قالها بوتين بفصيح العبارة وبالسلاح الناري الحاسم للمرة الثالثة والثالثة ثابتة. “الأمر لي” فالزمن بات مختلفًا ولن يكون لأميركا وليبراليتها وحلفها العدواني واستثمارها في الإرهاب المتوحش والثورات الملونة ومنظمات الـ ngos مكان أو مسارح للعمل والظفر بانتصارات سهلة تعودتها أميركا وأدمنت عليها؛ فزمن الثورات الملونة وجيش أردوغان العثماني وشركات الأمن الخاصة والمرتزقة وإرهابها الأسود قد ولى وإلى غير عودة.
في سورية، وتحت جنح السرية المطلقة، فاجأ بوتين الجميع وتدخل بعاصفة السوخوي في ٣٠ أيلول ٢٠١٥ فغير محاور الأحداث وسياقات التطورات ونتائج الحروب وحقق لسورية ومنها لروسيا مكانة عالمية مقررة ووازنة في زمن قياسي لم يتخطَّ السنة الواحدة، وأنتجت المنصة السورية لروسيا ظاهرة تاريخية غير مسبوقة في الأمم والأزمنة بأن تحولت من دولة ثانوية لا يعترف لها بالإقليمية ومحاصرة ومعبوث بها وقد جردت من ذراعها اليمنى أوكرانيا إلى قوة هرقلية عالمية من الطراز الأول تقرر من يحكم أميركا وواقع ومستقبل أوروبا، كل ذلك بفاعلية عاصفة السوخوي، ومن سورية وبأقل الأكلاف وبأدنى الخسائر. وكررها بوتين في قره باخ فأخضع أذربيجان وأرمينيا وكسر ظهر مشروع أردوغان للعالم التركي وأسقط وهم العثمانية الجديدة وضرب بيده على الطاولة فأوقف الحرب بخطوط تماس هو قررها وقرر أنها ستكون حدود روسيا العظمى في وسط آسيا والقوقاز. وفي الأزمة المستجدة في أخطر دول وبؤر القوقاز كازاخستان لم يتردد قط فأمر بحشد قوات من روسيا وحلفائها من الدول المستقلة وفرض أجندته وطريقته في الحسم السريع وتطويع الثورات الملونة وكسر ظهر جيش أردوغان الإسلامي العثماني وشركات أمن المرتزقة، فاستعادت كازاخستان الهدوء والاستقرار، وفوّت على أميريكا وأجهزتها وإرهابها الأسود والمتوحش ومرتزقة أردوغان الفرصة والزمن وأكدها ثالثة “الأمر لي وممنوع العبث بالأمن القومي الروسي بعد الآن”. وقد فعلها كإنذار بالنار وإشهار القوة والجدية في وجه أميركا عشية المفاوضات بشأن أوكرانيا ودور الناتو والشروط الروسية في وجه بايدن والناتو لتأكيد عزمه وقراره بأن روسيا بوتين باتت على أهبة الاستعداد للمواجهة المسلحة وفي مختلف الساحات والدوائر ولا تتهيب حربًا نووية أو صدامية؛ فأميركا وجغرافيتها وبنيتها أصبحت مسرح الحروب على غير ما كانته في السابق، وهذا جديد التاريخ، وصنيعة روسيا للأسلحة الفرط صوتية القادرة على تدمير أميركا وفرض الحرب فيها، وليس بعيدًا عنها كما كانت الحروب، وتسببت بصعود أميركا كتاجر لتمويل الحروب واستعمار العالم بحجة تمويل الإعمار ومشاريع مارشال الاستعمارية.
فالثورات الأميركية الملونة كانت حدثًا جديدًا استثمرت في أزمات الاتحاد السوفييتي ومنظومته ونجحت عبرها أميركا بفرض هيمنتها العالمية بعد تفكيك الإمبراطورية السوفييتية وعوالمها، فقد تعلم بوتن ونخبة روسيا الدروس وقرروا عكس المسارات والتحولات، فالحزم والحسم والسرعة والمفاجأة عناصر تبطل دور منظمات المجتمع المدني وثورات الرقص والتمويل الخارجي وأجندات أجهزة الأمن وشركات المرتزقة، والحسم السريع والتدخل العسكري المباشر الذي قادته روسيا في كازاخستان مؤشر على ما سيكون في شرق أوروبا والقوقاز والجمهوريات الآسيوية السوفييتية السابقة، فلم يعد لدى بوتين فرص ولا مزاح ولن تخدع روسيا كما خدعت في يوغسلافيا وليبيا والعراق، فزمن الضعف قد رحل، والقوة الصلبة والرؤية الصحيحة والخطط المحكمة تجيدها روسيا وتدير الحروب والأزمات من موقع المقتدر والقادر على الاستثمار في الأزمات وتجيير مخططات واستراتيجيات أميركا للفوضى والقيادة من الخلف والحروب بالواسطة لصالح روسيا وحلفها الأوراسي.
وبوتين صاحب تجربة ورؤية اختبرها في روسيا ونهض بها من حالة الفوضى الى الوحدة، ومن الانهيار الى التماسك، ومن التبعية الى القيادة، وتاليًا يفرض خططه المختبرة في الدول والمجتمعات التي هب لنجدتها؛ فالفوضى بنتيجة الفساد وتحكم الأوليغارشيا والترهل بسبب صراعات كتل النظام وتشققاته تعالج أيضًا بإقصاء الفاسدين وتوحيد النخبة في النظام وتطهير الدولة وتلبية الاحتياجات الاجتماعية المحقة وتطوير البنى الاقتصادية؛ فكازاخستان من أغنى دول العالم وأكبرها مساحة ولا ينقصها إلا إدارة رشيدة موحدة راغبة بالاستقلال والسيادة والتنمية وتأمين الشعب؛ فبهذا تهزم مناورات ومخططات ومؤامرات التفكيك والإسقاط بتحركات منظمات المجتمع المدني الممولة من أميركا والمدارة من أجهزتها، فبدأت الحملة في تطهير الدولة وحسم الصراع بين كتلها وتياراتها والقبض على المسؤولين الفاسدين والانقلابيين وإبعاد القادة السابقين وحاشيتهم عن الدولة وأجهزتها لتحريرها من الفساد والمفسدين.
بوتن يعلنها ويمارسها: زمن الثورات الملونة وتفكيك الدول والمجتمعات ومحاولات حصار روسيا وإشعالها في بيئتها وأمنها القومي قد انتهى ورحل الى الأبد، فروسبا متحفزة وجاهزة لقلب عقارب الساعة وتغيير اتجاهات الأزمنة.
الأسئلة الفارضة نفسها: كيف سيتصرف بوتين وفي أي ساحات سيعاقب اردوغان؟ ماذا عن إدلب؟ أو يكون الهدف تفكيك تركيا نفسها؟
ميخائيل عوض
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.