ترتكز أزمة الحرب الروسية الأوكرانية على إشكاليات متعددة. فالبُعدان الأمني والقومي أساسيان ضمن عوامل الأزمة. كما هي محددات الجغرافيا السياسية. ولذلك، فإن الفهم الأعمق لهذا الصراع يكون من خلال ما تطرحه النظرية الواقعية من مفاهيم المصلحة القومية واعتبارات القوة والتوسع وعلاقة المنافسة بين الدول. والواقع يقول إن القوة هي المحرك الرئيسي لهذه الأزمة. كما أن الأمن والأحلاف والتوسع عوامل أساسية في تفسير ما يحدث الآن. خاصة في ظل المخاوف الروسية من انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي والناتو. وأيضًا ما يمثله ذلك من مخاطر استراتيجية على مصالحها. فضلًا عن تهديد أمنها داخل منطقتها الجيوسياسية.
الحرب الروسية الأوكرانية.. لماذا نحن بصدد عالم جديد؟
إن قراءة متأنية لدوافع وانعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية تصل بنا إلى حقيقة أننا بصدد عالم جديد وتوازنات مختلفة. وهو ما حاولت ورقة سياسات جديدة للباحث مصطفى صلاح -صدرت عن مركز التنمية والدعم والإعلام (دام)- الوقوف على طبيعته. بينما قدمت تسليطًا للضوء على أهداف كل طرف في هذا الصراع. وأيضًا التداعيات التي شهدنا بعضها وسنشهد منها المزيد على مختلف المستويات الداخلية والإقليمية والدولية ذات الصلة.
لقد سعت الدراسة إلى تقديم منظور أوسع يُمكن من خلاله قياس مدى فاعلية النتائج الراهنة على أوضاع الاستقرار العالمي. ذلك استنادًا على افتراض توازن التهديد بين روسيا والغرب، باعتباره الدافع الأول في نشوب الأزمة. إذ أن روسيا تريد الحفاظ على أمنها ومصالحها في نطاقها الجغرافي القريب. في حين تريد الولايات المتحدة والدول الأوروبية حصارها داخل حدودها. وهو ما جعل موسكو تستبق الرغبة الأوكرانية بالانضمام إلى حلف الناتو، بحرب تحاول من خلالها إيجاد صيغة مقبولة، يمكن أن تساهم في احترام مخاوفها الأمنية. أو هكذا أعلنت.
تناولت الدراسة مجموعة من المحاور الخاصة لتفسير العلاقة بين روسيا والمجتمع الغربي. وقد استندت على واقع العملية العسكرية الروسية الشاملة الجارية الآن داخل أوكرانيا.
دوافع روسيا من الحرب الروسية الأوكرانية
قسم الباحث مصطفى صلاح دراسته إلى ثلاثة محاور. إذ تناول في المحور الأول دوافع روسيا من الهجوم على أوكرانيا. ذلك من حيث دلالات التوقيت والأهداف الروسية وخاصة الأمنية منها. فهناك أسباب بعضها يتعلق بالدوافع الروسية الذاتية، والبعض الآخر يتعلق بالظروف الإقليمية والدولية المحيطة بها.
وترى روسيا أن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة يمثل تهديدًا متزايدًا لمصالحها. خاصة بعد العمليات العسكرية الغربية في حرب البوسنة والهرسك، وكوسوفو. وأيضًا احتلال العراق، والدعم الأمريكي للثورات الملونة. وهو ما دفع روسيا بمرور الوقت إلى فقدان الاهتمام بالاندماج في المؤسسات الغربية، والاتجاه نحو العمل على تطوير مؤسسات إقليمية بديلة ومنافسة للمنظمات الغربية. ذلك للحيلولة دون انخراطها في المؤسسات الغربية.
الاستراتيجية الغربية لمواجهة روسيا في أوكرانيا
ويتناول المحور الثاني من هذه الدراسة، الاستراتيجية الغربية لمواجهة روسيا. ويتعرض إلى مسودة العقوبات الغربية لاستهداف القطاعات الاقتصادية الروسية والشخصيات النافذة هناك. وهو يظهر التباين بين الرؤية الأمريكية ونظيرتها الأوروبية حول مواجهة روسيا وانعكاسات ذلك على مدى فاعلية استراتيجية مواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا.
تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية
أما المحور الثالث، فيتطرق إلى التداعيات المترتبة على هذه الأزمة. فبعدما أعلنت روسيا الشروع في عملية عسكرية شاملة داخل أوكرانيا استهدفت إقليمي لوهانسك ودونيتسك. في خطوة تمثل تصعيدًا مباشرًا مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلف الناتو، ظهرت مجموعة من التداعيات المحتملة على مجريات الأوضاع الدولية. وكان بعضها يتعلق بروسيا وأوكرانيا وبعضها يتعلق بحركة الاقتصاد العالمي. فيما بعضها الآخر يتعلق بطبيعة النظام الدولي القائم ومساراته المستقبلية ومبادئه.
وقد تناول هذا المحور تراجع قدرة الولايات المتحدة على ردع روسيا، بسبب الحروب التي خاضتها في الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم. وهو ما يفرض عليها قيودًا حول رؤيتها للوضع في أوكرانيا.
أظهرت الحرب السورية أن الولايات المتحدة تراجعت عن أهدافها المعلنة والمتمثلة في رحيل الأسد. ولم تبدِ أي مقاومة فعلية للوجود الروسي في سوريا. بل أن الفرصة كانت متاحة أمام روسيا للتوسع في الشرق الأوسط وتعزيز نفوذها هناك.
كذلك الأمر تكرر في الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان. بالإضافة إلى الخلافات التي أوجدها اتفاق الغواصات (أوكوس) بين الولايات المتحدة وأستراليا. ذلك بعد استبعاد فرنسا من الصفقة. وهذا يؤشر على مشكلة في التنسيق بين أطراف التحالف الأطلسي. بالإضافة إلى تفسير الثبات والتغير في منظومة التحالفات الأمنية الغربية وفاعليتها. وكذا التغير الهيكلي في النظام الدولي. فضلًا عن الرؤية الروسية للنظام الدولي ومدى تأثير ذلك على فرص وقيود التعاون مع الصين في هذا الاتجاه.
وضمن هذا السياق، تم تناول انعكاسات التوترات الروسية الغربية على النظام الروسي الداخلي في اتجاه تعزيز الثقة الشعبية به وترسيخ نظام الحكم وأيديولوجيته السياسية. إلى جانب النجاحات التي حققتها روسيا في سوريا وجورجيا وشبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى علاقاتها القوية مع الصين وكثير من دول العالم.
المعادلة تتغير بانشغال أمريكا بالصين
تدرك روسيا أن الولايات المتحدة منشغلة أكثر بتعاظم القوة الصينية وكيفية مواجهتها. وبالتالي فإن أوكرانيا لا تمثل أولوية ملحة للولايات المتحدة. وهو ما دفع روسيا إلى تجاوز التهديدات الأمريكية اعتمادًا على فرضية أن دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا لا يمكن تنفيذه. هذا ما سرع من الشروع في تنفيذ الأهداف الروسية، وإحراج المعسكر الغربي وتحالفاته.
وعلى صعيد الحراك الاجتماعي والاحتجاجات الشعبية، ستزيد الأزمة بين روسيا والغرب من التأثيرات السلبية للأوضاع المتفاقمة في مناطق أخرى من العالم. خاصة منطقة الشرق الأوسط. الأمر الذي قد يؤدى إلى موجات من الاحتجاجات الشعبية. ومن ثم حدوث تغير في المعادلة السياسية داخل هذه الدول وتهديد استقرارها الداخلي. وهو ما قد تتسبب به التقلبات المتوقعة في أسعار الخبز والخدمات المرتبطة بالموارد النفطية.
وفيما يتعلق بتأزم الأوضاع الاقتصادية العالمية، تقول الدراسة إن الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا سيكون له تأثير بالسلب على الاقتصاد العالمي. خاصة في ظل الأثر الذي تركته جائحة كورونا، إضافة إلى الموجة التضخمية العالمية التي زادت من أسعار السلع الغذائية وغيرها. وهذا الأثر السلبي سيزيد بالتوازي مع التوتر بين روسيا والغرب. كما ستؤدي الحرب الروسية الأوكرانية إلى فرض مزيد من العقوبات على القطاعات النفطية الروسية. ما بدوره سيؤثر على حركة تدفق الموارد النفطية إلى الدول الأوروبية. ذلك باعتبارها أكثر المتضررين من هذه العملية. فضلًا عن ارتفاع أسعار المنتجات والصناعات ذات الصلة والاعتماد على هذه الموارد. وهو ما سيؤدي إلى خلل في توريد سلاسل الغذاء العالمي.
العلاقات الروسية الصينية.. موازين القوى تتبدل
وبالنسبة للعلاقات الروسية الصينية، فإن هناك تغير في موازين القوى في اتجاه الشرق. حيث أنه قبل شروع روسيا في التدخل العسكري لتحقيق أهدافها داخل أوكرانيا، ظهرت ملامح توافق جديد وميلاد استراتيجية توازن بين كل من روسيا والصين في مواجهة السياسة الأمريكية. ذلك بعدما تم الإعلان عن بداية مرحلة جديدة في النظام الدولي لمواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية على قواعد هذا النظام. وكذلك انتقاد الاستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لما لها من تأثيرات سلبية على السلام والاستقرار في هذه المنطقة.
ومن ثم، فإن التوافق الروسي الصيني سيزيد من فرص تنفيذ روسيا أهدافها، ومساعدتها على مواجهة العقوبات الغربية، وقد قدمت موسكو لبكين نموذجًا ناجحًا في إدارة علاقاتها مع الدول الغربية. ما قد يساعدها على مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها في تايوان.
وفيما يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية، ستلقي هذه الأزمة بظلالها على حركة الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن في دعم خطط نشر وتطبيق الديموقراطية في الأنظمة السلطوية. ومن ثم دعم التحول الديمقراطي. وتأتي هذه المشاهدات في ظل واقع ميداني يؤشر إلى ثبات خريطة التحالفات التي تنتهجها كل من روسيا والصين في علاقاتها مع الدول. بما يعزز من قدرتها على كسب حلفاء جدد في المجالات المختلفة.
للاطلاع على الورقة كاملة.. اضغط هنا
مصطفى صلاح – مركز التنمية والدعم والإعلام
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.