على الرغم من مرور ما يقرب من عشر سنوات على خروج مناطق الشمال السوري المتاخمة للحدود التركية، عن سيطرة الدولة والحكومة الشرعية في سوريا، ووقوعها تحت النفوذ شبه الكامل لتركيا، التي تسيطر عليها ميدانيّاً بواسطة قواعدها ونقاطها العسكرية وأذرعها الفصائلية المسلحة التي تحظى بالرعاية والتمويل والتبنّي السياسيّ التركيّ، وعلى الرغم من استحداث أنقرة لما أسمته “الحكومة السورية المؤقتة” التي انبثقت عن “الائتلاف السوري المعارض”، ولاحقاً إنشاء ما أطلقت عليه “الجيش الوطني السوري” الذي شكّلته من عدد من الفصائل والألوية والكتائب والمجموعات التي اكتظّ بها المكان منذ العام 2012، إلّا أنّ كل تلك الأجسام العسكرية والسياسية التي جهدت أنقرة في محاولات إضفاء الطابع الرسميّ والمؤسساتي عليها، لم تستطع تقديم نموذج جيد أو مقبول للحكم والإدارة.
إذ لم تتوقّف الصراعات العسكرية والخلافات السياسية ومحاولات الإلغاء والتصفية بين تلك الجهات والقوى والفصائل أبداً، ولم تتمكّن من الانخراط في أي عمل مؤسساتي لافت أو الركون إلى مرجعية واحدة يقبل بها الجميع عند النزاع، وذلك على الرغم من تبعية كلّ هؤلاء للمرجعية التركية في نهاية المطاف، سواء عن رضى أو بالقوة.
ولهذا أسبابه العديدة بالطبع، قد يكون أبرزها تغيّر خطط ومشاريع أنقرة الخاصة بالشمال السوريّ، وخضوعها للمصالح التركية الخالصة ومتغيّراتها ومستجدّاتها. ولعلّ في الأحداث الأخيرة المتتالية التي تشهدها منطقة الشمال، سواء على المستوى الشعبي أو العسكريّ، ما يحمل الكثير من المعطيات عن الواقع القائم وتداعياته، والمؤشرات على مستقبل قوى الأمر الواقع المسيطرة.
لم تعد التظاهرات التي تتصاعد بشكل يومي في وجه الأجهزة الأمنية التابعة لأبي محمد الجولاني وتنظيمه الإرهابي “هيئة تحرير الشام”، والتي تطالب بإسقاط الجولاني وحلّ تلك الأجهزة، هي الحدث الأوحد في الشمال السوريّ، فإلى جانب مشهد الـ 25 تظاهرة التي شهدتها مناطق إدلب وريفها يوم الجمعة الفائت، توجّهت الأنظار إلى مناطق سيطرة ما يُعرف بـ “الجيش الوطني السوري”، أو منطقة “درع الفرات” التي تخضع للنفوذ التركي المباشر، وذلك بعد قيام بعض قيادات “المجلس العسكري” في “فرقة المعتصم” المنضوية في “الجيش الوطني”، بمحاولة انقلاب على قائد الفرقة المدعو “معتصم عباس”، عن طريق عملية أمنية جرت خلال اجتماع في مركز الفرقة في مدينة “مارع” الواقعة في الريف الشمالي لمحافظة حلب.
أفضت العملية إلى اعتقال عباس وبعض معاونيه، ومقتل شقيقه الأكبر أحمد عباس، وإصدار بيانات تتهمه وإخوته بالخيانة والفساد واستغلال السلطة ونهب المال العام، وبالعلاقة مع الجولاني والتنسيق معه لشقّ صفوف “الجيش الوطني” واستمالة ما أمكن من قادته وفصائله. لكنّ فصيلاً من “الجبهة الشامية” التابعة لـ “الفيلق الثالث” في “الجيش الوطني”، تدخّل بسرعة وبقوة وأطلق سراح عباس ومعاونيه، واعتقل قيادات المجلس العسكري، وعلى رأسها مصطفى سيجري وعلاء الدين أيوب (الملقّب بالفاروق أبي بكر) والمسؤول الأمني أبو اسكندر، وسط تأهّب واستنفار عسكري للمجموعات التي تتبع لمختلف تلك الأطراف.
اللافت في هذا الحدث، هو مؤشّراته التي تؤكّد أنّ تلك الفصائل، وإنْ أعلنت، أو أُجبِرت تحت الضغط التركيّ، على الانضمام إلى “الجيش الوطني”، والانضواء تحت السلطة السياسية لما يُسمّى بـ “الحكومة المؤقتة”، إلّا أن النزعات والمصالح الفردية والعائلية والقبلية هي ما يحكم هذه الفصائل وقياداتها ومسؤوليها، فلا سلطة حقيقية لجيشٍ أو حكومة، ولا قضاء (على الرغم من وجوده الشكليّ أيضاً) قادر على حلّ النزاعات والخلافات أو التحقيق في أحداث أمنية أو حالات فساد وما شابه.
وتلك سمة تنطبق على جميع تلك الفصائل والمجموعات الجاهزة للتقاتل، من دون الخضوع لأيّ سلطة عليا أو مرجعية قانونية على الأقل، عند المساس بمصالح قادتها ومتزعّميها. وذلك على الرغم من وجود “منسّق” تركي يستطيع فرض أيّ أمر على الجميع. وذلك مؤشّر آخر يقود إلى حقيقة وجود مصلحة لدى أنقرة في إبقاء الوضع على ما هو عليه، رغم “المأسسة الشكلية” التي تُصدّرها للخارج في تلك المناطق.
ولا يخفى الهدف التركيّ من كل هذا، حتى على العديد من النشطاء السوريين في تلك المناطق، وهو إيجاد مبرّرات جاهزة لدى أنقرة، حين يأزف موعد التخلّص من جميع هؤلاء. وهو ما بات يؤرّق العديد من قيادات تلك الفصائل التي بات همّها الأكبر ضمان مستقبلها الشخصي عن طريق الاستحواذ على أكبر قدر من أموال المعابر والإتاوات والضرائب والمعونات الخارجية.
على الجهة الموازية في إدلب وريفها، حيث السيطرة الكاملة لأبي محمد الجولاني و”هيئته”، تتسارع الأمور بشكل كبير من دون أنْ يبدو أن هناك أفقاً واضحاً لسيرها. فالتظاهرات التي تطالب بإسقاط الجولاني وحلّ أجهزته الأمنية، تتزايد يوماً بعد يوم، حتى بلغت 25 تظاهرة في إدلب وبلداتها وريف حلب الشمالي يوم الجمعة الفائت.
واللافت هنا أيضاً، أنّه، وعلى الرغم من تزايد أعداد المتظاهرين وتصاعد حدّة الغضب على الجولاني وجهازه الأمنيّ، إلّا أنّ الأخير استطاع بالفعل، ومن خلال الترغيب والترهيب، أنْ يُحدث بعض الاختراقات في حركة الاحتجاجات.
وحصل ذلك من خلال اجتماعاته المكثّفة الأخيرة بالفعاليات الاجتماعية والعشائرية، وخطاباته المتكررة التي وعد فيها بمعاقبة المتجاوزين في مسألة التحقيقات مع المتّهمين بالخيانة والتخابر مع “جهات معادية”، ثم تهديده الصريح في خطابه الأخير أمام تلك الفعاليات، والذي قال فيه صراحةً، إنّه لن يسمح أبداً بأيّ تجاوز لـ “الخطوط الحمر”، وإنّ أيّ فعلٍ كهذا سيُقابل بحزم وقوة. وقد أقدم جهازه الأمني بالفعل، يوم الجمعة الماضي، على محاولات تفريق التظاهرات بالقوة، واقتحام بعض القرى والبلدات (خصوصاً في بنّش والدانا ودير حسّان وترمانين وجبل الزاوية ودارة عزّة) واعتقال عدد من الناشطين في التظاهرات والدّاعين إليها.
لقد كان متوقّعاً أنْ تؤدّي عملية اغتيال الرجل الثاني، سابقاً، في “هيئة تحرير الشام”، الخارج حديثاً من سجون الجولاني، ميسّر الجبوري (أبي ماريّا القحطاني)، والذي يُتّهم الجولاني نفسه بالوقوف خلفها، إلى تصاعد الغضب في وجه الأخير وحدوث انشقاقات عسكرية جديدة، خصوصاً أنّ للقحطاني أنصاراً كثراً داخل “الهيئة”، لكنّ الواضح أنها أنتجت خوفاً جديداً من مصير مشابه لمصير القيادي البارز السابق.
ففي الأيام الأخيرة خصوصاً، بدأت أصوات “الدعوة إلى التعقّل والتكاتف” تعلو على ألسنة عددٍ من القياديين والكوادر، ومنهم بعض الذين أفرج عنهم الجولاني مؤخّراً، وتحوّل هؤلاء من المطالبة الصريحة بإنهاء السلطة الفردية للجولانيّ وحلّ الأجهزة الأمنية، وفي مقدّمها “جهاز الأمن العام” المُتّهم بالتعذيب وإخفاء مئات المعتقلين وقتل العديد منهم أثناء التحقيق، إلى الدعوات إلى الإصلاح والوحدة وعدم التفريط بقوة “الهيئة” ومكانتها.
وقد حاول العديد من هؤلاء التسلّل إلى وسط التظاهرات وإلقاء الخطب والمواعظ التي تخدم هذا الهدف. لكنْ يبدو أنّ هؤلاء لم يتمكّنوا من التأثير بالشريحة العريضة التي تقوم عليها تلك الاحتجاجات.
لكنّ ما يُعوّل عليه الجولاني، إلى جانب الترغيب والترهيب، هو بعض العوامل التي يمكن لها أنْ تؤدّي إلى فشل الحراك، أو على الأقل عدم بلوغه أهدافاً متقدّمة تُخيف الجولاني. ومِن ذلك ركوب بعض الجهات الفصائلية لموجة الاحتجاجات، والذي قد يُظهر الأمر وكأنّه محاولات انقلابية عسكرية على “الهيئة”، ومن تلك الفصائل: “جيش التحرير”، و”حرّاس الدين” (وهو الفصيل الذي يقوده التكفيري المعروف أبو مالك التلّي)، و”جيش الأحرار”، و”تيار آل بدوي” في بلدة “بنّش”، والذي اختلف مع الجولاني على مسألة إطلاق المعتقلين.
وهؤلاء جميعاً من الصعب أنْ يلتقوا مع الشريحة الشعبية الرافضة لسلطة الفصائل العسكرية وسطوتها. ومن جهة أخرى، انضمام شخصيات مدنية أو دينية عملت سابقاً في صفوف ومكاتب “هيئة تحرير الشام” قبل أن تختلف مع الجولاني، إلى الحراك، وبالتالي هم لا يحظون بالثقة الكافية بين صفوف المحتجين المدنيين.
وثمّة عامل ثالث مهمّ أيضاً، وهو غياب الشخصيات والفعّاليات الناشطة في مجال السياسة و”المجتمع المدني” عن ساحات الحراك، وذلك خوفاً من تضييق أجهزة “الهيئة” على أعمالها ومصالح قادتها وناشطيها. إضافة إلى وجود شريحة ثالثة تدعو إلى المطالبة بـ “الدولة المدنية” وإنهاء حكم الفصائل العسكرية، وهؤلاء لا ينتمون إلى أيّ جهات سياسية أو جمعيات “مدنية”، وقد حظي خطابهم بانتباه عدد كبير من المحتجّين في الساحات مؤخّراً، لكنهم لا يملكون القوة والتنظيم الكافي لمقارعة الجولاني وأجهزته أوّلاً، ولا مواجهة تغلغل “الحراك الفصائلي” في الساحات من جهة أخرى.
ولأنّ الجولاني يعرف جيّداً كلّ تلك التناقضات التي تحكم الساحات المنتفضة ضدّه، ولأنّه أيضاً، استطاع أنْ يحتوي، إلى حدّ كبير، الخلاف الداخلي الأخير داخل جسم “الهيئة” العسكري والأمنيّ، والذي نتج عن مسألة الاتهامات بالخيانة والاعتقالات والتعذيب، فلم يبقَ أمامه سوى انتظار الفرصة السانحة للسيطرة على الحراك وإنهائه بالقوة المسلّحة، بعد افتعال مشكلات تمكّنه من إيجاد “مبرّر شرعيّ وقانوني” بهدف “حفظ المُحرّر ومكتسباته” على حدّ تعبيره في خطابه الأخير.
الجدير بذكره هنا، أنّ كل تلك الأحداث والتطورات، سواء في منطقة سيطرة ما يُسمّى بـ “الجيش الوطني السوري”، أو في منطقة سيطرة الجولاني و”هيئته” في إدلب، تجري تحت سمع وبصر أنقرة التي تملك القدرة والنفوذ الكافيين على التدخّل والحسم، لكنها لم تفعل ذلك حتى اللحظة، بل يبدو أنّها تعمد إلى إبقاء جميع تلك الأطراف في حالة ضعف وتشرذم، مع إمساكها بجميع خيوطهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، إلى حين نضوج “الطبخة السياسية” التي تضمن لها تحقيق مصالحها في الإقليم، بعد فرض قراراتها الأخيرة على جميع هؤلاء.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.