يخطئ من يبحث عن معايير النصر والهزيمة للحرب على غزة، في ثنايا وتفاصيل “مشاريع التهدئة وصفقات التبادل” التي يجري تداولها هذه الأيام بكثافة…ثمة حاجة إلى الغوص أعمق وأبعد من ذلك، ثمة حاجة إلى نظرة من علٍ للمشهد ورؤية الصورة الكلية من شرفة أكثر ارتفاعاً.
نتنياهو صاحب شعار “النصر المطلق”، ولا شيء دونه، قدّم تعريفات تتفاوت في “سعتها” لمفهوم النصر المطلق من وجهة نظره…لم يخف رغبته في “تنظيف” قطاع غزة من أهله وسكانه، وليس من مقاومته فحسب، وعلى وقع تأكيداته المتكررة، بدأت المنظمات الاستيطانية، تستقبل طلبات البناء والشراء في “نيتساريم”…أراد تحقيق نصره المطلق على جثث مقاتلي المقاومة وقادتها، تدمير كتائب حماس وتفكيك منظومتها السلطوية في القطاع، احتلال مستدام، وفي الحد الأدنى مديد (10 سنوات) للقطاع، فصل مستقبل هذا الشريط الضيق عن بقية الأراضي الفلسطينية، وفصل سكانه عن بقية شعب فلسطين.
كل هذا لم يحدث، ولن يحدث، وثمة قطاعات متزايدة من الإسرائيليين والغربيين وعرب الاعتدال، باتت على قناعة تامة، بأن حماس ليست بناية ليجري هدمها، أو نفقاً ليتم تدميره، وثمة قناعة ثانية، تولّدت عن الأولى، بأن مقاومة شعب فلسطين، أكبر من حماس وأبعد منها، لم تبدأ بها ولن تنتهي عندها، وأنها باتت متغلغلة في “كروموسومات” الفلسطينيين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، وكلما جاء جيل جديد منهم، بدا أكثر وعياً وصلابة واستمساكاً بحقوقه من الأجيال التي سبقته، لكأنهم الفولاذ، كلما سقيته ازداد صلابة… تلكم حقيقة، تتكشف مع كل جولة من جولات هذا الصراع المديد والمرير، وتظهّرت في “الطوفان” كما لم يحصل من قبل.
على أهمية السؤال عن كيفية انتهاء هذه الحرب، والشروط التي ستحيط بوقفها، وملامح اليوم التالي لها، فإن “الهزيمة الاستراتيجية لإسرائيل” تحت قيادة نتنياهو، قد وقعت وانتهى الأمر، وهيهات أن ينجح من سيخلفه في لملمة ذيولها وتصفية آثارها، وهذه الخلاصة ليست من “بنات تقديرات” كاتب هذه السطور وحده، بل هي خلاصة سلسلة لا تنتهي من المواقف والتقديرات والنبوءات التي صدرت عن قادة عسكريين ومفكرين إستراتيجيين أميركيين وإسرائيليين، ليس ثمة متسع في هذه المقالة لسردها، وسنكتفي هنا بالتأشير على أبرز ملامح هذه الهزيمة التي تطل برأسها من تحت الركام الثقيل في مدن القطاع وبلداته:
أولى هذه الملامح؛ وتتصل بخطاب المظلومية الصهيوني، الممتد من السبي البابلي إلى الهولوكوست… “إسرائيل المظلومة”، بوصفها الإطار الكياني لمظلومية اليهود في العالم، تتحوّل في أنظار العالم إلى “إسرائيل الظالمة”…الضحية تتحوّل إلى جلاد، وتستلهم أساليبه وأدواته الإجرامية، بل وتضيف إليها كل ما تفيض به غرائز الثأر والانتقام البدائية، السابقة لقواعد “الاجتماع البشري” ونواميسه…وإذا كان بعض الناس يستطيع لبعض الوقت، “تفهّم” الردود الإسرائيلية الانتقامية القاسية والمنفعلة، فإن هذه الحال، لن تشمل كل الناس، طوال الوقت، وإجرام “إسرائيل” و”جيشها” وميليشيات مستوطنيها، هو المسؤول عن هذا الانقلاب العالمي في النظرة إلى “إسرائيل”، وانتقالها من وضعية “المظلوم” إلى وضعية الظالم.
ثاني هذه الملامح؛ مؤسسة على الأولى، وفحواها: أن “إسرائيل” تخسر معركة “الشرعية الأخلاقية”، وتلكم واحدة من “مهددات الأمن القومي” وفقاً لتقديرات معهد دراسات “الأمن القومي”، سابقة للسابع من أكتوبر… خسرت “إسرائيل” معركة “الشرعية” على جبهتين: داخلية في المعركة على القضاء والمحكمة العليا التي سبقت الحرب، وخارجية، في الحرب البربرية على أطفال فلسطين ونسائها وشيوخها… لم يسبق لصورة “إسرائيل” منذ قيامها، أن بلغت هذا الحضيض في عقول مليارات البشر في العالم وأذهانهم، وشكراً لثورة الإعلام والتواصل الاجتماعي والاتصالات التي جعلت ذلك ممكناً…
قد تستطيع أي جهة، دولة كانت أم منظمة وحتى الأفراد، خسارة “الصورة” في لمحة بصر، وكنتيجة لقرار أو سلوك في لحظة خاطفة، لكن استردادها وترميمها، عملية معقدة وشائكة وطويلة الأجل، ونتائجها لم تكن يوماً، مضمونة لأحد…الضرر وقع على “إسرائيل”، وهو ضرر فادح، وهيهات أن تنجح في إصلاحه…وأحسب أن “الصحوة” التي تجتاح مدن الغرب وجامعاته وأجياله الشابة، ليست سوى أول القطر، وأن سهام الغضب والإدانة والتنديد، ستظل تنهمر على كيان الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري والتطهير والإبادة، لأجيال قادمة…لقد نجحت غزة في تقسيم العالم إلى فسطاطين: فسطاط الخير والحق والعدالة وفسطاط الشر والتطهير والإبادة، و”إسرائيل” التي طالما فاخرت بأنها ظلت مع الجانب الصحيح من التاريخ، تستقر اليوم في الجانب المظلم منه.
ثالث هذه الملامح؛ انتقال القضية الفلسطينية من ذيل اهتمامات السياسة الخارجية للإقليم ودول العالم، إلى صدارة أولوياته الداخلية، وتحوّلها إلى “رقم صعب” في الحملات الانتخابية الرئاسية (الولايات المتحدة) والبرلمانية (الاتحاد الأوروبي)…تلكم حقيقة ساطعة، لن تحجبها كلمات قادة “إسرائيل”، الذين لم يدخروا جهداً لطمسها وتهميشها ودفعها إلى زاوية معتمة من جداول أعمال العرب والعالم…كل ذلك انهار دفعة واحدة، وستحتاج “إسرائيل”، إلى عشر حكومات كحكومة نتنياهو، لكي تعاود ما بدأته خلال العقدين الفائتين… تلكم هزيمة استراتيجية لمن ادعى بأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ليس سوى تفصيل صغير، على جدول أعمال الشرق الأوسط المزدحم بالصراعات والتهديدات والأخطار والتحديات…نهضت فلسطين من جديد، وأعادت الصراع مع عدوها، إلى سيرته الأولى، كصراع وجود، بين مغتصب للأرض والحقوق، وشعب يأبى التخلي والتفريط بحقوقه وأرضه ومقدساته.
رابع هذه الملامح؛ أن “إسرائيل” التي قدمت نفسها للعالم، على أنها “واحة الديمقراطية” المسيّجة بأعتى “جيش” وأطول ذراع أمنية، سجلت إخفاقاً مذلاً في مسعاها لتثبيت صورتها تلك، بعد أن تأكد للقاصي قبل الداني، أنها أعجز عن حماية نفسها، دع جانباً حماية الآخرين، وأنها بالفعل “نمر من كرتون” لا يقوى الصمود والثبات أياماً قليلة، إن توقف عنها شريان الغذاء والأوكسجين الممتد إلى واشنطن وبروكسيل ولندن وبرلين وباريس، رهانات رعاتها على دورٍ قيادي ضامن وموثوق لها، تبخرت في السابع من أكتوبر وفي الرابع عشر من أبريل، وهي آخذة في التحول من ذخرٍ للغرب الاستعماري وحلفائه في الإقليم، إلى عبء عليهم، يتعين دائماً أخذ أمنه وبقائه في الاعتبار عند إعداد الميزانيات أو بلورة الاستراتيجية الخاصة بهذه المنطقة…هزيمة من العيار الثقيل، سيكون لها ما بعدها، إن لم يكن اليوم وغداً، ففي السنين القادمة.
خامس هذه الملامح؛ أن “إسرائيل” بدأت تنتقل شيئاً فشيئاً من “دولة اليهود” وملاذهم الآمن الأخير، وعنوان وجودهم ونقطة جذبهم المركزية، إلى عبء على يهود العالم، فهم يدفعون اليوم، ثمن إجرام قادتها وجنرالاتها، وهم يسارعون اليوم، إلى التنصل من أفعالها القذرة التي تحيل حياة الملايين منهم، إلى جحيم لا يطاق، ولعل هذا ما يفسر تنامي الأصوات اليهودية الرافضة للحرب على غزة، خصوصاً في أوساط الجيل الشاب منهم، وانخراطهم في أنشطة تضامنية مع فلسطين، بنسب تفوق نسبهم في مجتمعاتهم…بعد اتجاهها إلى التحوّل من ذخر إلى عبء على دول الغرب الاستعمارية، “إسرائيل” تتحوّل من ذخر لليهود إلى عبء عليهم…هذا هو المنحى التاريخي للأحداث، وستحتاج “إسرائيل” إلى “معجزة” لوقف جريان هذه التحوّلات…يُملي ذلك بالطبع، بلورة استراتيجيات فلسطينية وعربية، للتمييز بين يهود وصهاينة، بين من يتضامن مع “إسرائيل” ومن يشهر الهراوات في وجوه الطلبة المعتصمين في كولومبيا وهارفرد.
سادس هذه الملامح؛ ويتصل باليوم التالي لـ”إسرائيل” (وليس لغزة) بعد الحرب، والنذر والمعالم المتلبدة في سماء هذا الكيان، من انقسامات داخلية، وتنامي دور الدين في الدولة والسياسة والمجتمع، وتفاقم حدة الاستقطابات الداخلية، وظهور الميليشيات المدججة بالسلاح والكراهية، وتزايد نسب المتدينين في المجتمع، وغير ذلك من مظاهر، تعطي أملاً جديداً لأصحاب نظرية “سقوط القلعة من الداخل”…هنا يتعين القول، إن نتنياهو – على رداءته وإجرامه – لا يصلح أن يكون مشجباً تعلق عليه، أوزار السياسات والممارسات الفاشية لهذا الكيان، فالرجل الذي استمتع بلقب “ملك إسرائيل”، لم يصبح ملكاً لها، إلا لأنه يعبّر عن مواقف وغرائز قطاعات واسعة من مجتمعها، وثمة من دون ريب من هو أكثر رداءة وإجراماً منه، في قلب حكومته و”الكنيست”.
سابع هذه الملامح؛ ويتعلق بنا هذه المرة، فلسطينيين وعرباً، فرهانات الكيان على سلطة وأنظمة متخاذلة، قصيرة مهما طالت، والبذور التي زرعها السابع من أكتوبر والطوفان والصمود الأسطوري لغزة، شعباً ومقاومة، ستتفتح قريباً، إن لم يكن اليوم، فغداً، وسيكون لها دور “المحفز – Catalyst”، المعطوف على كل أسباب الانفجار الكامنة في بلداننا ومجتمعاتنا، فحالة الاستنقاع التي طالت واستطالت، وأخفقت “عشرية الربيع العربي” في اجتيازها، ما زالت مستمرة، وتحتفظ بجميع أسبابها ومسبباتها، معطوفة على أداء رسمي عربي، يراوح ما بين العجز والتواطؤ والتآمر، إلا من رحم ربي…
أضف إلى ذلك، أن “تكنولوجيا الفقراء” أسهمت في تقليص فجوة موازين القوى بين فقراء العالم وأغنيائه، وبما يغري لتجريب سيناريوهات “اقتحام القلعة”، تماماً كما فعلت غزة ويفعل حزب الله في جنوب لبنان، وأنصار الله على ضفاف البحر الأحمر وباب المندب…هي مرحلة جديدة، دخلتها المنطقة من بوابة السابع من أكتوبر على أوسع نطاق، بعد أن اختبرتها من قبل على نحو جزئي ومحدود.
تلكم إذاً، بعض ملامح الهزيمة الاستراتيجية وإماراتها، التي لن تنفع معها، مكاسب آنية من نوع، كم عدد المحتجزين الذين سيتم استردادهم في المرحلة الأولى للتهدئة، وما إن كان يتعين إخراج مروان البرغوثي إلى غزة أم الضفة بعد الإفراج عنه…نصر نتنياهو المطلق، لن يخفي هزيمة كيانه الاستراتيجية، دع جانباً، أنه أضغاث أحلام، وأصعب منالاً.
عريب الرنتاوي – الميادين
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.