تطل الغرفة الواسعة في الطابق الثالث من مبنى الاستخبارات السعودية العامة، في شارع 3678 بمنطقة النخيل في الرياض، على مركز النخيل الطبي من جهة والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي المتاخمة لهيئة الإعلام المرئي من الجهة الآخرى.
وفي هذه الغرفة تتناوب ثلاث مجموعات على العمل، ثماني ساعات لكل مجموعة تتألف من أربعة موظفين. أما وظيفتهم فهي التعايش مع الملل في انتظار ذلك الصوت المزعج الذي تصدره الحواسيب حين تصلها رسالة إلكترونية. رسالة ينتظرها 12 موظفاً يصلون الليل بالنهار، لتحويلها بنقرة زر إلى المسؤول عن غرفتهم (غرفة لبنان) فيحوّلها بدوره إلى المسؤول الأعلى منه، ليقرّر إذا ما كانت تستحق إيصالها إلى المسؤول عن المبنى: خالد بن علي الحميدان (رئيس الاستخبارات السعودية الذي تقول سيرته الذاتية إنه تخصّص في العدالة الجنائية من جامعة Saginaw Valley State الأميركية، فيما يؤكد الموقع الإلكتروني للجامعة أن كل ما لديها في هذا المجال هو برنامج يعدّ الطلاب لتولّي مهام أمنية أو لدراسة الحقوق، لا أكثر).
كان الحميدان يهتم كثيراً بداية بهذه الرسائل، إلا أن المطّلعين يؤكدون إهماله الكامل للملف اللبناني بعدما ثبت أنه يكبّد الخزينة السعودية ملايين الريالات التي تذهب إلى سمير جعجع وزوجته وسامي الجميل وزوجته وغيرهم من “السياديين” اللبنانيين، بدل إنفاقها على تطوير البنية التحتية السعودية أو دعم التعليم أو الاستشفاء أو الترفيه، من دون أن تقدم أو تؤخر شيئاً بالنسبة إلى المملكة.
فها هو المازوت الإيراني يصل إلى لبنان مطيحاً كل ما خُطّط له، وإذا بأدوات المملكة ترسل إليها بضع تغريدات؛ فريق يتحرك على الأرض في جميع الاتجاهات وفريق لا يملك غير التغريد والتصريح، مع العلم بأن سمير جعجع تحديداً استشعر مالياً هذا الملل السعودي المتعاظم من كل أدواتهم في لبنان، لا من سعد الحريري فقط، فبدأ يرسل مشاغبيه للاندساس في تظاهرة هنا أو هناك لشتم حزب الله علانية في شوارع بيروت أمام الكاميرات، لتقديم مادة دسمة للماكينة الإعلامية السعودية ترفع معنوياتها، على اعتبار أن حزب الله يُشتم في شوارع لبنان؛ علّ وعسى تعيد القيادة السعودية النظر في خيبتها وانهزامها وانسحابها المتواصل ورفضها تقديم أي عون لأدواتها، بعيداً عن المخصصات التقليدية التي انخفضت أيضاً منذ أكثر من عام.
ولا شك في هذا السياق في أن جعجع حاول بكل الوسائل إقناع المعنيين في السعودية بأن يشتروا تفاح بشري عبر اتحاد بلديات بشري أو بلدية بشري أو إحدى تعاونيات زوجته الزراعية، ليتمكن من القول إن إيران تساعد والسعودية أيضاً، لكنهم لم يعيروه – هو وحساباته السياسية والانتخابية – أي اهتمام، لأن الشعور العام في مبنى الاستخبارات السعودية العامة حين يتعلق الأمر بلبنان هو: القرف، من الأقربين قبل الأبعدين.
وإذا كان وليّ العهد السعودي يبحث عن كبش فداء سعوديّ لتحميله، إلى جانب سعد الحريري، مسؤولية الفشل في مقارعة النفوذ الإيراني في المنطقة، فإن فريق عمل الحميدان يخشى تجاوز الدبلوماسيّ الأمنيّ تامر السبهان، لتطال المحاسبة الحميدان أيضاً، في وقت تؤكد فيه المعلومات الدبلوماسية أن جميع الغرف في ذلك المبنى الاستخباري المحاذي لجادّة الأمير تركي بن عبدالله تردّد عنواناً واحداً من مسرحيات شكسبير Much Ado about Nothing حين يتعلق الأمر بلبنان، ولا تكاد تُذكر بيروت، في Joes café و L’antica و Pizzeria de michelle ومطعم Falla و Huqqa المحيطة بمبنى الاستخبارات حيث يمضي الموظفون غالبية أوقات الفراغ، حتى تسمع المثل الجاهلي “نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً”، حيث صُدمت الاستخبارات السعودية بثلاث نكسات في شهر أيلول/سبتمبر الماضي:
أولاها، إسقاط مشروع العتمة الشاملة. ففي حسابات المملكة أن عوامل كثيرة قد تراكمت لإيصال اللبنانيين إلى الانتخابات النيابية من دون “لمبة” واحدة مضاءة في طول البلاد وعرضها، مع كل ما يستتبع ذلك من انقطاع كامل للمياه وتوقف عمل المستشفيات ومراكز الرعاية والمدارس واستحالة التدفئة شتاءً.
وإذا كان بعض الملفات يحتمل وجود أكثر من متهم في التقصير، فإن الرأي العام الذي لم يهتم يوماً لمن يعرقل بناء معامل لإنتاج الكهرباء ويمنع تنفيذ مساعي تفعيل الجباية أكثر وتطوير الشبكات، لا يجد سوى مذنب وحيد أوحد هو التيار الوطني الحر، بكل ما كان يفترض أن يستتبع ذلك من انتقام جارف في صناديق الانتخاب. فجأة، تبدأ ناقلات النفط بالوصول وتنطلق عملية منظمة جداً لتوزيع هذا المازوت الذي يُفترض أن يعالج جزءاً من مأساة الناس بداية، قبل أن يركز التوزيع أكثر عل المرافق العامة (خصوصاً مصالح المياه والمستشفيات والمدارس) والمولدات لإسقاط “برنامج العتمة الشاملة الانتخابي”، يداً بيد النفط العراقي الذي حاولت المملكة عرقلته، مع العلم بأن المازوت الإيراني والنفط العراقي والغاز المصري والأردني إذا وصلت فستوفّر ساعات تغذية بالتيار الكهربائي تُنسي اللبنانيين هذه الأزمة وتجعلهم يركزون على مشكلتهم مع المصارف وأصحابها وحصونها، وكل ما يمثله رياض سلامة من وديعة أميركية تحولت من نعمة أميركية كبيرة إلى مصدر هائل للنقمة.
ومهما قيل هنا عن ناقلات النفط الإيرانية يبقى قليلاً ولا يوفيها حقّها، فهي أسقطت أولاً برنامج العتمة الانتخابي، وأسقطت ثانياً احتكاراً أزلياً لكارتيل صغير يموّل غالبية وسائل الإعلام الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والفردية وغالبية السياسيين، ومهّدت ثالثاً لدخول حزب الله بقوة على خط الزارعة والصناعة والسياحة عبر توفير المازوت للبرادات والمصانع وكل آليات الزراعة والصناعة والفنادق وغيرها.
وها هو المواطن اللبناني يجد أمامه نموذجين لا ثالث لهما: واحد، يحتفل بالعتمة ويقول للناس هذا ما أوصلكم التيار الوطني الحر وحزب الله إليه، انتقِموا منهما في صناديق الاقتراع. وآخر يفعل كل ما من شأنه إزاحة هذه العتمة بجميع الوسائل الممكنة.
ولا بدّ من التوقف هنا عند رمزية ما يحصل مع مزارعي التفاح في بشرّي وجميع المناطق الجبلية، حيث لا يجدون من القوات اللبنانية غير الشماتة بما يصيب إنتاجهم لعدم تمكّنهم من تصديره أو حفظه في البرادات التي تحتاج إلى المازوت الباهظ الثمن، فيما يستنفر حزب الله أصدقاءه حول العالم لشراء بعض الإنتاج وتوفير ما يلزم من مازوت للبرادات بسعر مقبول. لقد كانت المملكة تفترض أن اللبنانيين سيعيشون من دون كهرباء ومياه وطعام وشراب إذا غضب “سموّه” منهم، وإذا بهم يبدأون خطوات عملية لمواصلة حياتهم، من دون أدنى مبالاة بموقف السعودية.
ثانية النكسات، إسقاط مشروع الفراغ السياسي بكل ما يستتبعه من فراغ أمني؛ فقبل تكليف ميقاتي، كان يمكن القول إن السعودية لا تريد سعد الحريري رئيساً لحكومة لبنانية، لكن بُعيد تكليف ميقاتي وتأليفه الحكومة، تبيّن أنها لا تريد حكومة لبنانية بالمطلق، ولا يرتبط الأمر بالحريري فقط.
والواضح هنا أنها لا تربط موقفها بموقف الولايات المتحدة أو فرنسا أو طبيعة هذه الحكومة أو التوازنات السياسية فيها؛ هي لا تريد حكومة أياً كان رئيسها والتوازنات داخلها، فمشروعها للبلد لا يلحظ تعايشاً أو تفاهمات أو إعادة توزيع للسلطة، بل عكس ذلك تماماً، حيث المطلوب هو تكريس الفراغ السياسي في ظل الانهيار المالي بكل ما يستتبعه ذلك من انهيار أمني شامل. وهو ما كان يُفترض برفع الدعم من دون تنسيق مع المؤسسات الأمنية أن يسرّع في وتيرته، وإذا بجميع هذه الأحلام السعودية تتعرض لصفعة هائلة مع توقيع ميقاتي ورئيس الجمهورية على التشكيلة الحكومية، مع العلم بأن تأليف الحكومة وحده يمثّل صفعة كبيرة للسعوديين، فكيف الحال مع حكومة مع توازنات سياسية في داخلها كهذه الحكومة.
ثالثتها، انتصار الكرامة اللبنانية على مساعي الإذلال السعودية؛ فالمملكة كانت تتوقع أن يسير الشعب اللبناني على طريق بعض سياسيّيه وإعلاميّيه ورجال أعماله ممّن نُشرت صورهم يتذللون ويبخّرون ويتكلمون بالسوء على أبناء بلدهم استرضاءً لاستخبارات المملكة، وإذا بالمزارع اللبناني يبحث بكل بساطة عن أسواق بديلة فور تبلُّغه قرار منع إدخال منتجاته إلى السعودية بدل أن يرجوها العودة عن قرارها.
وإذا بالأصوات الاغترابية التي تقول إنها تكدّ في العمل في السعودية ولا تحصل على الإقامة أو الرواتب مجاناً حتى يمنّنها أحد، تطغى بصمتها على بيانات القلة القليلة المستزلمة التي التزمت بتوصيات الاستخبارات السعودية بإصدار إعلانات غبّ الطلب لشكر المملكة على ما تقدمه إلى اللبنانيين الذين يعملون فيها، وتشتم كل من يوجّه انتقاداً لأداء المسؤولين في المملكة عن العلاقات مع لبنان.
وإذا كانت المملكة تعتقد أن محاولتها حصار لبنان ستؤدي إلى تدافع اللبنانيين أمام خيمة سفارتها لتوسّل العفو عنهم ومسامحتهم، فإن خيبتها كانت عظيمة من عدم مبالاة اللبنانيين بها وبما تفعله من قريب وبعيد، بل وتحوّلها بسحر ساحر من مملكة الخير المفترضة إلى مملكة الحقد والكره وخلط الحابل بالنابل في انتقامها الجماعي الانفعالي.
هذا كله؛ نكسات أيلول/سبتمبر الثلاث تراكم الإحباط فوق القرف فوق اليأس، والمشكلة الأكبر أن الحميدان كان منذ تعيينه نائباً لمدير الاستخبارات ومن ثم مديراً عاماً أحد أبرز الطباخين للمشروع التكفيري في المنطقة، الذي تصدّى له (في المنطقة) حزب الله وهزمه.
وهو – الحميدان – يعلم أن جهازه لم يكن يتوقع أبداً أن يُهزم هذا المشروع، فلم تعد للشام كما لليمن Plan B أو مخرج طوارئ، وهي لا تملك حتى اليوم مشروعاً بديلاً أو تصوراً آخر، فيما تجد نفسها لبنانياً أمام شلّة أدوات منافقة لا تشبع من تكديس الأموال السعودية في قصورها، من دون أن يكون للسعودية أيّ منفعة منها أو أقله أي تصوّر لمشروع مستقبلي يمكن أن تستخدم فيه هذه الأدوات المكلفة لكن الفاشلة.
غساد سعود – الميادين نت
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.