تحول استراتيجية نفوذ الصين من “الحزام والطريق” إلى “التأثير الشعبي” العراق أنموذجًا

4

إن فهم مسار النفوذ الصيني في العالم النامي، يجب أن ينطلق من التعمق في التحول الذي طرأ على إستراتيجية بكين خلال السنوات القليلة الماضية. الأمر هنا أبعد من مجرد مراجعة تقنية لآليات التمويل، أو مجرد حسابات بسيطة للعائد على الاستثمار، بل هو انتقال جوهري في نظرة الصين لنفسها كقوة صاعدة في النظام الدولي، وفي طريقة استخدامها لأدواتها الاقتصادية والمالية والتنموية لبلورة بنية جديدة للعلاقات الدولية؛ ما يعني أنها بنية مختلفة جذريًا عن النموذج الغربي الذي سيطر على العالم لعقود طويلة.

منذ تولي شي جين بينغ السلطة في عام 2012، أعادت القيادة الصينية رسم علاقتها مع العالم الخارجي على أسس مختلفة جذريًا. فقد كانت الصين تركز على النموّ الداخلي والتجارة الخارجية بشكل محدود، ثمّ بدأت تتحول إلى قوة ذات رؤية إستراتيجية توسعية. وكان إطلاق مشروع الحزام والطريق في عام 2013 بمثابة إعلان رسمي عن هذا التحول، لكنّه لم يكن مجرد مشروع بنية تحتية فقط، بل كان، وما زال، إطارًا شاملًا لإعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية والسياسية للعالم لصالح مصالح بكين.

وفق هذا المنظور، ينبغي الإشارة إلى أن الإستراتيجية الصينية تقوم على فهم جوهري وقوي مفاده أن القوّة في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت تُقاس بالقدرة على ربط الاقتصادات والشعوب والدول في شبكات من الاعتماد المتبادل بعدما كانت تقاس سابقًا بالقوة العسكرية بشكل أساس. ومن هذا المنطلق، كانت رؤية الصين للعالم النامي بأنه حقل اختبار ضخم يمكنها من خلاله إعادة تشكيل مسارات التنمية العالمية بما يخدم مصالحها البعيدة. هذا الطرح يمثل ابتعادًا كاملًا عن النموذج الغربي، الذي كان يربط مساعداته التنموية برؤية أيديولوجية محدّدة ترتكز على شروط الديمقراطية، و”الحكم الرشيد”، والحقوق الإنسانية، وفق منظورهم المزدوج لهذه الشروط في معيار التطبيق.

آليات التمويل والهندسة المؤسسية

في واقع الحال، ما يميز النموذج الصيني للمساعدات والاستثمارات الخارجية عن نظيره الغربي هو البساطة والمرونة المقصودة. ففيما ترتبط المساعدات الغربية بشروط صارمة تتعلق بما يسمّوه بـ “الحكم الرشيد” والديمقراطية وحقوق الإنسان، تأتي الصين بعرض مختلف تمامًا قائم على شروط أقل صرامة بكثير، إذ إن الدول المستقبلة للاستثمارات الصينية لا يُطلب منها تغيير نظمها السياسية أو تقبل قيم محدّدة؛ بل مطلوب منها فقط أن تخلق بيئة استثمارية مستقرة وأن تفتح أسواقها للشركات الصينية.

وفي تفصيل لما تقدّم، يقودنا الحديث إلى التركيب المالي للمساعدات الصينية الذي يكشف عن حساب إستراتيجي دقيق، حيث يشير تقرير لمركز التنمية العالمية بعنوان (CGD) “A New Era? Trends in China’s Financing of International Development Cooperation” (2021)، إلى أن حوالي 49% من المساعدات تأتي في شكل قروض بسيطة، و47% في شكل منح، و4% فقط في شكل قروض من دون فائدة. هذا التوزيع المنتظم يعكس رؤية حول كيفية تعزيز الاعتمادية دون أن تبدو قسرية. وبهذا الشكل نفهم أن الصين تعتمد مسارًا ضمن 3 أسس مترابطة، فالقروض تولّد تبعية طويلة الأمد، والمنح تولد رابطة سياسية ملموسة، والأدوات مجتمعة تؤسس لعلاقة من الاعتماد المتبادل الذي يخدم المصالح الصينية على امتداد عقود.

من حيث القطاعات المستهدفة، يكشف التتبع الدقيق للاستثمارات الصينية عن تركيز “لا عفوي” على البنية التحتية الضخمة والطاقة والنقل والاتّصالات. ومثاله أن الصين عندما تمول خطًا حديديًا في إفريقيا أو طريقًا سريعًا في جنوب آسيا، فإنها لا تمول مشروعًا عام النفع فحسب؛ بل مشروعًا يوظف العمال الصينيين، ويستخدم التكنولوجيا والمعدات الصينية، ويخدم بشكل مباشر تصدير السلع الصينية، ويفتح أسواقًا جديدة للمنتجات والخدمات الصينية. هذا النموذج يحقق أهدافًا متعددة في آن واحد حيث يوسع الأسواق، ويؤمن موارد طبيعية، والأهم أنه يخلق شبكة معقّدة من الاعتماديات.

حجم الحضور وديناميكية النمو

مع حلول عام 2025، بلغت الاستثمارات والتعهدات الصينية ضمن مبادرة الحزام والطريق مستويات ضخمة حقًا وذلك استنادًا إلى أرقام لحظها تقرير جامعة جريفيث الأسترالية ومركز التمويل والتنمية الخضراء ببكين (2025)؛ فقد تجاوزت القيمة التراكمية منذ عام 2013 حاجز 1.3 تريليون دولار أميركي، موزعة بين عقود بناء بنحو 775 مليار دولار، واستثمارات غير مالية وصلت إلى 533 مليار دولار. لكن ما يثير الانتباه فعلًا ليس ضخامة هذا المبلغ التراكمي، بل وتيرة النموّ المتسارعة. ففي النصف الأول من عام 2025 وحده، وصلت التعاملات الصينية إلى 124 مليار دولار تقريبًا، مقسومة بين 66.2 مليار دولار في عقود البناء و57.1 مليار دولار كاستثمارات مباشرة. هذا الرقم تحديدًا يمثل ضعف ما تحقق في الفترة المماثلة من عام 2024، مما يؤكد أن التوسع الصيني يسير في خط تصاعدي واضح ومستمر.

هذا النموّ القياسي لم يأتِ بشكل عرضي، بل هو في حقيقته استجابة مدروسة لعوامل ضغط دولية وداخلية في آن واحد. أولًا، دفع التباطؤ الاقتصادي الداخلي في الصين وتراجع القطاع العقاري القيادة الصينية للبحث عن أسواق وفرص استثمارية بديلة في الخارج، وذلك لتوجيه رأسمالها الفائض نحو عوائد أفضل. ثانيًا، شكلت التوترات التجارية المتصاعدة مع الولايات المتحدة، خاصة في ظل الضغوط الجمركية المتزايدة، دافعًا قويًا للشركات الصينية كي تجد بدائل لتصدير منتجاتها بعيدًا عن الأسواق الأميركية والأوروبية. وهكذا، أصبح العالم النامي هو الملاذ الطبيعي والأكثر جاهزية لاستقبال هذا التوجّه.

أما السبب الثالث والأكثر أهمية، فهو إدراك الصين الحاسم بأن الأسواق الناشئة والدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط هي التي ستحسم الصراع على النفوذ العالمي. فبينما نرى الولايات المتحدة تركز جهودها بشكل كبير على آسيا والمحيط الهادئ وتُقلص التزاماتها في مناطق أخرى، تستغل الصين هذه الفجوة وتتوسع بشكل منظّم عبر نظام متكامل من الاستثمارات العالمية. وهذا التوسع ليس “عشوائيًا” بالطبع؛ إنه توزيع إستراتيجي دقيق للموارد يهدف إلى السيطرة على مناطق ذات أهمية جيوسياسية، وتأمين الموارد الطبيعية، وربط الطرق التجارية الحيوية.

التأثيرات الاقتصادية والهيكلية على الدول المستقبلة

عندما ننظر إلى الأثر الاقتصادي الكلي، نجد أن الأبحاث الحديثة تشير إلى نتائج متباينة لاستثمارات الصين في العالم النامي. فمن زاوية إيجابية لا يمكن إنكارها، تظهر البيانات من دول مختلفة في جنوب آسيا وإفريقيا تحسنًا كبيرًا في مؤشرات الاتّصال والتجارة، بالإضافة إلى سهولة الحصول على التكنولوجيا. فالطرق والسكك الحديدية والموانئ التي ساهمت الصين في تشييدها، لم تفتح أسواقًا جديدة فحسب، بل سهّلت حركة التجارة بين هذه الدول وقلّلت من تكاليف النقل بشكل جوهري وملموس.

وتؤكد استطلاعات الرأي الأخيرة الصادرة عن مراكز الدراسات، من بينها تقرير لمؤسسة AidData (2024) بعنوان “The BRI at 10: A report card from the Global South”، أن قادة سياسة التنمية في الدول النامية ينظرون إلى نتائج مبادرة الحزام والطريق بإيجابية واضحة؛ حيث أشار 58% منهم إلى تحسن في الاتّصال، و47% لاحظوا تطوّرًا في التجارة، بينما أقرّ 50% بتوفر تكنولوجيا جديدة، و49% أكدوا على خلق فرص عمل جديدة. هذا الرضا النسبي يعود بشكل أساسي إلى تقديرهم للشروط المالية الميسرة التي تقدمها الصين (محل تقدير 37% من القادة)، وإلى مرونة سياساتها التي تأتي غالبًا غير مشروطة بأجندات سياسية (محل تقدير 41%).

لكن من ناحية أخرى، هناك مؤشرات واضحة على أن الاستثمارات الصينية غالبًا لا تخلق حراكًا اقتصاديًا عميقًا أو انتقالًا حقيقيًا نحو الاقتصادات الأكثر تطوّرًا في الدول المستقبلة. العاملون في المشاريع الصينية غالبًا ما يكونوا من الصين في المستويات الإدارية والفنية العليا، والتكنولوجيا لا تُنقل بسهولة إلى الشركات والحكومات المحلية، والأرباح الحقيقية تعود إلى الشركات الصينية والحكومة الصينية. ما تحصل عليه الدول المستقبلة هو في الأساس بنية تحتية تخدم بشكل أساسي صادرات الصين نحو الأسواق الأخرى أو استيراد الموارد الطبيعية من هذه الدول.

دراسة شاملة وحديثة صادرة عن جامعة جريفيث الأسترالية وضعت خلاصة دقيقة للجدل الأكاديمي الدائر حول هذا الموضوع، ورأت أن الاستثمارات الصينية تساهم في تحسين “التعقيد الاقتصادي” للدول الفقيرة، لكن هذا التحسن يبقى سطحيًا ومحدود الأثر. فهي تنجح في رفع قابلية تلك الدول للاتّصال والتجارة العامة، لكنّها في المقابل تُبقي أغلبها حبيسة المواقع الأدنى نسبيًا في سلاسل القيمة العالمية. وعليه، فإن هذه الدول لا تزال تنتج المواد الخام أو السلع الوسيطة ذات القيمة المنخفضة، وتصدرها عبر البنية التحتية الصينية، دون أن تتمكّن من الانتقال إلى المرحلة الأهم، وهي إنتاج السلع عالية القيمة والتكنولوجيا المتقدمة التي تخلق الثروة الحقيقية والمستدامة على المدى الطويل.

التحول الإستراتيجي الجديد

لقد ظهرت نقطة تحول إستراتيجية مهمّة في الفكر الصيني خلال عامي 2024 و2025، وهي تشير إلى “نضج” تدريجي في كيفية استخدام بكين لأدواتها الاستثمارية. فبعد عقد كامل من الاعتماد على المشاريع العملاقة والقروض الضخمة، بدأت القيادة الصينية تعيد تقييم نموذجها بشكل جوهري. كان النقاد الدوليون يشيرون منذ سنوات إلى العيوب الخطيرة في الطريقة التقليدية لمبادرة الحزام والطريق، إذ إن بمخرجاتها وجدت الدول نفسها غارقة في ديون يصعب الخروج منها، والمشاريع الضخمة غالبًا لا تُنتج العوائد الاقتصادية التي وعدت بها، والفساد ينخر في عمليات التمويل، كما أن المزايا النهائية للمشاريع قلّما تصل إلى مستوى الشعوب، بل تنحصر غالبًا في النخب المحلية فقط.

في شباط/فبراير من عام 2025، كان هناك إعلان مهم من الحكومة الصينية، ممثلة في وكالة التعاون الدولي للتنمية (CIDCA)، عن توجه جديد نحو مشاريع أُطلق عليها وصف “صغيرة وجميلة”. لم يكن هذا مجرد تغيير في اللغة أو إعادة تسويق للنموذج القديم، بل هو انعكاس حقيقي لإستراتيجية متطورة. فبدلًا من التركيز السابق على السدود الكبرى والمشاريع الحكومية الضخمة التي قد تخدم أغراضًا صناعية أو تصديرية، بدأت الصين تركز الآن على برامج صحية محدودة الحجم، وتدريب مهني موجّه للمجتمعات المحلية، وتحسينات مباشرة في البنية التحتية الصغيرة. ببساطة، بدلًا من بناء سد كبير، أصبحت الصين تُقدم في الوقت الراهن آبارًا للمياه النظيفة، وتُنشئ ورش عمل للتدريب على المهن الحرة، وتُطور مراكز صحية أولية.

هذا التحول في الإستراتيجية لم يأتِ من فراغ كما ذكرنا سابقًا، بل ترافق مع عدة مستويات من الحسابات الإستراتيجية الذكية. على الصعيد الاقتصادي المباشر، تُعدّ المشاريع الصغيرة أقل كلفة، كما أنها تخفف من توليد الديون على الميزانية المركزية الصينية، وهذا أمر حيوي لبكين، خاصة وهي تواجه تباطؤًا اقتصاديًا نسبيًا وضغوطًا مالية متزايدة في الوقت الحالي. أما على المستوى السياسي والاجتماعي، فإن المشاريع المجتمعية المحدودة الحجم تُولّد “ولاءً حقيقيًا” على مستوى الشعوب والمجتمعات المحلية، بدلًا من حصر الولاء في النخب الحكومية فقط. وهذا النوع من التغلغل السياسي يُعتبر أعمق بكثير وأكثر استدامة على المدى الطويل.

أما على المستوى الإستراتيجي الأوسع، فإن هذا النموذج الجديد يمنح الصين ميزة تنافسية حقيقية، حيث يمكّنها من العمل بكفاءة في قطاعات ومساحات لا تستطيع فيها الولايات المتحدة أو الدول الغربية تحقيق نفس القدر من الفعالية. صحيح أن القطاع غير الحكومي الغربي متطور جدًا وراسخ في مجال التنمية، لكن النموذج الصيني يتميّز بدمج فريد يجمع في منظومة واحدة ومترابطة بين الحكومة المركزية، وشركات القطاع الخاص الصيني، والحكومات المحلية التابعة لها. وهذا التناغم هو سر قوتهم في التغلغل السريع.

كان تقرير وكالة التعاون الدولي للتنمية (CIDCA)، الذي صدر في شباط/فبراير 2025 كما سبق الإشارة إليه، بمثابة الإعلان الرسمي عن التحول الإستراتيجي في بكين. لكن الأهم من الحديث عن مجرد بيان رسمي هو ما نراه من ممارسات على الأرض، حيث إن مشاريع مثل “جولة يونان من القلب إلى القلب” (Heart – to – Heart Yunnan Tour) لم تعد تعتمد فقط على المال الحكومي المركزي؛ بل شملت نحو أربعين وحدة تعاونية مختلفة، بما في ذلك مكاتب تمثيل تجارية، وشركات خاصة عملاقة، ومنظمات مجتمع مدني، وجهات حكومية محلية. هذا التخفيف النسبي للاعتماد على الحكومة المركزية وإشراك أطراف متعددة – من شركات خاصة إلى ممثلين محليين – يعكس تطوّرًا حقيقيًا ومهمًا في الآلية الصينية، وتفهمًا أعمق للحاجة إلى تنويع أدوات النفوذ.

مقاربة نموذج النفوذ الاجتماعي الصيني المستجد

ولتفادي ما تقدّم من إشكالات في العلاقة بين الصين والدول المضيفة للاستثمارات، كان هذا النموذج الصيني الجديد الذي بيّناه أعلاه، وتميّز فعلًا باستيعاب إستراتيجي لم تغفله كثير من الحسابات الأميركية التقليدية، وهو أن النفوذ السياسي الحقيقي والمستدام لا ينبع فقط من العلاقة مع الحكومات المركزية أو النخب السياسية، بل يأتي من بناء روابط متينة على مستوى الشعوب والمجتمعات المحلية. هذا التوجّه لا يعني بالضرورة أن الصين تحركها دوافع إنسانية لتحسين رفاهية هذه الشعوب، إنما تدرك بوضوح أن الولاء الشعبي والاجتماعي، والاستقرار السياسي في الدول المستقبلة، أصبح شرطًا لا غنى عنه لضمان استمرار وتدفق علاقاتها الاقتصادية والسياسية بنجاح.

وردًا على ما يرد من إشكالات على آليات النهج الصيني الجديد، نقول أنه من المتسالم عليه أن مشروع توفير آبار للمياه النظيفة أو بناء مركز صحي قد لا يُنتج أرباحًا فورية ضخمة أو عوائد مباشرة على الاستثمار بالطريقة التي يقيس بها الاقتصاديون التقليديون. لكن القيمة الحقيقية تكمن في أنه يخلق علاقة مباشرة وملموسة بين الشعب المضيف والحكومة الصينية. عندما يشرب طفل ماءً نظيفًا من بئر بنتها الصين، تتحسن الصورة الذهنية للصين بطريقة لا تُقدر بثمن عند أهل المحلة. وعندما تُعالج امرأة من مرض خطير في مركز صحي دعمته الصين، تصبح السياسة الخارجية للبلاد واقعًا مؤثرًا بشكل ملموس عند أصحاب الأرض، وهذا هو النفوذ الأكثر استدامة.

هذا التغلغل يُوصف في الأدبيات الأكاديمية والسياسية بـ “القوّة الناعمة”، لكن هذا المصطلح في الحقيقة لا يفي عمق الظاهرة؛ فالأمر يتجاوز ذلك بكثير. ما تفعله الصين هو بناء منظومة متكاملة من الاعتمادية والترابط تعمل على مستويات متعددة في آن واحد. على المستوى الحكومي والسياسي، تخلق القروض الضخمة والاستثمارات الحكومية نوعًا من التبعية السياسية. أما على مستوى الشركات المحلية، فتنجم العقود والفرص التجارية عن مصالح اقتصادية مشتركة. والأهم، على المستوى الشعبي والمجتمعي، فإن المشاريع الخدمية والتعليمية الصغيرة تُولّد ولاءً حقيقيًا. كلّ ذلك يتم بالتوازي مع نقل التدريب والمهارات والخبرة العملية على المستوى التكنولوجي، مع حرص بكين على الاحتفاظ بالأسرار التقنية الحقيقية لنفسها.

الحالة العراقية أنموذجًا.. “التغلغل الناعم” عبر قنوات حزبية وشبه مجتمعية

يتّضح من دراسة الحالة العراقية بوضوح كيف تحاول الصين الانتقال من نمط نفوذ يقوم على العقود الحكومية والتجارة البحتة إلى نمط أعمق يقوم على “تسييج” حضورها الاقتصادي بشبكة من الروابط المجتمعية والثقافية والتعليمية، بما يخلق قاعدة تأييد اجتماعي طويل الأمد تحمي استثماراتها من تقلّبات النخب والسياسة. ويتزامن هذا التحوّل مع صعود العراق إلى موقع الشريك التجاري الأول للصين في الشرق الأوسط من حيث حجم تجارة الطاقة، ومع تراكم استثمارات صينية مباشرة في الاقتصاد العراقي بعشرات المليارات من الدولارات، ما جعل بكين المستثمر الأجنبي الأهم في عدد من قطاعات الطاقة والبنية التحتية.​

على المستوى الاقتصادي والتجاري، بلغ حجم التجارة الثنائية بين الصين والعراق نحو 54 مليار دولار عام 2024، ما جعل الصين أكبر شريك تجاري للعراق، وجعل العراق ثالث أكبر شريك تجاري للصين في العالم العربي ومصدرًا رئيسيًا لوارداتها من النفط الخام. في المقابل، تشير تقديرات حديثة إلى أن إجمالي الاستثمارات الصينية المباشرة في العراق وصل إلى نحو 34 مليار دولار بحلول 2023، وهو ما يضع الصين في موقع المستثمر الأجنبي الأول في البلاد، متقدمًا على الولايات المتحدة والفاعلين الأوروبيين. هذه الأرقام تعكس أنّ العلاقة تجاوزت “العقود النفطية” إلى حزمة أوسع من المشروعات المرتبطة بالطاقة والبنية التحتية والإعمار.

على مستوى “التغلغل الناعم”، توفّر الصين سنويًا عشرات المنح الدراسية للعراقيين (تقدّر بعض الدراسات عددها بحوالي 40 منحة سنويًا في السنوات الأخيرة)، إلى جانب برامج تدريب تقني وإداري لموظفين عراقيين في المؤسسات والمراكز الصينية. كما أُعلن عن برامج صينية للمساهمة في بناء آلاف المدارس في العراق ضمن أطر تمويلية مرتبطة بعقود الطاقة والإعمار، ما يعني أن البنية التحتية التعليمية في عدد من المحافظات سترتبط بالصين كشريك في إعادة بناء التعليم، لا كمستورد نفط فحسب. هذه الأرقام تعكس انتقالًا تدريجيًا من “تمويل مشروعات” إلى “إعادة تشكيل بيئة إنتاج النخب” عبر الاستثمار في التعليم والتكوين البشري المحلي.​

تسجّل العلاقات الصينية–العراقية توسّعًا في مجالات تعليم اللغة الصينية، حيث بدأت جمعيات صداقة ومنظمات محلية في بغداد ومدن أخرى بتنظيم دورات للغة الصينية تستهدف رجال أعمال وطلابًا وشبابًا يبحثون عن فرص عمل أو دراسة مرتبطة بالصين. ورغم غياب أرقام دقيقة شاملة، تشير تقارير أكاديمية إلى أن مئات العراقيين التحقوا خلال السنوات الأخيرة بدورات لغة صينية داخل العراق، وإلى أنّ عدد الطلبة العراقيين في الجامعات الصينية ارتفع من أعداد محدودة جدًا قبل 2010 إلى بضع مئات في منتصف العقد الحالي، في سياق اتساع برامج المنح والتبادل التعليمي. هذا التطور الرقمي، ولو بقي في حدود المئات والآلاف وليس عشرات الآلاف، يعكس بداية تحوّل ملموس في بنية الروابط المجتمعية لصالح شريك آسيوي جديد.​

إلى جانب الأبعاد التعليمية والثقافية، أسست الصين آلية “تبادل أحزاب الحزام والطريق” مع عدد من الأحزاب والقوى السياسية العراقية، بما يشمل أكثر من عشرة تكتلات وحركات حزبية ذات امتدادات اجتماعية في الشارع العراقي، مما يجعلها واحدة من أكبر الشبكات الحزبية الصينية في الشرق الأوسط، ويعكس قدرتها على الوصول إلى شرائح اجتماعية متنوعة عبر هذه الأحزاب.

وتُترجم هذه الآلية إلى حوارات مستمرة بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب المحلية، حيث تغطي قضايا مثل إعادة الإعمار والطاقة، وتُعزّز فهم بكين للديناميات الاجتماعية العراقية. هذا يحوّل العلاقة من مستوى حكومي ضيق إلى شبكة حزبية-شعبية أوسع، بما يدعم الروابط المجتمعية بعيدًا عن التجارة البحتة، ويرسّخ الصين كشريك استراتيجي يفهم تعقيدات المشهد السياسي المحلي.

ورغم أن هذه الآلية لا تُقاس بأرقام تجارية أو استثمارية، فإن توسّعها العددي ونوعية القوى المنخرطة فيها يُظهر تحوّلًا في نمط العلاقة من قناة رسمية–حكومية ضيقة إلى شبكة أوسع تضم فاعلين حزبيين واجتماعيين، ما يمكّن الصين من فهم المزاج المجتمعي والتكيّف مع تحوّلاته، ويُضفي طابعًا مجتمعيًا أكثر رسوخًا على حضورها في العراق.

بهذه الأبعاد الرقمية والمؤسسية مجتمعة، يمكن القول إن الصين انتقلت – أو بدأت عمليًا في الانتقال – من نموذج “الشريك التجاري–الحكومي” إلى نموذج “الشريك المجتمعي–التنموي” في الحالة العراقية، بما ينسجم مع نمط العلاقة الجديد الذي يمنح البعد الشعبي وزنًا إستراتيجيًا في حسابات النفوذ والاستدامة.

التحديات والقيود المرتقبة

لكن هذه الإستراتيجية الصينية الطموحة ليست خالية من التحديات الجوهرية. أولًا، الانتقادات الدولية المتكرّرة والمتنامية عن “فخ الديون” والفساد الإداري والتأثيرات البيئية الضارة والمستدامة للمشاريع الصينية الضخمة. رغم محاولات متكرّرة من بكين للرد على هذه الانتقادات والالتزام بمعايير بيئية أعلى، فإن الوعي العالمي بسلبيات مشروع الحزام والطريق التقليدي نما بشكل متسارع في السنوات الأخيرة.

ثانيًا، التباطؤ الاقتصادي الصيني نفسه يشكّل عائقًا حقيقيًا. الصين ببساطة لا تستطيع الاستمرار في الاستثمار بالمعدلات السابقة إذا كان الاقتصاد الداخلي يعاني من تعثر هيكلي عميق. هذا يفسر جزئيًا الحاجة الملحّة للتحول نحو نموذج “أخف وزنًا” على الميزانية المركزية و”أقل استنزافًا” للموارد الحكومية.

ثالثًا، ظهور منافسة حقيقية وملموسة من دول أخرى، خاصة اليابان والهند والدول الغربية. في عامي 2024 – 2025، شهدنا محاولات حقيقية منظمة من هذه الدول لتقديم بدائل جادة للاستثمارات الصينية. اليابان والهند عاودتا الظهور كشركاء إستراتيجيين في الاستثمار والتنمية في آسيا الجنوبية، والدول الغربية بدأت تفهم ببطء لكن بثبات أهمية الاستثمار الجاد في الدول الناشئة والنامية كأداة جيوسياسية.

أما النقطة الرابعة، فهي تتعلق بالفجوة المستمرة بين الطموح الإستراتيجي الصيني وبين ما يتحقق فعلًا على الأرض. لا شك أن الحكومة الصينية تتقن التخطيط الإستراتيجي ووضع التصورات العامة على الورق، لكنّها تصطدم عند التنفيذ بعقبات حقيقية في الدول المستقبلة. هذه العقبات تشمل نقص الكفاءة الإدارية المحلية، وضعف المؤسسات والحكم الرشيد، وعدم الاستقرار السياسي والأمني المتكرّر، إضافة إلى التغيرات المفاجئة في السياسات المحلية والدولية.

بناء على تقدم، ما يجب أن نفهمه بوضوح هو أن إستراتيجية الصين في العالم النامي هي جزء لا يتجزأ من رؤيتها الأوسع والأعمق للنظام الدولي الذي تحاول بلورته. وفق التصور المرسوم، يبدو الصين تسعى بوضوح لإعادة تشكيل النظام الدولي برمته على أسس تختلف عن نظام ما بعد الحرب الباردة. مبادرة الحزام والطريق، والتحول الأخير نحو المشاريع المحلية الأصغر، والاستثمارات الهائلة في الطاقة النظيفة والتكنولوجيات المستقبلية، كلّ هذا يصب في رسالة واحدة واضحة للعالم مفادها أن المسار الجديد للتنمية والتقدم لا يحتاج إلى المرور حتمًا عبر بوابة واشنطن والولايات المتحدة، بل يمكنه أن يمر مباشرةً عبر بكين والصين.

لقد أثبتت الصين قدرتها على بناء البنية التحتية الضخمة، لكن التحدّي الأكبر والأهم الآن هو بناء نظام دولي بديل حقيقي يرتكز على قيم ومبادئ مختلفة عن النظام القائم على الليبرالية الغربية، وهذا الأمر يتطلب رؤية فكرية حقيقية وقدرة على إقناع الشعوب والحكومات بأن هناك بدائل جديرة للنموذج الغربي. صحيح أن الصين لم تتقن بعد هذا السباق الأيديولوجي والإستراتيجي الأعمق، لكنّها تُظهر قدرة ملحوظة على الاستفادة من التجارب والتطور السريع.
د. محمد حسين سبيتي – ميدل إيست أونلاين

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.