“طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع”.. لو شاء مؤلف هذه الأغنية الثورية الأشهر خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية الثمانينيات أن يكتبها اليوم لكانت “من كل نفق وبيت وحارة وشارع”.
وعلى طريقة غوغل كان “النفق” الكلمة الأكثر تداولا في أحاديث الفلسطينيين منذ فجر الاثنين الماضي عندما نجح 6 أسرى في الهروب من سجن جلبوع المنيع (شمالي فلسطين المحتلة) عبر نفق حفروه بصبرهم وإرادتهم قبل أياديهم.
ويؤرخ الفلسطينيون لثورتهم المعاصرة بنفق “عيلبون” الذي فجره فدائيون من حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) ليلة 1 يناير/كانون الثاني 1965، لإفشال مخطط إسرائيلي لسرقة مياه نهر الأردن.
أنفاق الحرية
وسجل الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال العديد من عمليات الهروب بأساليب مختلفة، غير أن اللجوء إلى حفر أنفاق باستخدام الملاعق أو قطع حديدية توفرت لهم أثار فخر وإعجاب الفلسطينيين والكثيرين حول العالم، و”جنون” الإسرائيليين الذين يحيطون هذه السجون برقابة وتقنية متطورة.
وفي تأريخه للهروب بالأنفاق من السجون الإسرائيلية يعود هلال جرادات (الأسير الفلسطيني السابق والمبعد إلى قطاع غزة) إلى العام 1998، حيث كان من بين 24 أسيرا حاولوا الهرب عبر نفق حفروه في سجن شطة المجاور لسجن جلبوع، لكن ضابطا إسرائيليا وقف مصدوما إثر الكشف عن النفق بعد هرب 4 منهم، وسألهم بغضب “أنتم شو.. مهندسون ولّا مجرمون؟!”.
استغرق حفر هذا النفق 77 يوما، بطول نحو 25 مترا وبعمق أكثر من مترين، ولولا خطأ غير مقصود من أحدهم لتمكنت المجموعة كلها من الهرب، ولسجل الأسرى “نجاحا أسطوريا”، يقول جرادات للجزيرة نت.
جرادات -الذي اعتقل في العام 1985 وكان يقضي حكما بالسجن 99 عاما- تحرر في “صفقة وفاء الأحرار” المعروفة بـ”صفقة شاليط”، واشترطت إسرائيل إبعاده إلى غزة، وأنعش “نفق جلبوع” ذكرياته فقال “إنها عملية استثنائية وأشبه بالمعجزة”.
لم يتوقف حفر الأنفاق في السجون للهرب، ففي عام 2003 تمكن 3 أسرى من حركة الجهاد الإسلامي من حفر نفق أسفل سجن عوفر (غربي رام الله بالضفة الغربية) والهرب، وتخفّوا لمدة 7 أشهر إلى أن اشتبكوا مع الاحتلال واستشهد منهم رياض خليفة، وأعيد أسر أمجد الديك وخالد شنايطة.
وفي عام 2014 حاولت مجموعة أسرى -ومنهم محمود العارضة وأيهم كممجي- الهرب بنفق من سجن جلبوع، لكن الاحتلال كشفهم، إلى أن تمكن العارضة وكممجي و4 آخرون من الهرب في نفق جلبوع قبل أيام.
الأنفاق.. أيقونة غزة
لم يقتصر حفر الأنفاق تحت السجون الإسرائيلية فقط، بل لجأت المقاومة الفلسطينية في غزة إلى الأنفاق كأسلوب قتالي من أجل تأمين حركتها بعيدا عن أعين الاحتلال.
وبحسب الباحث في الشؤون الأمنية رامي أبو زبيدة، فقد عرفت غزة الأنفاق كوسيلة للتهريب أسفل الحدود الفلسطينية المصرية منذ سنوات الاحتلال الأولى، وكانت تستخدم في البدايات لتهريب الممنوعات، ومع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 كثف الاحتلال مكافحة هذه الأنفاق خشية وصول السلاح للمقاومة.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 -يقول أبو زبيدة للجزيرة نت- بدأت الأنفاق بتهريب السلاح للمقاومة، وعمد الاحتلال إلى تفجير أي نفق يتم اكتشافه، مما أدى لاستشهاد واعتقال عشرات الفلسطينيين.
وإثر فرض الحصار المشدد على غزة عقب فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية عام 2006 ارتفعت وتيرة حفر الأنفاق التي لجأ إليها الغزيون لتهريب الوقود والبضائع من مصر للتغلب على “قائمة الممنوعات الإسرائيلية”، قبل أن تتحول إلى طرق تحت الأرض لمرور البشر مع إغلاق معبر رفح البري لفترات طويلة، وهو المنفذ الوحيد للغزيين على العالم الخارجي عبر مصر.
تطور تقنية الأنفاق وأهدافها
وسخّرت المقاومة الأنفاق لمهاجمة المواقع العسكرية قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، ومنها انطلقت عملية خطف الجندي جلعاد شاليط في يونيو/حزيران 2006، ومبادلته بعد 5 سنوات بأكثر من ألف أسير فلسطيني.
يقول أبو زبيدة “مع تنامي قدرات المقاومة وتوسعها أخذ حفر وبناء الأنفاق يتوسع من حيث طرق استخدامها وتصميمها”.
ويصنف الأنفاق إلى عدة أنواع، أبرزها حاليا ذات الاستخدام العسكري، وهي: الأنفاق الإستراتيجية المعدة للهجوم أو الدفاع، ولها مخارج ومداخل متعددة، وتحتوي على غرف قتالية مجهزة للضبط والسيطرة واستراحة المقاومين، وفيها احتياجاتهم من طعام وشراب للبقاء فيها لأطول فترة ممكنة.
وأثبتت هذه النوعية من الأنفاق -التي نجحت حركة حماس في بناء الآلاف منها، وتطلق عليها إسرائيل “مترو حماس”- فعاليتها خلال الحروب المتكررة على غزة.
وقال أبو زبيدة إن الأنفاق الإستراتيجية عبارة عن مدينة مصغرة تحت الأرض يمكن المناورة فيها لأطول فترة ممكنة، وتشمل أنفاقا قتالية هجومية تستخدم لعمليات الهجوم، وأنفاقا دفاعية قتالية تتفرع منها عشرات العيون (فتحات) وتستخدم للتصدي للاجتياحات البرية، ونصب الكمائن.
وكذلك أنفاق المدفعية، وهي حفر في الأرض مجهزة بمدافع هاون أو راجمات صواريخ، وأنفاق الإمداد والاتصالات الداخلية ومهمتها الإمداد والتموين وإسناد الوحدات المقاتلة باحتياجاتها، فيما أنفاق الإمداد الخارجية تستخدم لتهريب السلاح من الخارج.
وأخيرا، أنفاق الضبط والسيطرة التي تتوفر فيها وسائل المعيشة والاتصال والتواصل، ووقت الحرب توجد فيها قيادة المقاومة المهددة بالاغتيال، وتحوي مراكز قيادة وسيطرة لإدارة العمليات العسكرية.
نجاحات من “رحم” الأنفاق
ويعتقد أبو زبيدة أن النجاح الباهر الذي حققته المقاومة عبر عمليات الأنفاق بث الرعب لدى إسرائيل، وكان له الأثر البالغ في اتخاذها قرارا بالانسحاب من غزة.
وأحدثت هذه الأنفاق نقلة نوعية في تاريخ الصراع مع إسرائيل، وبرزت كسلاح فاعل لدى المقاومة في حرب 2014، وسجلت إنجازات كبيرة باستخدامها في إطلاق الصواريخ، وفي تسلل المقاومين خلف خطوط العدو، ونجحت كتائب القسام في عمليتين منفصلتين آنذاك في أسر الجنديين شاؤول آرون وهدار غولدن، واغتنام معدات قتالية.
وعقب تلك الحرب وما تكبدته إسرائيل من خسائر قال الخبير الإستراتيجي الإسرائيلي يوآف شاروني في مقال بعنوان “هزيمة جيشنا المدلل العزيز” “أصبح الجيش الإسرائيلي بدل اعتماده على صلابة المقاتل يعتمد على صلابة تصفيح الدبابات التي فتتها “الكورنيت”، ويعتمد على جدران الإسمنت التي حفرت الفصائل الفلسطينية “الأنفاق الشيطانية” تحتها، ليخرج مقاتلوها في مشهد هوليودي من عين النفق باتجاه مواقعنا، ثم يقومون في أقل من دقيقتين بذبح جنود من النخبة مثل الخراف”.
إبداع فلسطيني
يقول الكاتب المختص بالشؤون الإسرائيلية توفيق أبو شومر للجزيرة نت إن الفلسطيني سجل “براءات اختراع” كثيرة في مسيرة نضاله الطويلة ضد المحتل، من إدخال مصطلح “انتفاضة” إلى القاموس، والمقاومة بالحجر والسكين والكوفية، وصولا إلى تحويل البالونات من لعبة أطفال إلى وسيلة مقاومة.
وأضاف أبو شومر أن اللجوء إلى الأنفاق لأهداف نضالية مختلفة هو حلقة من “مسلسل الإبداع الفلسطيني” الذي كانت أولى حلقاته تفجير “نفق عيلبون” وتوالت ولن تتوقف عند “نفق جلبوع”.
رائد موسى – الجزيرة نت
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.