فتح قرار قيادة حزب الله استقدام سُفن المواد النفطية من إيران عبر الموانئ السورية، الباب على مصراعيه أمام استعادة الحديث عن أهمية سوريا، موقعاً جغرافياً وموقفاً سياسياً، بالنسبة إلى لبنان، خصوصاً في ظل الحصار الأميركي المقنّع الذي يعاني منه، ما أدّى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية. الحديث عن أهمية سوريا بالنسبة إلى حزب الله من المسلّمات التي يعكسها الحزب في أدبياته السياسية والإعلامية، بل وحتى في أدائه وموقفه العملي، إنْ في مشاركته إلى جانب الدولة السورية في «المعركة الكونية» التي فُرضت عليها، أو في التنسيق الدقيق في معركة الجرود، والتي أتت في سياق المعركة الكبرى ذاتها. غير أن «أهمية سوريا» باتت اليوم طبقاً أساسياً على موائد الصالونات السياسية من واشنطن إلى عوكر، وبينهما كل الأطراف التي تدور في الفلك الأميركي.
مستفيداً من عوامل قوة عديدة يمتلكها حزب الله، ليست محصورة فقط في المدى الإقليمي لقوّة المقاومة وتأثيرها، أو في معادلة «الردع البحرية» التي فرضتها إيران، اتخذ السيّد حسن نصرالله القرار الكبير، وبدأت طلائع القوافل الإيرانية بالوصول إلى المياه الإقليمية السورية. تعرف واشنطن وموفدوها إلى لبنان، وآخرهم وفد من لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي جالوا على المسؤولين اللبنانيين، أن قرار الحزب هو بمثابة خرق كبير للحصار الأميركي على لبنان، وتجاوز كبير للمنع المفروض على اعتماد أية بدائل للخيارات التي تقع ضمن السلّة الأميركية. إلا أن الأميركيين ينظرون إلى الموقف من زاوية أخرى أكثر التصاقاً بمشروعهم الكبير، خصوصاً للبنان المجاور لفلسطين المحتلة، وبالتالي لمصلحة إسرائيل العليا. يرى الأميركيون أن قرار السيّد نصرالله الأخير، نقل حزب الله من موقع «الصمود» أمام سياسات الحصار والضغوطات الأميركية إلى موقع «التصدّي» المباشر لها، وفي هذا الموقع يأخذ الأميركي في الاعتبار نيّة الحزب واستعداده للذهاب بعيداً في المواجهة هذه.
توازياً، تعني هذه «النقلة» بالنسبة إلى واشنطن، أن أدواتها في لبنان، مِن أحزاب وقوى وشخصيات، تقليدية أو حتى «مدنية»، باتت على المحك، فلا هم قادرون على محاربة الحزب في قرار المواجهة والتصدّي للحصار الأميركي، ولا هم أيضاً قادرون على تأييده، ما يعمّق المأزق الذي وُجدوا فيه منذ أن أعلن السيّد نصرالله في خطاب العاشر من محرم، انطلاق أولى سُفن «كسر الحصار» الأميركي عن لبنان.
انتقل حزب الله من موقع «الصمود» أمام سياسات الحصار والضغوطات الأميركية إلى موقع «التصدّي» المباشر لها
أعاد قرار حزب الله تظهير أهمية سوريا بالنسبة إلى لبنان، وبالنسبة إلى محور المقاومة أيضاً. لذا، تلاقى التعاطي الأميركي – الإسرائيلي مع الأمر في سوريا. فسارعت الإدارة الأميركية عبر سفيرتها في بيروت إلى الإعلان عن نيّتها واستعدادها لفكّ جزء من عقوباتها/حصارها على سوريا بموجب «قانون قيصر» لفتح الطريق أمام الكهرباء والغاز من الأردن ومصر إلى لبنان عبر الأراضي السورية، ما يعني تأكيداً أميركياً على قيمة سوريا وموقعها بالنسبة إلى لبنان.
اختيار الولايات المتحدة قبول التنافس مع حزب الله بدلاً من مواجهته، يأتي في لحظة تاريخية بالنسبة إليها في ظلّ هزيمتها القائمة في أفغانستان، فيما لم يبقَ لحكومة نفتالي بينيت، في فلسطين المحتلة سوى المشاغبة على القرار عن طريق تفعيل غاراتها الاستعراضية في سوريا. هذا الوضع المستجدّ يحتّم على الدولة اللبنانية الانفتاح على سوريا، ويوفّر لها الفرصة الملائمة لفعل ذلك.
لبنانياً، يضع قرار حزب الله الكبير أي حكومة مقبلة أمام أمر واقع لن يكون بإمكانها القفز عنه. حاول الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، كسب المزيد من الوقت لتجاوز مشهد وصول السُّفن وتفريغ حمولاتها. إلا أن واقع وصول السُّفن إلى سوريا بدلاً من لبنان يمكن اعتباره «تسوية» تحفظ ماء وجه الدولة اللبنانية بمؤسساتها، كما الوقائع التي خلقها القرار، إنْ لناحية دفعه الإدارة الأميركية للمنافسة على خطّ «حلّ أزمات لبنان»، ودفْع السيناتور ريتشارد بلومنثال للقول من بيروت إن بلاده «تعمل بنشاط على سبل لحل أزمة الوقود… ولا داعيَ لاعتماد لبنان على الوقود الإيراني»، وإن «أي وقود يجري نقله عبر سوريا خاضع للعقوبات»، مؤكّداً أن واشنطن «تبحث عن سبيل لأداء ذلك من دون عقوبات»، أو لناحية وضْع السيّد نصرالله القرار في الأصل في الإطار الوطني العام غير المقتصر على فئة دون أخرى. كل هذه الوقائع تمهّد الطريق أمام أي حكومة لبنانية مقبلة للعمل بقوة من أجل مطالبة الإدارة الأميركية باستثناءات، أُسوة بحكومات كثيرة تدور في الفلك الأميركي وتحظى باستثناءات من العقوبات الأميركية على إيران.
لطالما تعاطى حزب الله بحذر شديد مع ملفات الوضع الداخلي، لتلافي التصادم مع الخصوم والحلفاء على السّواء. إلا أنه يقف اليوم في صلب معادلة جديدة من المواجهة مع الولايات المتحدة بشكل مباشر. يعرف الحزب أن هذه المعركة لا تنفصل عن المعركة الأساس المتعلقة بحفظ المقاومة، دوراً ومشرورعاً وموقعاً، وإن اختلفت في الشكل. لكنه يتحضّر اليوم، مع وصول أول سفنية إيرانية محمّلة بالمواد النفطية، لإعلان «النصر الخامس»، بعد التحرير عام 2000 وتموز عام 2006 والجرود عام 2017 وسوريا.
حمزة الخنسا – الأخبار اللبنانية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.