدة فرانكفورت Treaty of Frankfurt سنة 1871 عندما تنازلت فرنسا لألمانیا عن إقلیمَيْ الألزاس واللورین.
- المعاهدات الشارعة:
وهي الاتفاقيات ذات الطبيعة الشارعة؛ التي تهدف أطرافها من وراء إبرامها إلى سنِّ قواعد دولية جديدة لتنظيم العلاقات بين أشخاص القانون الدولي العام. وقد بیّنت الممارسات الدولیة وجود التوارث في المعاهدات الشارعة وانتقالها من الدولة السلف إلى الدولة الخلف. ومن الأمثلة علیها: الالتزامات التي نشأت عن معاهدة القسطنطینیة لتنظیم موضوع الملاحة في قناة السویس سنة 1888، بالنسبة لمصر باعتبارها إحدى الدول التي كانت تابعة للإمبراطوریة العثمانية.
- معاهدات التحالف:
ویقصد بمعاهدات التحالف هي تلك المعاهدات التي یكون لشخصیة الدولة في انعقادها الاعتبار الأول، بحیث تشكل شخصیة الدولة العنصر الجوهري في كیان المعاهدة.[14] وعرّفها الدكتور الغنیمي على أنها المعاهدات التي تفرض التزامات شخصیة على العاقدین وتوجب علیهم واجبات تبادلیة متقابلة، ومن الأمثلة علیها: المعاهدات السیاسیة، ومعاهدات الضمان، ومعاهدات الحیاد،[15] وقد بيّنت الممارسة والعمل الدولي عدم وجود توارث في هذا النوع من المعاهدات.
ومن الأمثلة على ذلك: عندما ضمّت فرنسا الجزائر إلیها سنة 1830 رأت الولایات المتحدة الأمریكیة أن المعاهدات التي أبرمتها مع الجزائر قد انقضت، وعندما ضمّت الیابان كوریا في سنة 1910، أعلن إمبراطور الیابان أن جمیع المعاهدات التي كانت كوریا قد عقدتها تُعدّ زائلة وأن الإمبراطوریة الیابانیة لا تلتزم بأحكامها.[16]
- المعاهدات الإقلیمیة:
أمــا المقصــود بالمعاهــدات الإقلیمیــة؛ وهــي المعاهــدات التــي ینصــبُّ أثرهــا القــانوني علــى إقلــیم معـین مـن ناحیـة المركـز القانوني، وهـذه المعاهـدات لهـا اسـتقلالیة عـن الشخصـیة القانونیـة للدولـة السـلف. وقد أكَّدت الممارسات والسوابق الدولیة على توارث المعاهدات الإقلیمیة، مثل المعاهدات التي تتعلق بالمواصلات وحریة الملاحة في الأنهار والقنوات الدولیة، واستغلال المیاه والمراعي، والمعاهدات الخاصة بالصید، ومعاهدات الحدود. مثلما ورثـت فنلنـدا التزامهـا بالاتفاقیـة الدولیـة التـي عقـدتها مـع روسـیا سنة 1856 مـن أجـل إبقـاء جزیرة ألاند في حالة الحیاد وعدم القیام بتسلیحها، بعـدما انتقلـت الجزیـرة إلـى السـیادة الفنلندیـة بموجـب اتفاقیة جنیف Geneva Convention لسنة 1921.[17]
الفرع الثاني: مصیر المعاهدات الدولیة في حالات التوارث الدولي:
أولاً: حالة انتقال جزء من إقلیم الدولة:
في حالة انتقال جزء من إقلیم دولة ما إلى إقلیم دولة أخرى، فإن المعاهدات الدولیة التي عقدتها الدولة السلف سوف تظلُّ ساریة في حقها؛ باعتبار أنها ظلَّت محتفظة بشخصیتها القانونیة؛ بالرغم من خسارتها لجزء من إقلیمها الوطني، وینتهي سریان تلك المعاهدات بحق الإقلیم الذي انفصل، والذي التحق بدولة أخرى وخضع لسیادتها،[18] وذلك عندما تتوسع دولة معینة على حساب دولة أخرى، وقد یكون هذا الالتحاق الجزئي كما أسماه لویس لوفور Louis Lefort، اختیاریاً أي باتفاق دولي بین الأطراف المعنیة؛ كما في تنازل إیطالیا عن مقاطعتي نیس وسافو لحساب فرنسا في سنة 1860، وقد یكون الانتقال أو الالتحاق إجباریاً؛ كما حدث عندما استولت ألمانیا على إقلیمَيْ الألزاس واللورین سنة 1871.[19] وعندما یدخل هذا الإقلیم المنتقل في سیادة دولة أخرى قائمة سوف یكون خاضعاً لنظام هذه الدولة الجدیدة، وبالتالي، فإن جمیع الاتفاقیات الدولیة التي كانت الدولة الجدیدة، الخلف، خاضعة لها، یخضع لها الإقلیم المنتقل لسیادتها، وتكون ساریة على هذا الإقلیم بشكل تلقائي.[20]
ثانياً: حالة اتحاد الدول:
إن انـدماج الـدول فـي دولـة واحـدة یتطلـب أن یكـون هنـاك إرادة حـرة واتفـاق بـین الـدول المتحـدة، والأمثلـة التـي بیّنتهـا الممارسـات الدولیـة علـى هـذه الحالـة كثیـرة ومتعـددة، وأمـا اتفاقیة فیینا للخلافة في المعاهدات فقد أفردت المواد من 31 إلى 33 بخصوص هذه الحالة، والرأي الراحج لدى لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة هو استمراریة المعاهدات التي كانت قد عُقِدت قبل تحقق حالة الاتحاد؛ وبالتالي، انتقال كافة الحقوق والواجبات التي نتجت عن الالتزامات الدولیة السابقة للدولة السلف، إلى الدولة الجدیدة المتكوِّنة نتیجة الاتحاد الحاصل، وذلك ضمن النطاق الإقلیمي الذي أحاط بالمعاهدة وقت انعقادها.[21]
عندما توحَّدت ألمانیا بموجب الدستور الألماني لسنة 1871، رأى الفقه الدولي أن هذه الوحدة كان لها تأثیر كبیر على المعاهدات الدولیة التي سبق للدول الألمانیة أن عقدتها قبل أن تتمّ الوحدة بینها، نتیجة لذلك، فقد استمرت المعاهدات السابقة نافذة وملزِمة للدولة الجدیدة وأصبحت الدولة الجدیدة وارثة لتلك المعاهدات، ولكن ضمن حدود النطاق الإقلیمي الذي ساد عند إبرامها، وقد استمرت هذه المعاهدات بالنفاذ إلى أن ارتأت الدولة الألمانیة الجدیدة تعارضها مع الممارسات التشریعیة للدولة الفیدرالية.[22]
ثالثاً: حالة الدولة حدیثة الاستقلال:
في حالة الاستقلال سوف تكون هذه الدولة الجدیدة في حلٍّ تامٍّ من المعاهدات التي أبرمتها الدولة التي كانت تابعة لها أو كانت جزءاً منها؛ باستثناء المعاهدات التي تنصبّ على الإقلیم ذاته، كما في معاهدات الحدود، فهذه المعاهدات تظلّ قائمة ومستمرة وتلتزم بها الدولة الناشئة حدیثاً، وذلك لأن هذه المعاهدات تنصبّ وبشكل مباشر على الإقلیم الذي أصبح خاضعاً لسیادة الدولة الجدیدة،[23] وبالتالي، فیكون للدولة الجدیدة الحق في أن تُكیّف وضعها الجدید بالطریقة التي تراها متناسبة مع مصالحها، باعتبارها متمتعة بسیادة كاملة على أراضیها. وهذا ما یعرف بمبدأ “الصفحة البیضاء “slate clean. [24]
أما عن موقف العمل الدولي فهناك العديد من الأمثلة المختلفة، فهناك دول رفضت توارث المعاهدات، ومن الأمثلة:
- عندما استقلت دول أمریكا اللاتینیة عن إسبانیا في بدایة القرن التاسع عشر، أعلنت أنها غیر مقيّدة بأي التزامات تفرضها الاتفاقیات التي كانت إسبانیا مرتبطة فیها.
- عندما استقلت فنلندا عن روسیا سنة 1919، أكّدت أنها في حلٍّ تامٍّ من أي التزامات ناشئة عن الاتفاقیات الدولیة التي كانت روسیا طرفاً فیها. وعلى الأرحج فتلك الاتفاقيات لم تشمل الاتفاقيات الاقليمية أو لم تكن موجودة من بينها.
إلا أن ممارسات دولیة أخرى بیّنت التزام الدول الخلف، بأحكام المعاهدات التي أبرمتها الدول السلف، ومن الأمثلة:
- عند رفع الحمایة عن مصر وإعلان استقلالها في سنة 1922، تمّ الأخذ بأساس أن مصر ما زالت مرتبطة بالأحكام التي فرضتها معاهدات الامتیاز الأجنبیة التي كانت الدولة العثمانیة قد عقدتها مع دول أخرى.
- عندما انفصلت آیسلندا عن الدنمارك سنة 1944، رأت أن المعاهدات التي عقدتها الدنمارك قائمة وتنطبق على آیسلندا.[25]
أما موقف اتفاقیة فیینا للخلافة في المعاهدات الدولیة للسنة 1978، ففي حالة الاستقلال فرّقت اتفاقیة فیينا لخلافة الدول لهذه الحالة بين المعاهدات الثنائیة والمعاهدات متعددة الأطراف. وقد عالجت المادة 24 من اتفاقیة فیینا لخلافة الدول في المعاهدات، حالة التوارث في المعاهدات الثنائیة بالنسبة للدول حدیثة الاستقلال، حیث إن الدولة الحدیثة الاستقلال سوف تبدأ حیاتها الدولیة خالیة من أي التزامات دولیة تُفرض علیها، وعلیه، فسوف تكون مخیّرة في إبقاء أو إنهاء المعاهدات الثنائیة السالفة وفقاً للمصلحة الوطنية؛ لكن المادة 24 من اتفاقیة فیینا لا تعطي الدولة الخلف الحق بمفردها في الإبقاء على نفاذ المعاهدة الثنائیة، إذا ما كان للدولة الأخرى الطرف في المعاهدة الثنائیة رأي مخالف لذلك.[26]
أما في حالة وجود معاهدة متعددة الأطراف سارية المفعول فيما يتعلق بخلافة الدول؛ فبحسب المادة 27 من اتفاقية خلافة الدول، فيمكن للدولة المستقلة حديثاً أن تُعلن عن نيّتها في أن يتمّ تطبيق المعاهدة مؤقتاً فيما يتعلق بأراضيها، عندها تنطبق تلك المعاهدة مؤقتاً بين الدولة المستقلة حديثاً وأي طرف يوافق صراحةً على ذلك أو بسبب سلوكها تُعدّ موافقة عليها، ومع ذلك مطلوب موافقة جميع الأطراف على التطبيق المؤقت.
رابعاً: حالة التفكك أو الانحلال:
في حالة الانحلال أو التفكك تعمد الأمم المتحدة إلى تحدید أي من الدول التي ظهرت جراء عملیة الانحلال أو التفكك الحاصلة في دولة معینة تكون خلفاً للدولة السلف، وهذا ما حصل عندما رأت أن جمهوریة الهند المستقلة تُعدّ امتداداً لدولة الهند القدیمة، وبالتالي، فما یكون علیها سوى إرسال أوراق اعتماد جدیدة إلى الأمم المتحدة، بینما قررت بأن باكستان علیها إرسال طلب بالانضمام إلى المنظمة على اعتبار أنها عضو جدید. كما رأت الأمم المتحدة جمهوریة روسیا الاتحادیة وریثة للاتحاد السوفییتي السابق.[27]
وكقاعدة عامة في أحكام التوارث الدولي، فإنه في حالة الانحلال أو التفكك سوف تستمر المعاهدات الدولیة السالفة وتظلّ نافذة وساریة على الدولة أو الدول الخلف؛ التي تظهر من وراء هذا التفكك الذي حصل في الدولة السلف. وهذا ما نجده في الموقف الذي بیّنته لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة.[28] وقد جــاءت المــادة 34 مــن اتفاقیــة فیینــا لخلافــة الدول فــي المعاهــدات لتتنــاول حالــة التــوارث الـدولي الحاصـل جـراء انفصـال جـزء مـن إقلـیم الدولـة أو انحـلال الدولـة، وقـد أخـذت الاتفاقیـة بمبـدأ الاســتمراریة فــي المعاهــدات التــي أبرمتهــا الــدول الســلف، علــى الــدول الخلــف فــي حالــة انفصــال أو انحـلال الدولـة السـلف إذا كانـت معاهـدات سـاریة قبـل حـدوث التوارث.
وخلاصة القول، أنه في الحالة الأولى، حالة انتقال جزء من إقلیم دولة ما إلى إقلیم دولة أخرى، سوف ینتهي سریان المعاهدات بحق الإقلیم الذي انفصل، وستصبح المعاهدات التي تلتزم بها الدولة الخلف ساریة على هذا الإقلیم. أما في الحالة الثانية، اتحاد الدول، فتستمر المعاهدات التي كانت قد عقدت قبل تحقق حالة الاتحاد. أما في الحالة الثالثة، استقلال الدول، سوف تكون هذه الدولة الجدیدة في حلٍّ تامٍّ من المعاهدات التي أبرمتها الدولة السلف، باستثناء المعاهدات التي تنصبّ على الإقلیم ذاته كما في معاهدات الحدود. أما الحالة الرابعة، التفكك أو الانحلال، سوف تستمر المعاهدات الدولیة السالفة وتظلّ نافذة وساریة على الدولة الخلف، وقد نظمّت اتفاقية فيينا للخلافة في المعاهدات الدولیة للسنة 1978 طرق تسوية المنازعات التي تنتج عن تطبيقها، وهي:
- التفاوض.
- التوفيق.
- اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.
- التراضي.
الفرع الثالث: التطبيق على الحالة في فلسطين الانتدابية بعد زوال “إسرائيل“:
أولاً: التكييف القانوني لحالة التوارث في فلسطين:
الحالة في فلسطين في حال التوارث الدولي ستكون حالة فريدة في القانون الدولي، فهي لا تشبه أي حالة من حالات خلافة الدول الأربعة المذكورة أعلاه، مع أنها قد تتشابه في بعض الجوانب، فهي ليست حالة استقلال بالمعني الكامل، فلا بدّ للاستقلال من استقلال سيادة لشعب أو إقليم عن سيادة لدولة أخرى مع بقاء الأخرى، ولكن الحاصل هو زوال كامل لسلطة “إسرائيل” ودولتها، ولكنها في الوقت نفسه تُعدّ حالة زوال لسلطة الاحتلال الأجنبي، وبالذات في إقليم الـ67 . ومن جانب آخر فكيف سيعامل المجتمع الدولي والقانون الدولي مع مسألة بسط السيادة الفلسطينية على إقليم الـ48 بعد زوال “دولة إسرائيل”؟ مع أن المجتمع الدولي يعترف بدولة فلسطين على حدود أراضي الـ67 ؟
ومن ناحية ثالثة، فالحالة في فلسطين لا تشبه حالة انحلال الدول فقط لمجرد زوال الشخصية القانونية لـ”دولة إسرائيل”، حيث يبقى عنصرين مهمين من عناصر الدولة وهما الإقليم والشعب، ولا تنشأ هنا دولة أو دول جديدة نتيجة انحلال الدولة السلف، ففلسطين موجودة كشخصية قانونية أصلاً، وقد تحرر إقليمها المحتل (إقليم الـ67 )، وبسطت سيادتها على إقليم الـ 48. ومن ناحية رابعة، فالحالة ليست حالة اتحاد دول، فالاتحاد يتطلب إرادة وقبول من الحكومتين والشعبين، فمجرد توحيد الإقليمين لا يعني انطباق حالة اتحاد الدول.
وعليه، فسيكون هذا الوضع فريداً من نوعه في التوارث الدولي، والذي قد ينشأ عنه بعض الإشكاليات في التكييف القانوني لوضع فلسطين في القانون الدولي، وسيفتح النقاش واسعاً في مسألة ترقية مقعدها في الأمم المتحدة من دولة مراقب إلى دولة عضو، وما هو التكييف القانوني لضمها لإقليم الـ48 ؟ والذي كانت تقوم عليه دولة عضو في الأمم المتحدة هي “إسرائيل”، فلو قيل إن الإقليم هو إقليم متنازع عليه؛ فما هو الوضع القانوني للشعب الإسرائيلي؟ هل هو شعب تحت الاحتلال؟ أم أقلية في دولة فلسطين الجديدة؟ وهل كل الشعب الإسرائيلي سيكون له الوضع القانوني نفسه؟ وبالتالي، فبمجرد زوال “دولة إسرائيل” عن إقليم الـ48 لا يُنهي المشكلة، فمصير بقية اليهود ممن لم يهربوا أو يعودوا لبلدانهم التي قدموا منها سيكون تحدياً أمام السلطة الجديدة وحكومة دولة فلسطين.
وعليه، فلا بدّ من مشاركة فلسطيني أراضي الـ48 في المطالبة في أعمال المقاومة ضدّ “دولة إسرائيل”، أو على الأقل المشاركة في المطالبة بالاستقلال الوطني، إي أن جزءاً أصيلاً من شعب الدولة السلف “إسرائيل” كان يطالب بإعادة الوضع لما كان عليه زمن الانتداب البريطاني قبل سنة 1948، وإعادة توحيد الإقليمين المكونين لدولة فلسطين في دولة واحدة، وقد يتطلب هذا إجراء استفتاء شعبي في إقليم الـ48 ، أو كلا الإقليمين للموافقة على إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه زمن الانتداب البريطاني، وتوحيد الإقليمين تحت دولة فلسطين، الأمر الذي يتطلب التمهيد بسنِّ قانون عودة كافة اللاجئين الفلسطينيين وأبنائهم وأحفادهم، بالإضافة إلى المهجرين والمبعدين من مدن وبلدات وقرى الـ48 ، قبل الاستفتاء وتقرير الحكومة والدولة الجديدة مصير اليهود المستوطنين الذي جيء بهم من أسقاع الأرض، وأُعطوا الجنسية والإقامة في أرض فلسطين.
ثانياً: مصير المعاهدات في حالة التوارث في فلسطين:
أما عن آثار خلافة الدول في المعاهدات التي كانت “دولة إسرائيل” طرفاً فيها، باعتبارها الدول السلف، وحلول دولة فلسطين محلها باعتبارها الدولة الخلف، فيمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات وفقاً إلى نوع المعاهدات.
- المعاهدات الشارعة:
وهي المعاهدات التـي يهدف أطرافها من وراء إبرامها إلى سنِّ قواعد دولية جديدة تنظم العلاقات بين أشخاص القانون الدولي، مثل اتفاقيات جنيف الأربعة لسنة 1949، واتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية The Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide (CPPCG) لسنة 1948، واتفاقيات لاهاي Hague Conventions لسنة 1907 وسنة 1954، ومثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد United Nations Convention against Corruption، أو اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، أو اتفاقية الأمم المتحدة قانون البحار United Nations Convention on the Law of the Sea، أو الاتفاقية المتعلقة بقانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية Convention on the Law of Non-Navigational Uses of International Watercourses، أو اتفاقية التنوع البيولوجي Convention on Biological Diversity، أو اتفاقية باريس Paris Agreement بشأن تغيّر المناخ، وغيرها،[29] فهنا لا بدّ من النظر والتدقيق، فإن كانت دولة فلسطين طرفاً في هذه الاتفاقية فعند ذلك لا معنى للتوارث في هذه المعاهدات التي فلسطين طرف فيها أصلاً، فلا داعي لأن ترث “دولة إسرائيل” فيها، فلا يمكن أن يتمّ تمثيلها في المعاهدات مرتين، بمعنى أنه بزوال الشخصية القانونية لـ”دولة إسرائيل” تبسط دولة فلسطين ولايتها على الإقليم الجديد (إقليم الـ 48)، ويسري عليه ما يسري على دولة فلسطين بالمفهوم الدولي الحالي (إقليم الـ 67).
أما إن كانت الدولة السلف، “إسرائيل”، طرفاً في معاهدة دولية شارعة ولم تكن فلسطين الدولة الخلف طرفاً فيها فالرأي الأرجح أنه يتمّ التوارث الدولي في هذا النوع من المعاهدات، مثلما حصل بعد زوال الشخصية القانونية لدولة النمسا والتحاقها بدولة ألمانيا في سنة 1938، أما إن كانت دولة فلسطين طرفاً في معاهدات شارعة ولم تكن “دولة إسرائيل” طرفاً فيها في تاريخ التوارث الدولي، فهنا توسع دولة فلسطين التزاماتها بالاتفاقية التي هي طرف فيها على الإقليم الجديد.
وعلى الأرجح بأنه لن تكون لدى دولة فلسطين مشكلة فيها، مع احتفاظ فلسطين بالحق في التحفظ على بعض المواد التي تتعارض مع مصالحها أو قيمها. فيمكنها وبحسب نصّ المادة 21 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لسنة 1978، أن تصوغ تحفظاً على بعض المواد في المعاهدات ورثتها بحكم خلافة الدول، ويجوز لها الموافقة على الالتزام بجزء من بعض المعاهدات، أو الاختيار بين أحكام مختلفة وفقاً لما تراه في مصلحتها، ويمكنها لأجل ذلك أن تحيل الأخطار بالخلافة أو التحفظ على بعض المواد إلى الوديع الذي يحفظ المعاهدة، أو إلى بقية الأطراف المتعاقدة. أو إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وبالمجمل فدولة فلسطين لها الحق في التحفظ أو رفض أيّ التزامات يمكن أن تمسّ بسيادتها أو مواردها الطبيعية، وهذا ما نصّت عليه المادة 13 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول “ليس في هذه الاتفاقية ما يؤثر على مبادئ القانون الدولي؛ التي تؤكد على السيادة الدائمة لكل شعب وكل دولة على ثرواتها ومواردها الطبيعية”. وربما تكون هناك معاهدات تحتاج دولة فلسطين لدراستها وتحديد موقفها منها، فهنا لها أن تقوم بإعلانٍ من طرف واحد عن إحدى أمرين؛ إما تعليق العمل بالاتفاقية لحين الانتهاء من الدراسة، أو تطبيق الاتفاقية بشكل مؤقت لحين اكتمال دراستها وتحديد الموقف منها. وفي حال نشأت إشكاليات مع الدول الأطراف الأخرى نتيجة لذلك، فيمكن حلّها بالطرق الديبلوماسية.
- معاهدات التحالف:
وهي المعاهدات التي يكون لشخصية الدولة في انعقادها الاعتبار الأول، مثل المعاهدات السياسية ومعهدات الضمان أو الدفاع المشترك أو الحياد أو التحكيم، فهذا النوع من المعاهدات لا يوجد فيها توارث دولي، فلن ترث دولة فلسطين اتفاقية الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة أو التعاون مع الاتحاد الأوروبي، أو أيّ اتفاقية صداقة مع أي دولة كانت وهكذا.
ولكن قد تنشأ بعض المشكلات في بعض المعاهدات؛ مثل معاهدات الشراكة الاقتصادية أو العسكرية، أو معاهدات الديون والتي أوجدت التزامات مالية وعينية، فهذه يتمّ تصفيتها بالتراضي بين دولة فلسطين والدول الأخرى، أو اللجوء لطرق حلّ المشكلات الأخرى.
- المعاهدات الإقليمية:
وهي التي ينصبّ أثرها على إقليم معين، مثل اتفاقيات ترسيم الحدود، أو تقاسم المياه الاقتصادية في البحار أو الملاحة البحرية، أو اتفاقيات القنوات المائية، أو تقاسم مياه البحيرات والأنهار للدولة المطلة عليها، أو غيرها، فقد بيّن العمل الدولي وكذلك اتفاقية فيينا للخلافة في المعاهدات لسنة 1978 أن مثل هذا النوع من الاتفاقيات يتمّ التوارث الدولي فيها، على اعتبار أن أثرها القانوني ینصــبّ علــى إقلــیم معـین، وأن لها اسـتقلالیة عـن الشخصـیة القانونیـة للدولـة، وعليه، فدولة فلسطين سترث اتفاقيات ترسيم الحدود واتفاقيات الملاحة الدولية والقنوات المائية وكذلك المعاهدات الخاصة بالصيد إن وجدت. فبحسب المادة 11، “لا يوجد تأثير لخلافة الدول في حدّ ذاتها على (أ) حدود منشأة بموجب معاهدة؛ أو (ب) الالتزامات والحقوق المنصوص عليها في معاهدة والمتصلة بنظام الحدود”. أي تبقى الالتزامات وتنتقل للدولة الخلف، ولكن الأمر على العكس تماماً فيما يخصّ القواعد العسكرية فلا ينطبق فيها التوارث الدولي. فبحسب المادة نفسها 12/3 لا تنطبق أحكام التوارث على الالتزامات التعاهدية للدولة السلف على إنشاء قواعد عسكرية أجنبية على الأراضي التي تمّ توارثها. وبالتالي، فلو كان للولايات المتحدة الأمريكية أو أيّ دولة أخرى قواعد عسكرية وفقاً لاتفاقية سارية المفعول مع “دولة إسرائيل” فلا يتمّ فيها التوارث الدولي، وتكون دولة فلسطين في حِلٍّ منها.
فالأرجح بأن دولة فلسطين سترث اتفاقيات ترسيم الحدود عن “دولة إسرائيل” مع كل من مصر والأردن، وكذلك اتفاقيات تقاسم المناطق الاقتصادية شرقي البحر الأبيض المتوسط مع اليونان ومصر وقبرص، وكذلك حقّ المرور والملاحة في خليج العقبة، وكذلك المواد الخاصة بتقاسم نهر الأردن ضمن اتفاقية وادي عربة، وهكذا. وقد تنشأ المشكلات من رغبة دولة فلسطين في إحداث أيّ تغيرات فيها أو التحفظ على بعض المواد.
وفي جميع الحالات يمكن اللجوء لحلِّ المشكلات إلى التفاوض الثنائي أو التراضي أو الطرق الديبلوماسية، أو قد يتدخل طرف ثالث للتوفيق أو الوساطة بين دولة فلسطين والدولة أو الدول الأخرى، أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.
الخلاصة:
وفي الختام، فموضوع التوارث الدولي هو من الموضوعات المعقدة في القانون الدولي، والتي يرد فيها اختلافات بيّنة في الفقه الدولي، وكذلك في الممارسة الدولية، وهي تشكل تحدياً أمام المجتمع الدولي لتنظيمها وضبطها في قواعد واضحة، ومع الإقرار بأن اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات قد أرست الأساس لذلك، لكنها اتفاقية لا تحظى بقبول إلا عدد قليل من الدول، وهي تحتاج لتطوير وتعاقد دولي أوسع. وما بين رغبة الدول المستقلة حديثاً بعدم تقييدها بأيّ التزامات لا ترغب بها، وما بين حرص الدول الأخرى في المعاهدات بعدم الإضرار بمصالحها، وما بين ميل المجتمع الدولي للدفع نحو الاستقرار في الالتزامات الدولية وعدم الإخلال بها، يمكن من خلال ذلك كلّه إيجاد سبيل بالحكمة والديبلوماسية النشطة لضمان عدم الإضرار بأي من مصالح أحد، سواء الدولة الخلف أم الدول الأطراف الأخرى في المعاهدات.
ولا شكّ أن زوال “دولة إسرائيل” وبسط دولة فلسطين لسيادتها على إقليم الـ 48 سيوجد وضعاً قانونياً فريداً ومعقداً، كما أن موضوعات التوارث الدولي في فلسطين قد توجد إشكاليات قانونية مع الدول الأخرى الأطراف في المعاهدات، وإن دراسة مسبقة لجميع المعاهدات التي تشارك بها “دولة إسرائيل” سيعطي وقتاً كافياً لتحديد الموقف من كل واحدة منها، وكذلك تقديم الحلول المقترحة أو الإجراءات المطلوبة وفقاً لكل حالة.
من الراجح أن دولة فلسطين سترث الاتفاقيات الإقليمية مثل اتفاقية ترسيم الحدود عن “دولة إسرائيل” مع كل من مصر والأردن، وكذلك اتفاقيات تقاسم المناطق الاقتصادية شرقي البحر الأبيض المتوسط مع اليونان، وكذلك حقّ المرور والملاحة في خليج العقبة، وكذلك تقاسم مياه البحر الميت ونهر الأردن، وكذلك الحدود البحرية في البحر الأحمر وهكذا. وكذلك سترث الاتفاقيات الشارعة، أما الاتفاقيات التحالف فلن يتمّ فيها توارث للالتزامات وفقاً للمعاهدات.
التوصيات:
- توصية إلى الجهة القائمة على التحرير؛ بتشكيل لجنة خبراء قانونيين تعمل من وقت مبكر على دراسة كافة الاتفاقيات والمعاهدات والمنظمات التي انضمت لها “دولة إسرائيل”، ورفع التوصيات بشأن كل واحدة منها، وتحديد المعاهدات التي ستورّث لدولة فلسطين باعتبارها الدولة الخلف، وخصوصاً المعاهدات المرتكزة على الإقليم والمعاهدات الشارعة، وتحديد أيّ ملاحظات عليها، وتقديم اقتراحات بخصوص الموقف من كل معاهدة.
- توصية لجهة التحرير بإلغاء الاعتراف الفلسطيني بـ”دولة إسرائيل”، إن لم يكن حدث قبل بدء حرب التحرير، لنفي وإبطال الآثار القانونية التي ترتب عليه.
- تجهيز صيغة الإعلان الفلسطيني الخاص ببسط السيادة الفلسطينية على إقليم أراضي الـ 48، بعد عمليات التحرير، والذي من المفترض أن يحدد فيه الطبيعة القانونية وأسانيد السيادة الفلسطينية على الإقليم، ثم الموقف من الاتفاقيات والمعاهدات المختلفة، سواء باستمرار العمل بها، أم وقف العمل بها، أم التطبيق المؤقت، أم الإعلان عن بعض التحفظات على أي منها، وفقاً لقاعدة تغيّر الظروف التي نظمتها اتفاقية فيينا لسنة 1969 من قانون المعاهدات.
- تعلن جهة التحرير عن سلسلة قوانين انتقالية يتمّ تجهيزها مسبقاً، تشمل قانون العودة لفسطين، وإيقاف العمل بما يتناقض معها من قوانين، بالإضافة إلى قوانين خاصة بالجنسية الفلسطينية، وقانون الأراضي والعقارات، وقوانين القضاء والأمن، وقانون الإدارات المحلية، وإلغاء أو إيقاف العمل بكافة القوانين التي تتعارض معها.
- إرسال مذكرة للأمين العام للأمم المتحدة، تشتمل على أسانيد السيادة الفلسطينية على إقليم الـ 48، والموقف من الإسرائيليين المدنيين المتبقين في فلسطين، وإبلاغه بخلافة دولة فلسطين لـ”دولة إسرائيل” في المعاهدات الشارعة، والمعاهدات الإقليمية، ومطالبته بإبلاغ ذلك لجميع الدول الأطراف الأخرى في المعاهدات، والإبلاغ عن أيّ تحفظات لفلسطين على أيٍّ من تلك المعاهدات، وفقاً لأحكام اتفاقية فيينا الخاصة بخلافة الدول لسنة 1978.
[1] حاصل على دكتوراه في القانون الدولي، ودكتوراه في حقوق الإنسان. يشغل حالياً منصب رئيس الوحدة القانونية بمؤسسة قدسدار التركية في إسطنبول، وله العديد من الكتب والبحوث المحكّمة في المجلات العلمية.
[2] محسن محمد صالح (محرر)، “ملخص التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2020-2021،” مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2022.
[3] شریف عبد الحميد رمضان، الاستخلاف الدولي وأثره على المعاهدات الدولیة (القاهرة: دار النهضة العربیة، 2011)، ص 2.
[4] محمد سامي عبدالحمید، أصول القانون الدولي العام (الإسكندرية: منشأة الإسكندریة، 1998)، ص 1.
[5] علي سبتي بطي، “التوارث الدولي في المعاهدات الدولیة،” رسالة ماجستیر في القانون، كلیة الحقوق، جامعة الشرق الأوسط، عمّان، 2015، ص 31.
[6] انظر: حكم محكمة العدل الدولیة في 11/9/1992 في قضیة النزاع المتعلقة بالحدود البریة، والجزریة، والبحریة (السلفادور/ الهندوراس: مع تدخل نیكاراغوا).
[7] رشاد عارف السید، القانون الدولي العام في ثوبه الجدید (عمّان: دار وائل للطباعة والنشر والتوزيع، 2005)، ص 1.
[8]معاهدة فیینا للخلافة الدولیة لعام 1978.
[9] محمد المجذوب، محاضرات في القانون الدولي العام (بیروت: الدار الجامعية، 1995)، ص 106.
[10] معاهدة فیینا للخلافة الدولیة لعام 1978.
[11] حامد سلطان، وعائشة راتب، وصلاح الدين عامر، القانون الدولي العام (القاهرة: دار النهضة العربية، 1987)، ص 750.
[12] محمد طلعت الغنیمي، الأحكام العامة في قانون الأمم، دراسة في كل من الفكر العربي والاشتراكي والإسلامي، قانون السلام (الإسكندریة: منشأة المعارف، 1970)، ص 8.
[13] Amos S. Hershey, ”The Succession of States,” The American Journal of International Law, Cambridge University Press, United Kingdom, vol. 5, n. 2, 1911, p. 288, http://www.jstor.org/stable/2186719?seq=4
[14] حسن الجلبي، القانون الدولي العام (بغداد: مطبعة شفیق، 1964)، ص 385.
[15] محمد طلعت الغنیمي، بعض الاتجاهات الحدیثة في القانون الدولي العام (الإسكندریة: منشأة المعارف، 1984)، ص 838.
[16] D.P. O’Connell, the law of state succession, (United Kingdom: Cambridge at the University Press, 1956), p. 273.
[17] علي سبتي بطي، “التوارث الدولي في المعاهدات الدولیة،” ص 88-89.
[18] عبد العزیز محمد سرحان، القانون الدولي العام (القاهرة: دار النهضة العربیة، 1969)، ص 497.
[19] لویس لوفور، الحقوق الدولیة العامة، ترجمة سامي المیداني (دمشق: مطبعة بابیل إخوان، 1932)، ص 5.
[20] United Nations, Year book of the international law commission: 1972, A/CN.4/SER.A/1972 /Add. 1, vol. 2, New York, 1974, p. 3, https://legal.un.org/ilc/publications/yearbooks/english/ilc_1972_v2.pdf
[21] Ibid.
[22] Stefan Oeter, German Unification and State Succession, 1991, p. 351, https://www.zaoerv.de/51_1991/51_1991_2_a_349_383.pdf
[23] رشاد عارف السید، القانون الدولي العام في ثوبه الجدید، ص 165.
[24] حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، ط 6 (القاهرة: دار النهضة العربیة، 1976)، ص 655.
[25] المرجع نفسه.
[26] شریف عبد الحميد رمضان، الاستخلاف الدولي وأثره على المعاهدات الدولیة، ص 255.
[27] حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، ص 654.
[28] غسان الجندي، قانون المعاهدات الدولیة (عمّان: الجامعة الأردنية، 1988)، ص 178.
[29] كما أن دولة فلسطين هي طرف في أكثر من 150 اتفاقية ومنظمة دولية، استطاعت الانضمام لها بعد الاعتراف بفلسطين كدولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 2012، وتمّ ترقية مقعدها لتصبح دولة مراقب بعد أن كانت كيان مراقب.
د. سعيد طلال الدهشان – مركز الزيتونة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.