منذ صعود سلمان وابنه إلى سدة الحكم في السعودية، عرفت المملكة تحولات دراماتيكية متسارعة على أكثر من صعيد اجتماعي واقتصادي وسياسي، فالحكام الجدد قوضوا كل المقومات التقليدية للسلطة تحت مزاعم التحديث والتعصير وضمن مقاربة جديدة للتغيير الإستراتيجي للخروج من الأزمات المركبة داخليًا وخارجيًا.
ملامح التغيير ظهرت مبكرًا منذ حادثة “ريتز كارلتون” وإخفاء مصير الكثير من الأمراء المنافسين لمحمد بن سلمان وتصفية معارضيه بالخارج (خاشقجي)، وكذلك المغامرة العسكرية غير المحسوبة المتمثلة في العدوان على اليمن، وصولًا إلى الخلاف مع المؤسسة الدينية في محاولة لتطويعها خدمةً لأجندة ابن سلمان الرامية ظاهريًا إلى الانفتاح، لكن باطنها يحمل ديكتاتورية سلطوية ترفض منافسة العلماء وبعض الأصوات الحرة.
مشروع ابن سلمان
محمد بن سلمان اشتغل منذ تبوئه منصب ولي العهد، قبل أن يخلف محمد بن نايف الذي عزل من الولاية في يونيو/ حزيران 2017، على المسار الاجتماعي والاقتصادي، فقد تلبس الأمير الشاب بلبوس الحداثة وظهر متبرمًا من الانغلاق الكبير الذي عرفته بلاده طيلة العقود الماضية، لذلك أعلن عند تمكنه من السلطة بدعم من والده رؤية اجتماعية إصلاحية تهم حقوق المرأة (قيادة السيارة وإسقاط نظام ولاية الرجل)، وتفتح الباب أمام الشباب للترفيه فتم إحياء المهرجانات والأحداث الرياضية الضخمة إلى جانب افتتاح دور السينما.
هذا الانفتاح الشكلي تزامن مع تراجع عائدات النفط في المملكة التي لم تعد لها الموارد نفسها كما السابق، فكانت النتيجة إفلاس شركات وارتفاع تكاليف الحياة وفرض ضرائب أرهقت السكان، لذلك أجبرت الرياض على البدء في تحول اقتصادي، عبر مشاريع كبرى كمدينة نيوم ورؤية 2030، يقيها انهيارًا ماليًا وتململًا اجتماعيًا كالذي عرفته بلدان الربيع العربي.
في مقابل ذلك، ورغم الزخم الإعلامي الذي رافق الإعلان عن هذه المشاريع والدعايا التي روج لها النظام السعودي، فإن هذه الإصلاحات لم تصل إلى التحول الجاد على المستوى السياسي، فلم يلمس السعوديون أي تغيير على مستوى النظام الذي تتحكم فيه العائلة المالكة أو على مستوى الحريات الأساسية كحرية التعبير وحقوق الإنسان، فتواصل أجهزة أمن المملكة اعتقال النشطاء دون محاكمات بتهمة رفض تأييد نهج ابن سلمان في القطيعة مع قطر عام 2017 وسياسة تصفية الخصوم (اغتيال جمال خاشقجي بإسطنبول نهاية 2018) أو الاعتقالات التعسفية لعلماء الدين والدعاة.
ويرى مراقبون أن إفراط محمد بن سلمان في إظهار نفسه كمصلح اجتماعي واقتصادي هي محاولة للتغطية على الواقع الأسود لحقوق الإنسان في بلده، وأنه من غير المستبعد أن تكون مشاريع التي أعلنها بعيدة عن هذا الإطار، فأي عملية إصلاح شامل تكون من القاعدة إلى الهرم، فالإجراءات التي أعلنها لفائدة الشباب كالترفيه والسينما ورفع القيود عن الاختلاط لا تعدو أن تكون إلا محاولة لاستمالة هذا الطيف لكسب التأييد.
ويمكن القول إن ابن سلمان أدرك هذه النقطة جيدًا وأيقن أن عمليات التجميل التي أجراها على وجه نظامه لا تكفي لترسيخ برنامجه وتحقيق أهدافه، لذلك روج لفكرة أن الوصول إلى النمو الاقتصادي وتركيز السياحة وجلب الاستثمارات وخلق الريادة في الأعمال والوظائف، لا تستقيم في ظل وجود مؤسسة دينية تعرقل مجهود السلطة في تحديث المجتمع ونهضته وتثوير الاقتصاد والتنمية.
المؤسسة الدينية
على عكس الحكام السابقين للمملكة الذين حمل بعضهم نفسًا إصلاحيًا كالملك فهد في الثمانينيات والملك عبد الله في المرحلة الماضية، لم يجرؤ أحد على تحدي المؤسسة الدينية في السعودية كما فعل سلمان وابنه، فالحكام الجدد عملوا منذ وصولهم على تحجيم دورها وتقليص تأثيرها تمهيدًا لتحييدها في مرحلة ثانية.
فالمبادرات الإصلاحية التي أقدم عليها محمد بن سلمان لم تكن في الحسبان إطلاقًا، خاصة فيما يتعلق بتقييد وظيفة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت تُمثل في السابق أداةً لفرض التشدد الشمولي في الداخل السعودي، ومحددًا للمشهد الاجتماعي والثقافي المغلق في المملكة.
ولإكساب تحركاتها شرعية، تحاول السعودية الجديدة منذ فترة النأي بنفسها شيئًا فشيئًا عن التيار الديني المتشدد، واتخذت في هذا السياق عدة خطوات أدت إلى تحجيم دور المؤسسة الدينية بشدة وتدجينها لتطويعها من أجل الدعاية للملك وولي عهده وعدم عرقلة مجهود الأخير لتصفية ما تبقى من الأصوات الرافضة لسياسته.
الأمير السعودي نجح إلى حد كبير في مسعاه، وذلك حين أصدرت هيئة كبار العلماء السعودية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بيانًا اعتبرت فيه أن جماعة الإخوان المسلمين “جماعة إرهابية، لا تمثل منهج الإسلام، وتتبع أهدافها الحزبية المخالفة لهدي ديننا الحنيف، وتتستر بالدين وتمارس ما يخالف من الفرقة وإثارة الفتنة والإرهاب”، وهي خطوة سياسية بامتياز تُدلل على تخوف ابن سلمان من بعض التيارات الإسلامية وقيادات معروفة التي يُمكن أن تقوض برنامجه الاستبدادي الجديد.
لم يقف ابن سلمان عند هذا الحد، فانتقل إلى السرعة القصوى، ففي عام الحال طرح ولي العهد مشروعه لإصلاح الحالة الدينية للمملكة، الذي يمكن تسميته ببريسترويكا إسلامية، تدعو لأول مرة للقطيعة مع المدرسة السلفية الوهابية والتخلي عن ترسانة هائلة من الأحاديث النبوية التي استند إليها الفقهاء لقرون طويلة وشكلت مع الوقت التدين الشائع اليوم.
المشروع يقوم على الأخذ بالحديث المتواتر الذي تمت روايته بأعداد كبيرة من البشر لأعداد كبيرة أيضًا وعدم الأخذ بأحاديث الآحاد التي تمت من خلال روايات لأفراد، ما يعني رفض أمور كثيرة جاءت أساسًا من خلال أحاديث الآحاد، من بينها إجبار الناس على أداء شعائر الدين مثل الصلاة والصوم في رمضان وعقوبة شارب الخمر وقتل المثليين وختان الإناث والحجاب وغيرها من الأمور التي كان يُنظر إليها في السابق كـ”معلوم من الدين بالضرورة”.
على ظهر العلماء
رغم أن التحولات الأخيرة التي تشهدها المملكة السعودية تتعارض إلى حد كبير مع قيم المؤسسة الرسمية والدينية، فإن الأمير الشاب استطاع عن طريق ذراعه الأمنية وأجهزته القمعية تقسيم فئة العلماء إلى فئتين، القسم الأول معارض يتم وصمه بالخيانة والعمل ضد المصلحة العليا للبلاد ويحمل أجندة خارجية فيكتم صوته ويغيب ويرسل إلى أقبية السجون والمعتقلات، فيما يبجل الثاني ويرفع شأنه ليصبح معول الحاكم لهدم الموجود واستبداله بنموذج مغاير.
ونتيجة لذلك، ظهر في السعودية فتاوى تشرعن قرارات ولي العهد السعودي وتلمع صورته وتدافع عن خطواته الخاطئة لامتصاص الانتقادات والحط من شأنها، على شاكلة إمام الحرم عبد الرحمن السديس الذي أشاد بما أسماه “مسيرة التجديد برعاية ولاة أمرها الميامين، وحرص واهتمام من الشاب الطموح المحدث الملهم ولي عهد هذه البلاد المحروسة، ماضية في رؤيته التجديدية الصائبة، ونظرته التحديثية الثاقبة رغم التهديدات والضغوطات”، في وقت اغتالت فيه سلطات بلاده الصحفي جمال خاشقجي.
بدوره لفت الشيخ عادل الكلباني الانتباه من خلال مشاركته في بطولة لورق اللعب أقيمت في مركز مؤتمرات بالمملكة، في إعلان لتوليه مهمة إضفاء الشرعية على هيئة الترفيه، التي تعتبر من الأدوات التي يستخدمها ابن سلمان في سياسته الجديدة التي تقوض معالم المحافظة في البلاد، كما زعم مشاركته في برنامج تليفزيوني، أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يستضيف المطربين في منزله.
رجال دين آخرون التحقوا سريعًا بمركب التطبيع مع مشروع ابن سلمان، بينهم عائض القرني الذي أعرب عن ندمه على تبنيه الأفكار القديمة ودعمه لـ”السياسات الخارجية المعتدلة” للأمير الشاب، مستخدمًا كل قدراته في التشهير وكيل الافتراءات ضد تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان في فترة الحصار العربي لقطر وذلك بعد أن كان في وقت سابق من أبرز مؤيدي سياساته.
كما يُعد التيار المدخلي في السعودية من أهم أدوات الدعاية التي يعتمدها نظام ابن سلمان لتمرير أجندته ومشروعه الجديد، وقد استخدمهم لضرب الإخوان المسلمين وتعزيز الخطاب العدائي الموجه إليهم، إذ انتشرت مؤخرًا في المملكة معلقات في الشوارع والساحات العامة تحمل تحذيرًا مما أسموه الخوارج، فيما دعا بعضهم من أمثال الداعية السلفي المثير للجدل عبد العزيز إلى إعدامهم.
ويقبع في السجون السعودية مئات من الدعاة ورجال الدين، منهم الداعية سلمان العودة الذي يُعد أحد الدعاة الدينيين السلفيين المعتدلين والمعروفين على الساحة، وهو قريب من جماعة الإخوان المسلمين التي تحظرها السلطات السعودية، ويعرف عنه أيضًا انتقاده للسياسات الداخلية والخارجية للمملكة، وفي 2017 حُكم عليه بعقوبة الإعدام، إلا أن الحكم لم ينفذ حتى اليوم.
من جهة أخرى، تركزت مقاربة ولي العهد السعودي للاستئثار بالحكم وتعزيز سلطانه على استخدام علماء مقربين واستعداء من رفضوا سياساته عن طريق اعتقال الدعاة وفرض الإقامة الجبرية والضغط على البعض الآخر لإعلان فتاوى تحت الطلب، وكلتا الفئتين من العلماء هما جسر لوصول ابن سلمان إلى هدفه الحقيقي وهو تغيير ملامح المجتمع على النموذج الذي ارتضته له القوى الغربية.
بالمحصلة، لا يُنكر أحد على السعودية توقها للتغيير والإصلاح والانفتاح والخروج من العباءة الدينية التي ارتدتها لعقود، من أجل خلق ديناميكية اجتماعية واقتصادية، لكن ما يُعاب على النظام السعودي خطوات التحول التي تخلو من أي مشروعية شعبية، فهي تقتصر على إرادة الأمير ونزواته، ويُمكن القول إن الزواج الوقتي بين ابن سلمان وعلماء البلاط سينتهي قريبًا بطلاق بائن وما المداخلة إلا حطب سيتحول إلى رماد ينثره الرجل الذي لا يستمع إلا لصوت الديكتاتورية الكامن في عقله.
أنيس العرقوبي – نون بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.