أصدرَ مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكي تقريرًا يتنبأ بشكل العالم في عام 2040، معتمدًا في تقييمه على آراء أكاديميين ومحللين ومسؤولين استخباراتيين، لرسم سيناريوهات تقريبية تساعد صناع القرار الأمريكيين على وضع الإستراتيجيات والتنبُّه مبكرًا للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في أمريكا والعالم.
ويصدِرُ المكتب كل أربع سنوات، منذ 1997، تقريرًا بعنوان «الاتجاهات العالمية»، يقيِّم فيه أهم الاتجاهات والتقلبات السياسية التي ستؤثِّر إستراتيجيًّا في الولايات المتحدة. ويُصدِر التقرير مجلس الاستخبارات الوطني، التابع أيضًا لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية.
ويُشرف مكتب مدير الاستخبارات الوطنية على أفرع المخابرات الأمريكية المتعددة، المعروفة باسم «مجتمع الاستخبارات»، والمديرُ مستشارٌ للرئيس الأمريكي، يعينه بنفسه ويوافق عليه مجلس الشيوخ، وحاليًا تشغل أفريل هاينز المنصب منذ يناير (كانون الثاني) 2021، وهي أول امرأة تتولاه، وعملت أفريل في عهد أوباما نائبةً لمدير «وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه)»، ونائبةً لمستشار الأمن القومي.
مسار التقرير
ينقسم التقرير إلى ثلاثة أجزاء رئيسة: «القوى الهيكلية»، ثم «الديناميات الصاعدة»، ثم ينتهي بسرد خمسة سيناريوهات متوقعة لشكل العالم والنظام العالمي في عام 2040.
يناقش جزء «القوى الهيكلية» أربعةَ مجالات أساسية هي: الديموغرافيا، والبيئة، والاقتصاد، والتكنولوجيا، واختارَ مؤلفو التقرير هذه المجالات تحديدًا لأنهم يرونها مهمةً في تشكيل المستقبل، وعالمية التأثير، ولأنها مجالات تتوفر فيها المعلومات والدلائل التي تجعل توقع مساراتها مُمكنًا بثقة أكبر.
ويتناول الجزء الثاني كيفية تقاطع هذه القوى الهيكلية معًا، وتفاعلها مع عوامل أخرى، لتؤثر في «الديناميات الصاعدة»، وذلك على ثلاثة مستويات: 1- المجتمعات والأفراد، 2- الدول، 3- النظام العالمي، وتقلُّ موثوقية التحليلات في هذا الجزء أكثر، بسبب تنوع الاحتمالات والخيارات البشرية الممكنة في المستقبل.
ويأتي الجزء الثالث من التقرير ليتناول عدة تقلبات كبرى، ويوظِّفها لرسم خمسة سيناريوهات للعالم في 2040، ويشدد كاتبو التقرير على أن هذه السيناريوهات ليس المقصود منها أن تكون توقعات؛ بل لتوسعة أفق الاحتمالات، واستشراف السياقات المختلفة التي قد تنتج من تداخل القوى الهيكلية والديناميات الصاعدة مع التقلبات الكبرى.
خمس سمات أساسية للتغيير
يظهر في التقرير بمختلف أقسامه خمس سمات أساسية للمستقبل:
«التحديات العالمية – Global Challenges»:
تظهر هذه التحديات حول العالم، دون تدخل بشري مباشر في أغلبها، لتضغط على المجتمعات وتسبب صدمات قد تكون كارثية غالبًا، تحدياتٌ مثل: التغير المناخي، والأمراض، والأزمات الاقتصادية، ومشاكل التكنولوجيا.
فمثلًا، تسبَّب وباء «كوفيد-19» في أكبر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية، وستستمر توابعه الصحية والاقتصادية والسياسية والأمنية لسنوات. وستزيد آثار التغير المناخي – غالبًا – من سوء أزمات الأمن الغذائي والمائي، والهجرة، والتحديات الصحية، وتراجع التنوع الحيوي في البيئة.
وتستمر تقنيات جديدة في التطور والظهور، ثم الاختفاء، بسرعة متزايدة تسبِّب اضطرابًا في أنماط العمل (الوظائف) وفي المجتمعات، وفي التصنيع، وفي طبيعة القوة والسلطة، وفي معنى أن تكون إنسانًا.
وستستمر ضغوط الهجرة العالمية، على الدول التي يهاجر منها الناس والدول التي تستقبلهم، فمثلًا، في عام 2000 عاشَ 100 مليون في دول هاجروا إليها، وزاد الرقم في 2020 ليصل إلى 270 مليونًا يعيشون في دول المهجر.
هذه الأزمات والتحديات ستتقاطع وتتتابع بطرقٍ يصعب توقعها، وستوسِّع من مفهوم ومساحات «الأمن القومي» الذي لن يقتصر على الدفاع العسكري ضدَّ الجيوش والمخاطر الأمنية التقليدية.
«الانقسام – Fragmentation»
تصعِّب حالة الانقسام العالمية المتزايدة من التعامل مع التحديات السابق ذكرها، وللمفارقة، فإن الزيادة المستمرة في الاتصال والتواصل من خلال التكنولوجيا والتجارة وحركة الأفراد، هي نفسها التي تسببت في انقسام وتفكك الدول والشعوب.
«الاتصال Connectivity»، بمعنى الترابط والتشابك، سيساعد البشر على توفير مستويات معيشة أفضل، ولكن سيتسبب في خلق وزيادة التوترات، في المجتمعات المنقسمة والمُختلفة على القيم وعلى أهدافها الأساسية، وصولًا إلى الحكومات التي ستوظف القمع الرقمي للسيطرة على الشعوب.
«اختلال التوازن – Disequilibrium»
التحديات العالمية وآثارها المُتجاوزة للدول والشعوب، يفوق حجمها قدرة الأنظمة والهيكليات الموجودة اليوم على معالجتها، ما يفتح الباب للسمة الثالثة للاتجاهات العالمية: اختلال التوازن.
ويُقصد بها اتساع الفجوة بين الاحتياجات والتحديات، وبين الأنظمة والمؤسسات التي تتعامل معها وتحاول معالجتها، مثل الدولة والمنظمات الإقليمية والدولية، وتظهر حالة اختلال التوازن في افتقار النظام العالمي، بمؤسساته وتحالفاته وقواعده وتقاليده، للإعداد الجيِّد لمواجهة المشكلات العالمية التي تواجه الشعوب، وأقرب مثال على ذلك جائحة «كورونا» وتأخُّر الاستجابة العالمية معها.
وعلى صعيد المجتمعات والدول، من المرجح أن تظهر فجوة مستمرة ومتزايدة بين ما تريده الشعوب وما يمكن أن توفره الحكومات والشركات. ونتيجةً لهذه الاختلالات، تضعفُ النُّظم والأُطر القديمة، بما يتضمن المؤسسات والعادات والتقاليد وأنظمة الحكم السياسية، وتتآكل أحيانًا، وستضطر المجتمعات البشرية لمناقشة نماذج جديدة لكيفية «بناء الحضارة».
«التنازع – Contestation»
يأتي التنازع داخل المجتمعات والدول والنظام العالمي نتيجةً مباشرةً للاختلال في التوازن وما يسببه من تزايد التوتر والانقسامات والمنافسات، وستصبح السياسة الداخلية في الدول المختلفة مُتقلبةً وخلافيَّة، ولن يُستثنى من هذه الظاهرة أي منطقة أو أيديولوجية أو نظام حكم.
وعلى الصعيد الدولي، ستصبح البيئة الجيوسياسية أكثر تنافسية، في ظل تحدي الصين للولايات المتحدة والنظام العالمي الذي يقوده الغرب، وستتسابق الدول لتأسيس واستغلال القواعد الجديدة للنظام العالمي.
«التكيُّف – Adaptation»
أي لاعب دولي يسعى للتفوق على منافسيه يجب أن يتحلَّى بقدرة على التكيُّف والتأقلم، وذلك في قضايا مثل التغير المناخي والديموغرافي والتكنولوجي.
وفي حالة التغيُّر المناخي، قد يتطلب التكيف تنفيذ خطوات عديدة، بعضها غير مُكلف، مثلَ: استعادة الغابات التي خربها الإنسان، ومنها المعقد، مثل: بناء جدران بحرية، أو التخطيط لنقل مجموعات بشرية كبيرة من مناطق سكنها إلى مناطق أخرى.
وستكون التكنولوجيا وسيلةً فعالة للتكيف، فيمكن أن تزيد الدول من الفرص الاقتصادية بتوظيف تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وهو ما سيختلف من دولة لأخرى، وسيعزز من التفاوت الاجتماعي ويبرزه أكثر.
وستكون الدول الأكثر فعالية هي التي تستطيع كسب الثقة والتوافق داخليًّا على الخطوات الجماعية الكبيرة التي يتطلبها التكيف، وستحتاج الحكومات للاستفادة من خبرة وقدرات وعلاقات الفاعلين غير الحكوميين، ليكمِّلوا الجهود الحكومية.
تأثيرات «كوفيد-19» الممتدة للسنوات القادمة
يخصص التقرير جزءًا في بدايته للحديث عن جائحة «كورونا» وتأثيرها في الاتجاهات العالمية، إمَّا بتسريعها وإما بإبطائها، وشبَّه التقرير الجائحة بهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ويرجِّح التقرير أن تتسبب الجائحة في تغيرات يدوم أثرها لسنوات، لتُعيد تشكيل أسلوب حياتنا وعملنا وأنظمة الحكم المحلية والدولية.
وسرَّعت الجائحة من اتجاهات عالمية كانت موجودة بالفعل قبلها، فزاد الاهتمام بالصحة والنظام الصحي العالمي، وكشفَت عن الشروخ الاجتماعية وزادتها في بعض الدول، وانكشف ضعف التعاون الدولي في الأزمات الصحية، وعدم جاهزية المؤسسات الموجودة للتحديات الصحية المستقبلية.
وتسارعت بعض الاتجاهات الاقتصادية الموجودة، مثل تنويع سلاسل التوريد العالمية، والدَّين المحلي المتزايد، والتدخل الحكومي في الاقتصاد، وستتسبب الديون في إنهاك الاقتصادات النامية.
بسبب الأثر الاقتصادي الكبير للجائحة في الدول منخفضة الدخل، ستتأخر اقتصاديًّا أكثر عن باقي الدول، وبعد السيطرة التامة على الجائحة، في الغالب ستعاني العائلات والأسر من التدهور الاقتصادي، خاصةً العاملين في المجالات الخدمية أو غير الرسمية، أو من اضطروا لترك عملهم ليعتنوا بأفراد العائلة، وغالبية المنتمين لهذه الفئة من النساء، وأخيرًا، زادت الفجوة الرقمية بين البلدان، وداخل كل بلد.
وأدت محاولات احتواء الفيروس إلى تعزيز «القومية – Nationalism» من جديد مع انغلاق بعض الدول على نفسها، ولومِ بعض المجموعات المهمشة أحيانًا، وزادت معدلات الاستقطاب والتحزب في عدة دول، بسبب الخلاف حول الطريقة الأفضل للاستجابة للجائحة، ولأن الحكومات تبحث عن طرف لإلقاء المسؤولية واللوم عليه في نشر الفيروس أو بطء الاستجابة.
وزادت جائحة كورونا من أزمات أنظمة الحكم، فمع الضغط ظهرت القدرات الحقيقية للدول، وزادت من تراجع مستويات الثقة بها، وفاقمت الجائحة من أزمة التضارب والاستقطاب، فأضعفت ثقة العامة في المؤسسات الصحية الرسمية، واستغلت الدول غير الليبرالية الأزمة في قمع المعارضة وتقييد الحريات المدنية، وهو ما سيستمر بعدها على الأرجح.
وكشفت الجائحة عن حالة الضعف والخلافات السياسية داخل المؤسسات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية، لتُثير تساؤلاتٍ حول رغبة الدول أو قدرتها على التعاون الجماعي في مواجهة التحديات العالمية الأخرى، مثل التغيُّر المناخي، ورغمَ أن منظمة الصحة واجهت أعتى أزماتها منذ نحو عقدين، بسبب مشكلات التمويل ومقاومة الأنظمة القمعية، فإن الأزمة قد تدفع الدول لدعم إصلاحات عميقة في المنظمة، ووضع معايير ثابتة لجمع المعلومات ومشاركتها.
وأخيرًا، زادت الجائحة من دور الجهات غير الحكومية، مثل مؤسسة «بيل آند ميليندا جيتس – Bill & Melinda Gates»، التي يشرف عليها الملياردير بيل جيتس، وطليقته ميليندا، ويشير التقرير أيضًا إلى دور الشركات الخاصة أثناء الجائحة، بسبب عملهم المحوري في أبحاث اللقاح والإنتاج الضخم للمستلزمات الطبية ومعدات الحماية الشخصية، وستلعب هذه الأطراف دورًا مستقبليًّا مُكملًا للحكومات، على المستويين المحلي والدولي، في الأزمات الصحية القادمة، من خلال التحذير المبكر من الأمراض والفيروسات، وتطوير العلاجات واللقاحات.
أمَّا عن الاتجاهات التي تراجعت وتيرتها بسبب الجائحة، فأهمها العمل على مكافحة الفقر، وتقليل الفجوة في المساواة بين الجنسين، وبسبب تركيز الموارد على مكافحة «كورونا» خسرنا التقدم الذي تحقَّق في مكافحة أمراض أخرى، مثل الملاريا والحصبة وشلل الأطفال.
- القوى الهيكلية
يعتمد شكلُ حياتنا في العقود القادمة على التطورات الديموغرافية والبيئية والاقتصادية والتكنولوجية، ولكن تقاطع هذه الاتجاهات وتسارعها سينتج تحديات أصعب تُنهك قدرة المجتمعات والدول على التعامل والتكيف معها.
الديموغرافيا والتنمية البشرية
نمو سكاني متباطئ وشعوب كبيرة السن:
تشيرُ التقديرات إلى أن عدد سكان العالم سيصل إلى نحو 9.2 مليارات نسمة بحلول 2040، بزيادة مقدارها 1.4 مليارات نسمة عن العدد الحالي، ويأتي ثلثا هذه الزيادة من دول أفريقيا جنوب الصحراء، التي ستعاني غالبًا من ضغط شديد على البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
وستنخفض معدلات الولادة عالميًّا، ومعها يرتفع متوسط الأعمار من 31 في 2021، إلى 35 في 2040، ورغم تباطؤ النمو السكاني في الهند، فإن التوقعات تشير إلى تخطيها عدد سكان الصين في 2027، لتصبح أكبر دول العالم في عدد السكان.
ارتفاع معدل الأعمار.. فرصة وعبء:
وبسبب انخفاض معدلات الولادة وارتفاع متوسط الأعمار، ستزيد نسبة المُنخرطين في القوى العاملة، وستزيد مشاركة المرأة في سوق العمل، وسيحلُّ استقرار اجتماعي أكبر عند المجموعات الكبيرة في السن.
وستشهد بعض الدول المتقدمة ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الأعمار، لتمثل مجموعة السكان فوق الـ65 عامًا نحو 25% من سكانها في 2040، مقارنة بـ15% في 2010، وسيصلُ متوسط الأعمار في كوريا واليابان إلى 53، وفي أوروبا إلى 47، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم في اليونان وإيطاليا وإسبانيا، ونتيجةً لذلك ستواجه هذه الدول انخفاضًا في معدلات الإنتاج، وسيذهب جزء أكبر من دخلها القومي للمعاشات والرعاية الصحية لفئة كبار السن المُتوسِّعة باستمرار.
وستحقق دول جنوب آسيا النسبة الأعلى من السكان المُنخرطين في سوق العمل، خلال العقدين القادمين، وستصلُ النسبة إلى 66%، وتليها دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسب تتجاوز 65% في 2040.
توفِّر هذه النسب المرتفعة فرص نمو اقتصادي كبيرة، ستتحققُّ إن درِّبت العمالة في هذه الدول جيدًا وأتيحت فرص العمل، ولن تستغلَّ هذه الفرص بشكل وافٍ في دول جنوب آسيا، التي تواجه من الآن تحدياتٍ في خلق فرص العمل والتكيف مع التكنولوجيا والتدريب المهني.
والدول التي تضمُّ بين سكانها نسبًا مرتفعةً من الشباب ستواجه هشاشةً اجتماعية ترتبط غالبًا بارتفاع هذه النسبة، وبحلول 2040، من المتوقع أن يكون ثلث سكان أفريقيا جنوب الصحراء أصغر من 15 عامًا، وأن يصل متوسط عمر السكان إلى 22 عامًا، وهو أقل كثيرًا من 30 عامًا، الرقم المناسب للوصول لمستويات عالية من التنمية، ويشاركها في متوسط العمر المنخفض دول أخرى مثل مصر وأفغانستان وباكستان.
Embed from Getty Images
التوسع العمراني وتغير حاجات الشعوب:
ستلعبُ المدن دورًا مهمًّا في شكل الحياة القادمة وفرصها؛ إذ سترتفع النسبة العالمية لسكَّان المدن من 56% في 2020، إلى نحو 66% في 2040، ومعظم هذه الزيادة ستحصل في الدول الفقيرة، التي سترتفع فيها نسبة سكان المدن من مليار إلى 2.5 مليار نسمة في 2040، ونحو نصف هذا النمو سيكون في دول جنوب آسيا، وثلثه في دول أفريقيا جنوب الصحراء، بحسب تقديرات للأمم المتحدة يُوردها التقرير.
وعادةً ما يكون انتقال السكان للمدن محركًا أساسيًّا للتقدم الاقتصادي، ولكن الدول الفقيرة ستواجه صعوبة في تمويل المواصلات والخدمات العامة والبنية التحتية للتعليم، وتواجه هذه الدول، والشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، خطرًا في نقص الغذاء مع انتقال السكان للمدن.
وستؤثر الحوادث البيئية بشكل أكبر على الإنسان في المدن الناشئة جديدًا، خاصةً التي تُطل على السواحل أو الموجودة في مناطق معرَّضة لخطر هذه الحوادث البيئية. ووفقًا لبيانات قاعدة «إميرجنسي إيفنتس»، فإن أعلى الدول في نسبة الكوارث إلى عدد السكان، هي الدول متوسطة الدخل في شرق وجنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، والدول منخفضة الدخل في جنوب وشرق أفريقيا.
التحديات المرتبطة بالتنمية البشرية:
بعد عقود من التقدم في ملفات التعليم والصحة ومكافحة الفقر، ستكافح العديد من الدول للبناء على مكتسباتها أو حتى الحفاظ عليها؛ إذ شهد العالم خروج نحو 1.2 مليارات نسمة من الفقر، أي إن دخلهم أصبح أكثر من 3.2 دولارات في اليوم، وانضم نحو 1.5 مليار نسمة إلى الطبقة المتوسطة (دخلهم أصبح أكثر من 10 دولارات/ يوم).
ساهم التقدم في الرعاية الصحية والتعليم والمساواة بين الجنسين في ارتفاع متوسط الدخل، ولكن يبقى الحفاظ على هذا التقدم خلال العقدين المقبلين صعبًا في بعض الدول، في ظل النمو الاقتصادي البطيء وغير المتوازن، ولأن التقدم يحتاج لتجاوز المعوقات الاجتماعية وتحسين الاستقرار السياسي والاستثمار المتزايد في الخدمات العامة من قِبل الحكومة أو الشركات الخاصة.
وبينما نجحت الدول متوسطة الدخل في تحقيق التقدم في هذه الملفات، فإنها تشهد تصاعد مشكلات أعقد، مثل التلوث والأمراض غير المعدية، وفي ظل الزيادة السريعة في عدد الأُسر متوسطة الدخل خلال العقدين الماضيين، ربما تعاني الحكومات لتوفير الحاجات الأساسية لهذه الطبقة التي أصبحت أكثر تمدنًا واتصالًا وتوسعًا.
وعلى صعيد حقوق المرأة، شهد العالم في العقود الأخيرة تقدمًا كبيرًا في الرعاية الصحية والتعليم والحقوق القانونية المقدمة للنساء، وانخفضت معدلات المواليد في الدول النامية لتصبح أقل من ثلاثة مواليد لكل امرأة في سن الولادة، وارتفع متوسط العمر عند ولادة الطفل الأول، ما أتاح المزيد من الفرص في التعليم والعمل خارج المنزل للنساء.
ولكن أفريقيا جنوب الصحراء تظل بعيدة عن هذه الأرقام، فرغم انخفاض معدل المواليد فإنه يظل عند 4.9 لكل امرأة، ومن المرجح أن يبقى مرتفعًا.
وانخفضت أيضًا وفيات المواليد بنحو الثلث خلال العقدين الماضيين، وحظيت دول جنوب آسيا بالنصيب الأكبر في ذلك الانخفاض، وبينما حققت الدول النامية تقدمًا سريعًا في إغلاق الفجوة التعليمية بين الذكور والإناث، فإن متوسط عدد سنوات تعليم الإناث في أفريقيا جنوب الصحراء، أقلُّ من متوسط عدد سنوات تعليم الذكور بنسبة 19%، متراجعةً بذلك عن باقي العالم.
ويقول التقرير إنَّ «المجتمعات الأبوية» في الدول العربية وجنوب آسيا تشهدُ الفجوة الأكبر في المساواة بين الجنسين، في المنزل وفي العمل وفي الرعاية الصحية، وهي فجوة يعتقد أنها ستدوم خلال العقدين المقبلين.
ويبقى خضوع النساء للرجال، بغض النظر عن المستوى التعليمي، جزءًا من القوانين العائلية في بلدان عدة في الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء.
وعلى الصعيد العالمي، تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن النساء يشغرن نحو 25% من المقاعد التشريعية، وقرابة 25% من المناصب الإدارية في الشركات، ويمثلن نحو 10% من المديرين التنفيذيين للشركات الكبرى.
وفي ملف التعليم، زادت نسبة البالغين الذين أتموا تعليمهم الأساسي لتصل إلى 81% في 2020، وتختلف النسب بين الدول النامية، فتصل إلى 92% من البالغين في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، بينما تبقى عند 60% في أفريقيا جنوب الصحراء.
توفير تعليم لغالبية قوة العمل، ولو كان تعليمًا ثانويًّا، أحد عوامل الوصول إلى الدخل المتوسط العالي، وتتحقق نسبة الأغلبية هذه في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، وتصل إلى نحو 25% في أفريقيا جنوب الصحراء. وسيكون من الصعب على الدول النامية زيادة النسبة، بسبب التكاليف المرتفعة لتوفير هذا التعليم، وبسبب النمو السكاني المتزايد الذي يقابله عجزٌ من الحكومات والقطاع الخاص.
ارتفاع نسبة الأفراد من الطبقة المتوسطة:
في عام 2020 وصلَت نسبة أفراد الطبقة المتوسطة في العالم إلى نحو 36%، وتُظهر البيانات المتاحة للفترة بين 2000 و2018 أن أكثر الدول التي ارتفعت فيها النسبة هي، تنازليًّا: روسيا، وتركيا، وتايلاند، والبرازيل، والصين، والمكسيك، وفيتنام.
ومن المتوقع أن تزداد النسبة أكثر خلال العقدين المقبلين، وإن كانت بمعدل أبطأ، فمن غير المرجح أن يتكرر النمو الذي تحقق في معدل دخل الفرد خلال العقدين الماضيين، بسبب تراجع معدَّل نمو الإنتاجية.
وتحظى دول شرق آسيا، وبدرجة أقل دول الجنوب، بفرصة أفضل لتحقيق تقدم في متوسط الدخل للفرد، بسبب نظم التعليم الجيدة والشبكات الاجتماعية المستقرة والحكم الرشيد، لتُقلل الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة في الدخل والتعليم ومتوسط العمر المتوقع.
يأتي ثلثا المهاجرين من بلدان متوسطة الدخل، ويهاجر نصفهم إلى بلدان مرتفعة الدخل.
الهجرة في ارتفاع:
ستستمر معدلات الهجرة في الارتفاع، وستزيدها الدوافع الاقتصادية، وظروفٌ أخرى مثل النزاعات، والقمع، والكوارث الطبيعية.
يأتي ثلثا المهاجرين من بلدان متوسطة الدخل، ويهاجر نصفهم إلى بلدان مرتفعة الدخل، وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة، تشهد أوروبا أكبر وجود للمهاجرين العابرين للحدود، وصلَ عددهم إلى نحو 70 مليون نسمة في 2019، أغلبهم قادمون من دول شرق أوروبا، التي تشهد أعلى نسبة دخولٍ لسكَّانها في سوق العمل، بينما تعاني بعض دول أوروبا الأخرى من ارتفاعِ معدل الأعمار.
وستكون الاضطرابات المحلية والسياسية عاملًا في موجات الهجرة؛ إذ تظهر بيانات الأمم المتحدة نزوح نحو 80 مليون شخص، هاجر ثلثهم إلى بلدان أخرى غير بلدانهم، بسبب الحروب.
توابع واضطرابات:
هذه الاتجاهات في الديموغرافيا والتنمية البشرية ستضغط على الحكومات لتزيد استثماراتها في الخدمات العامة، ولإيجاد حلول لقضية الهجرة، وستتسبب في اضطرابات في بعض البلدان، وستضغط أكثر على المؤسسات الدولية المنهكة بالفعل.
ويزداد الضغط على الحكومات بسبب نمو الطبقة المتوسطة، وارتفاع معدلات الهجرة بسبب الزيادة في معدل الأعمار، لكن بعض الدول قد تستفيد من تلك الزيادة، التي تحقق استقرارًا سياسيًّا نسبيًّا، بينما تبقى الدول السلطوية معرضةً لخطر غياب الاستقرار.
وستصعد دول آسيوية عدة بسبب جاهزيتها للتعامل مع الكثير من هذه التطورات، خاصةً التنمية البشرية ونصيب الفرد من الدخل القومي، باستثناء الصين التي تواجه من الآن آثار سياستها التي منعت إنجاب أكثر من طفل واحد، خاصةً مع تضاعف عدد السكان البالغين أكثر من 65 عامًا، ليصل إلى 350 مليونًا في العقدين المقبلين.
البيئة
في العقدين القادمين ستظهر التأثيرات المادية للتغير المناخي، مثل ارتفاع درجات الحرارة، وارتفاع مستوى سطح البحر، والطقس القاسي، وستصيب آثاره جميع الدول، بينما تقع النسبة الأكبر من التحديات والتكلفة على عاتق الدول المتقدمة.
وستركز الدول على خفض الانبعاثات الكربونية لتحقيق بنود اتفاقية باريس، المُوقعة عام 2016، التي تنصُّ على تحديد ارتفاع درجة الحرارة السنوي بـ1.5 درجة سيليزيوس، ومن غير المتوقع أن يتحقق هذا، فمن المرجح أن تزيد أبحاث الهندسة الجيولوجية، التي تعملُ على تغيير طبيعة المناخ ومستوى حرارته، وستوظَّف الموارد لتبريد الأرض، رغم الآثار الفادحة المحتملة عن ذلك.
تأثيرات التغير المناخي:
تزداد قوة التأثيرات المادية للتغير المناخي، ولن تعفى أي دولة أو منطقة منها، وإن كانت الدول النامية ستعاني أكثر لمحدودية قدرتها على التكيف مع التغير.
أحد هذه التأثيرات هو ذوبان جليد القطب الشمالي وارتفاع مستوى سطح البحر، وبينما ارتفع مستوى سطح البحر من 8 إلى 9 بوصات منذ نهاية القرن التاسع عشر، من المتوقع أن يرتفع خلال العقدين المقبلين بما يتراوح بين 3 إلى 14 بوصة.
وسيشهدُ العالم المزيد من موجات الحر، وارتفاعًا متوقعًا في درجات الحرارة في مناطق وسط وشرق أمريكا الشمالية، ووسط أوروبا، وحوض المتوسط، وغرب ووسط آسيا، وجنوب أفريقيا، وستزداد الكوارث الطبيعية سوءًا وستصبح المناطق الجافة أكثر جفافًا، والمناطق الرطبة أكثر رطوبة.
زيادة في التدهور البيئي:
سنشهد في العقدين القادمين زيادةً في عدد السكان والتوسع العمراني، وسوءًا في إدارة الموارد، وهذه العوامل معًا تسرع التغير المناخي وتفاقم أثره، ومع نمو مدنٍ ساحلية، سيزيد عدد المهددين بالعواصف المتزايدة، وارتفاع مستوى سطح البحر الذي يساهم في تآكل السواحل، ومن ثمَّ سيغذُّون الهجرة وأزماتها أكثر.
وسيضاعف من آثار التغير المناخي سلوكيات بشرية سيئة، مثل استغلال الأراضي الزراعية والغابات الذي يرفع من الانبعاثات الكربونية ويخرِّب الأرض، وسوء استخدام المياه وزيادة الطلب عليها بسبب النمو السكاني وندرة الأمطار أو تقلب معدلاتها، وانتهاءً بالتلوث الذي يُنمي التغير المناخي ويتغذَّى عليه.
وفي ملف شحِّ الماء، يشير التقرير إلى أن بناء السدود في دول تمر فيها الأنهار يمكن أن يتسبب في نشوب حروب ونزاعات، وضرب مثالًا لذلك حالة سد النهضة الإثيوبي الذي سيؤثِّر جذريًّا في وصول الماء لمصر والسودان.
الأمن البشري يتراجع:
مع كل آثار التغير المناخي التي ذكرناها، ستتضاعف المخاطر الأمنية على البشر، ففي 2018 واجهت 36% من المدن ضغطًا بيئيًّا شديدًا بسبب المجاعات أو الفيضانات والأعاصير.
ستتفاقم أزمات المياه والغذاء، وستعاني دول في جنوب الصحراء، وأمريكا الوسطى، وجنوب آسيا، وأستراليا، لاعتمادها على الأمطار، وقد تستفيد دول شمال العالم، كندا وروسيا وشمال أوروبا، من الاحتباس الحراري الذي سيُطيل موسم نمو النباتات عندها.
وستصبح حياة البشر مهددةً أكثر بسبب تراجع جودة المياه والهواء والغذاء، وبسبب تطوُّر الأمراض التي تنقلها المياه أو الحشرات، وفي بعض الحالات ربما يتغيَّر معدل انتشار الأمراض التي تصيب البشر والحيوانات والنباتات.
وسينخفض التنوع البيولوجي أكثر من أي وقتٍ مضى في تاريخ البشر؛ مما يهدد الأمن الغذائي والصحي، وسيؤدي التغير المناخي إلى انقراض بعض الحيوانات والنباتات، أو هجرتها إلى بيئةٍ أخرى تناسبها.
وترتفع احتمالات زيادة الهجرة لأسباب بيئية، مثل الحر الشديد، أو ارتفاع مستوى سطح البحر، اللذان ربما يسببهما التغير المناخي، ولكن غالبًا ما ستكون هذه الهجرة داخلية.
التوجه نحو تخفيف المخاطر: ستحاول عدَّة دول تكثيف جهودها لتقليل الانبعاثات الكربونية، خاصةً الدول المتقدمة، ولكن سيظل الجدل بين معسكرين: يدعم أولهما التحول السريع نحو تنفيذ توصية مؤتمر باريس بتحديد الارتفاع في درجة حرارة الكوكب بـ1.5 درجة سيليزيوس فقط، وهو ما يتطلب إجراءات غير مسبوقة على مستوى الإنتاج واستهلاك الطاقة، ويرى المعسكر الثاني أن التوجه نحو تخفيض الانبعاثات يجب أن يتمَّ تدريجيًّا، من خلال التحول للتتكنولوجيا الجديدة، مع تعزيز النمو الاقتصادي في الوقت نفسه.
توابع واضطرابات:
من المتوقع أن يؤدي التغير المناخي إلى المزيد من الاضطرابات والانقسامات السياسية، كما نرى في الاحتجاجات المتنامية التي يقودها مئات الآلاف من الشباب، وأيضًا توظيف الأحزاب القومية والشعبوية لمخاوف فئاتٍ معيَّنة من الآثار الاقتصادية إن بدأت مشروعات الإصلاح البيئي التي يمكن أن تضرَّ بمصالحهم المادية المُباشرة.
وسيزداد الخلاف بين الدول حول الشفافية والمسؤولية البيئية والإجراءات المتبعة للحدِّ من التغير المناخي، فمثلًا ستطلب الدول النامية من الدول المتقدمة أن تُتيح استخدام تقنيات الطاقة المتقدمة التي تخفض من الانبعاثات الكربونية، وأن توفر الدعم المادي لدعم المجتمعات المعرضة للخطر أو التي تمرُّ بالتحول.
ومع التنافس المتزايد على مصادر الغذاء والماء والمعادن والطاقة، ستندلع صراعات بسبب المجاعات، وستحاول دولٌ مثل روسيا والصين والهند الاستفادة من ذوبان جليد القطب الشمالي للبحث عن الموارد والاستفادة من طرقٍ تجارية أقصر.
وستتأثر الجيوش بالضغوط المادية المتوقعة، وستحتاج لتغيير تصميمات قواعدها الجوية والبحرية، وستضطرها الكوارث الطبيعية لاستخدام المزيد من مواردها لعمليات الإغاثة داخل وخارج بلدانها.
وسيتغير الاقتصاد والمشهد الجيوسياسي العالمي بشكل كبير مع التحوُّل العالمي للطاقة المتجددة، لتواجه الدول النفطية تراجعًا كبيرًا في إيراداتها، وسيتلاشى نفوذها النفطي، فالسلعة الأهم في العالم سابقًا ستتراجع مكانتها مع مرور الوقت، هذا التحول الخطير سيزيد من المنافسة على موادٍّ مثل الكوبالت، والليثيوم، وبعض المعادن النادرة، التي تستخدم في البطاريات والمحركات والمولدات.
الاقتصاد
الاتجاهات الاقتصادية أكثرُ من غيرها، ولكنها أقل ثباتًا والتغيُّر فيها محتمل جدًّا لأن الاقتصاد مرتبطٌ باتجاهات أخرى مثل التكنولوجيا والسياسات الحكومية.
تزايد الديون الحكومية:
زادت الديون الحكومية في أغلب دول العالم منذ الأزمة الاقتصادية العالمية عامَ 2008، ومن المرجح أن تستمر في الصعود خلال العقدين المقبلين، وساهمت جائحة كورونا في زيادة الديون.
وارتفعت نسبة الدين الحكومي للناتج المحلي في 90% من الدول المتقدمة، خلال الفترة بين 2008 و2019، وتتشابه اليوم نسبة ديون الاقتصادات الصاعدة مع ما كانت عليه إبان موجة أزمات الديون العالمية في منتصف الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
وستعاني دولُ مجموعة العشرين من أثر ارتفاع معدل الأعمار، الذي سيضغط على الإنفاق العام فيها، ما لم تُتخذ إجرءات صعبة بتقليل الخدمات الممنوحة للمواطنين أو زيادة الضرائب، وسيكون خفض الديون تحديًّا أكبر من التحديات الاقتصادية التي عاشها العالم بعد الأزمة العالمية عام 2008.
تدفع هذه المخاطر بعض الاقتصادات إما لتقليل الإنفاق العام، والتعرض لخطر زيادة الغضب الشعبي، وإما الحفاظ على الإنفاق العام مما سيفاقم أزمة الديون، ولهذا ستركِّز الدول على إنفاق أموالها لحلِّ مشكلات محليَّة حصرًا، دون التعاطي مع المشكلات العالمية المشتركة.
أزمات التوظيف:
مع استخدام الذكاء الاصطناعي والأتمتة (تحويل العمل لعمليات آلية يكون تدخُّل البشر فيها محدودًا) في الدول المتقدمة، بسبب ارتفاع أعمار السكان، ستشهدُ هذه الدول تغيرات كبيرة في شكل الوظائف وحجمها.
ومع أن المنتدى الاقتصادي العالمي يتوقع أن تخلق التكنولوجيا الجديدة وظائف أكثر من التي ستندثر، فإن هذه الوظائف ستحتاج لمهارات مختلفة عن الأعمال القديمة؛ مما سيزيد من فترات البطالة للعمالة المُتحوِّلة من الأعمال القديمة للجديدة، وسيُعمق الفرق في توزيع الأجور على الأرجح.
ولن تتأثر الاقتصادات النامية بالقدر نفسه، بسبب احتمال انتشار الأتمتة بشكل أبطأ، وربما تكون الدول الشابة أكثر مرونة في التعامل مع الأتمتة إذا وفرت التعليم والتدريب الكافيين للتعامل مع التكنولوجيا الجديدة.
بيئة تجارية أكثر انقسامًا:
لم يشهد العالم سوى اتفاقية تجارية دولية واحدة منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية، بينما زادت في العقدين الماضيين الاتفاقيات الثنائية والإقليمية بين الدول، وهذا التوجُّه الإقليمي والثنائي يبدو أنه سيستمرُّ ويسود في العقود القادمة.
وستعمل الدول على حماية اقتصاداتها المحلية أكثر وستفرض قيودًا تجارية، ولن يقتصر هذا على الحرب التجارية بين أمريكا والصين. وتتراوح أسباب هذا التوجُّه بين الرغبة في الحدِّ من خروج الوظائف، فعندما يكون الاقتصاد مفتوحًا ستُنقل العمليات الأقل كلفةً إلى الخارج، ومعها ستُنقل وظائفها، ويعزِّز هذا التوجه أيضًا القلق من مشكلات الخصوصية والتحكم في البيانات، والحماية ضد التقدم التكنولوجي للدول الأخرى، الذي ربما يجعل بعض الاقتصادات أقدر على الهيمنة.
ترابط اقتصادي أكبر:
هذا الاتجاه للإغلاق على الاقتصادات المحلية لن يمنع زيادة الترابط العالمي في العديد من المجالات الخدمية، مثل الخدمات المالية والاتصالات والمعلومات والسياحة وغيرها، فمثلًا تصل نسبة تجارة الخدمات في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (أمريكا، ودول أوروبية عدَّة، وتركيا واليابان وفنلندا والمكسيك وأستراليا وغيرها)، إلى نحو 75% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول، وتشكِّل 80% من الأعمال المتوفرة فيها، ورغمَ ذلك يظلُّ حجم قطاع الخدمات يمثِّل ثلث التجارة العالمية، ما يعني وجود فرص نمو أفضل.
تقنيات التصنيع الجديدة تغير التجارة:
ربما تقلل تقنيات التصنيع الرقمية والطباعة ثلاثية الأبعاد من الريادة والأهمية التجارية للدول ذات العمالة منخفضة التكلفة، وهذا قد يسرِّع من إعادة تشكيل وترتيب سلاسل التوريد، لتعتمد أقل على أطراف خارجية مثل الصين ودول العمالة المنخفضة.
منصات البيع الإلكتروني تدعم التجارة العالمية:
ساهمت التكنولوجيا الجديدة في خلق طرق توزيع جديدة، مكنت الشركات المتوسطة والصغيرة من دخول الأسواق الجديدة بسهولة، وتشبِّك العملاء والشركات في دول مختلفة، وتسهِّل نمو التجارة المحلية والشركات الصغيرة والمتوسطة.
مثلت التجارة الإلكترونية نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2018، وهي نسبة مرجحةٌ للزيادة في العقدين المقبلين، بسبب تسهيل الوصول عالميًّا للإنترنت وانتشار الهواتف الذكية، وستستحوذ المنصات الكبرى، مثل «أمازون» و«علي بابا» على النصيب الأكبر من هذه المعاملات التجارية.
الشركات العملاقة واستدامة العولمة الاقتصادية:
من المرجح أن تنمو الشركات العملاقة والدولية وتتوسع، لتعزز العولمة الاقتصادية في العقدين المقبلين وتطيل عمرها، خاصةً مع استمرار وجود العوامل الاقتصادية التي تدعم صعودها، مثل التكاليف الثابتة المرتفعة، والتكاليف الهامشية المنخفضة، وتأثيرات الشبكات والمنصات، والتعلم الآلي.
ويرجَّح زيادة الهيمنة السوقية لهذه الشركات مع تصاعد أهمية التكنولوجيا الجديدة، مثل البيانات الضخمة والتعلم الآلي، بصفتها عوامل خلق القيمة في العقدين المقبلين.
وستحاول الاقتصادات المُستضيفة لهذه الشركات الاستحواذَ على جزء من القيمة التي تخلقها، بينما ستكون قوة هذه الشركات في مساحات غير اقتصادية بحتة، مثل التحكم في البيانات وتدفق المعلومات، وهذا سيحفِّز الحكومات على تنظيم عمل هذه الشركات أو حتى تفتيت قوتها.
استمرار توسع الشركات الدولية المملوكة للحكومات:
ستستمرُّ الشركات الدولية المملوكة للحكومات في لعب دور نشيط في التجارة العالمية، وأغلب هذه الشركات تمتلكها حكوماتٍ مثل الصين والهند وروسيا والسعودية والإمارات وبعض الدول الأوروبية، ومن المحتمل أن تثير بعض هذه الشركات اضطرابات في المشهد التنافسي العالمي بسبب حصولها على دعمٍ من دولها، وربما تُكثف اعتمادها على الدول حتى تسبق الشركات الأخرى وتتفوق تنافسيًّا عليها، ولذا ستضغط الشركات على حكوماتها للتدخل.
الاقتصاد العالمي يستمر في الميل نحو آسيا:
يميل النشاط الاقتصادي العالمي نحو آسيا في آخر 40 عامًا، ومن المتوقع استمرار هذا الاتجاه حتى 2030 على الأقل، وربما حتى 2040، وإذا استمر، من المتوقع أن تساهم الدولة النامية في آسيا بنسبة 35% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأن تساهم الصين والهند وحدهما بـ29%.
وإن حصل نمو اقتصادي أسرع ستحظى الدول الآسيوية الأكبر في عدد السكان بفرصة الانضمام للاقتصادات الكبرى، مثل الهند التي قد تصبح من بين أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم، وإندونيسيا التي قد تصبح بين أكبر 10 اقتصادات، ورغم ذلك، سيظلُّ نصيب الفرد من الدخل القومي، ومستويات المعيشة، أقل منها في الدول المتقدمة.
توابع واضطرابات:
هذه الاتجاهات الاقتصادية ستضغط على الحكومات، وستسمح للاعبين جدد بالتأثير اقتصاديًّا، من بينهم الشركات الخاصة، والدول ذات الاقتصادات الأقل انفتاحًا.
ومن المحتمل أن يؤدي ارتفاع الديون الحكومية وارتفاع خدمات الديون، وهي المبالغ التي تُدفع للحصول على القروض، بما في ذلك الفوائد والعمولات، وهذا سيجعل الدول أقل قدرة واهتمامًا في التصدي للتحديات الدولية، بما يتضمن الصحة العامة والتغير المناخي، ويُرجح أن ينتج ذلك التزامًا أقل بتقليل الانبعاثات، والتراجع عن تعهدات الدول المتقدمة بدعم التكيف في الدول النامية، وبسبب القيود الاقتصادية سيقلُ عمل حكومات الدول النامية على علاج مشكلات التغيُّر المناخي.
ومع الزيادة في عدد «الاقتصادات الكبرى» التي ستظلُّ في تصنيف «الدول النامية»، من المحتمل أن تُطالب هذه الدول بتأثير أكبر في سياسات المنظمات الاقتصادية الدولية، لتصبَّ في صالحها أكثر، وهو ما سيتعارض مع مصالح الدول المتقدمة، وبسبب هذه التوترات قد تُنشأ منظمات موازية.
التكنولوجيا
تطرح التكنولوجيا معضلةً أمام العالم: بتقدمها، ستوفِّر حلولًا لكثير من المشكلات التي يناقشها التقرير، ولكنها ستكون سببًا في تعزيز مشكلات أخرى.
اتجاهات التكنولوجيا:
يتأثر وضع التكنولوجيا بعدة اتجاهات، ورغم أن التكنولوجيا الجديدة لن تظهر بشكل موحد أو يمكن توقعه، فإنها ستنطلق من بعض العوامل والديناميات المشتركة.
يعزز تلاقي العلوم المختلفة من الابتكار التقني، فهكذا خرجت الهواتف الذكية، بناءً على التقدم في مجالات مختلفة مثل الإلكترونيات والبطاريات والاتصالات، وسيتكرر الأمر بحلول 2040، عندما تلتقي أبحاث الذكاء الاصطناعي والاتصالات فائقة السرعة والتكنولوجيا الحيوية، التي ستنمو أكثر من خلال فهمنا للعلوم الاجتماعية والسلوكية، لتمكننا من إحداث إنجازات جديدة وتطبيقات تخدم المستخدمين أكثر.
وستحتدُّ المنافسة على الهيمنة التكنولوجية، وستسعى الدول لخلق بدائل لـ«وادي السيليكون» الأمريكي، وهذا قد يزيد من فرص ظهور تطبيقات من مناطق غير مُتوقعة. وستعسى الدول لمراكمة الموارد التي تساعدها على التفوق، من المهارات البشرية والمعرفة التأسيسية وسلاسل التوريد، وعلى الأرجح، ستصبح الدول التي تركز على هذه الموارد هي مَن تقود التكنولوجيا في 2040.
ولأن فترة استخدام التقنيات الحديثة تقلُّ مع تسارع تطوُّرها، ستواجه الدول النامية خطرَ احتمالية الاستثمار في تقنيات قد لا تُستعمل طويلًا، ما يهددها بالتأخر تقنيًّا عن باقي الدول.
التكنولوجيا تقود التغيير:
يركز التقرير على ثلاثة مجالات تقنية قد تُحدث تغييرًا كبيرًا في شكل المستقبل، وهذه المجالات هي: الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والمواد والتصنيع.
في مجال الذكاء الاصطناعي، ستخلق هذه التقنية وظائف جديدة وتُلغي أخرى، مُحدثةً تغيرات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وستحتاج الشركات والدول للتركيز على تعليم وإعادة تدريب القوى العاملة.
وستنال البيانات أهميةً كبرى، ما سيمنح أفضلية للدول والشركات والمؤسسات التي تستثمر في جمع البيانات وتصنيفها وتخزينها والاستفادة منها ماليًّا.
وستستمر نظريات «الخصوصية – Privacy» في التطور، في ظل حاجة الأفراد لمشاركة معلومات شخصية وخاصةً للحصول على الخدمات، بينما ستستغل الحكومات القمعية هذه الحاجة لمراقبة مواطنيها أو السيطرة عليهم، وسيلعب الذكاء الاصطناعي دورًا في الأنظمة الحربية، بتعزيز أداء الأسلحة والدفاعات والأنظمة الأمنية.
وفي مجال الصناعات والمواد، بحلول 2040 ستتغير عملية إنتاج كل شيء تقريبًا مع التقدم في إنتاج ما يسمِّيها التقرير بـ«المواد الجديدة»، ويُقصد بذلك إنتاج مواد بجودة عالية وصفات لم تكن متوفرة من قبل تسمحُ باستخدام هذه المواد بأشكال متنوعة ومختلفة، وستقلِّل هذه المواد من كلفة التصنيع مع رفع الجودة، وستغير عملَ سلاسل التوريد.
وسترفعُ تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد من القدرات التصنيعية للأفراد والشركات الصغيرة، بسبب قدرتها على التصنيع باستخدام مجموعةٍ متنوعة من المواد في منشآت أصغر وبخبرة قليلة. وستصبح المصانع أكثر تكيُّفًا، وقابلة للتغير حسب الحاجة، مع قدرة أعلى على التصميم والتجميع.
وفي مجال التكنولوجيا الحيوية، سيحفز التقدم الصناعي الابتكارَ في مجالات الصحة والزراعة والصناعة والعلوم المعرفية، وبحلول 2040، سنكون أقدر على تقليل الأمراض والجوع، والاعتماد على البتروكيماويات، وسنُغير من طريقة تفاعلنا مع البيئة.
ومن المتوقع أن تظهر تطبيقات عديدة مختلفة للتكنولوجيا الحيوية، بعدة منافع ومخاطر محتملة، ومنها: العلاج المتخصص المبني على الذكاء الاصطناعي والأبحاث الجينية، والطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد، واستخدام الأبحاث الجينية في تعديل الأجنة، وتوظيف الآلة في الإدراك البشري، والتدخل البيئي الضخم لخلق بيئات جديدة أو تغيير وإصلاح البيئات المعطوبة، واستخدام الحمض النووي في تشفير البيانات وتخزينها.
ويسردُ التقرير بعض التطورات المتوقعة في مجال الفضاء أيضًا، ويتوقع زيادة الدول المنخرطة في استكشاف الفضاء، وزيادة دور الكيانات التجارية في هذا المجال، وصعود الصين لتصبح قوة فضائية تنافس الولايات المتحدة، واستخدام الفضاء لدعم الاحتياجات العسكرية والحكومية، وتحول النشاطات الفضائية لتصبح روتينية، واستخدام الذكاء الاصطناعي في الفضاء.
ويتوقع التقرير أن يكون العالم في 2040 عالمًا «مفرط الاتصال – Hyperconnected»؛ إذ سيصلُ عدد الأجهزةُ المتصلة بإنترنت الأشياء إلى نحو 64 مليار جهاز في 2025، وتتيحُ شبكات الجيل الخامس الاتصال لنحو مليون جهاز في كل كيلومتر مربع.
وسيُحدث هذا الارتباط والاتصال المفرط تغيرات اجتماعية سريعة، منها احتمالية اختفاء الخصوصية و«المجهولية»، إما باختيارنا وإما بفرضه حكوميًّا، وأيضًا سيعرِّض عددًا أكبر من الأفراد والمؤسسات والحكومات لمخاطر الهجمات السيبرانية.
توابع أكبر للتطور التكنولوجي: سيكون للتطور التكنولوجي توابع عدة، أولها العمل السريع على حل المشكلات الكبرى، مثل توصُّلنا سريعًا للقاح لوباء «كوفيد-19»، ولذا من الممكن أن تساهم التكنولوجيا في حلِّ تحديات مثل التغير المناخي.
وستصبحُ التكنولوجيا قوةً جيوسياسية، ستعزز إما التعاون وإما التنافس في المساحات المختلفة بين القوى الدولية.
وقد تفوق سرعة تقدم التكنولوجيا التنظيم والتشريعات الأخلاقية المرتبطة بها، ما قد يتسبب في قلق اجتماعي أو خلافات سياسية.
وستتعقد علاقة الشركات والحكومات أكثر، لعدم اتساق مصالحها دومًا، وربما تتعارض المصالح الوطنية للدول مع رغبة الشركات في التوسع وزيادة الأرباح.
ويشير التقرير إلى مخاطر أخرى قد يتسبب فيها التقدم التكنولوجي، مثل خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة، أو الأوبئة المُخلَّقة، أو الأسلحة المصنوعة من تكنولوجيا النانو، أو الحروب النووية، ويصعب التنبؤ بمثل هذه المخاطر، ومن المكلف الاستعداد لها، ولكن معرفتها والعمل على إستراتيجيات التخفيف من خطورتها يساعد على مواجهة صدماتها.
- الديناميات الصاعدة
تمهد الاتجاهات المذكورة آنفًا الطريق للمستقبل، لكن ما سيحدث خلال العشرين عامًا المقبلين يتوقف على الاختيارات التي ستجري على ثلاثة أصعدة، المجتمع والدولة والعالم.
المجتمع: منقسم ومُطِّلع وخائب الآمال
تشعر فئات كبيرة من سكان العالم بالقلق وضبابية المستقبل وانعدام الثقة في الحكومات، ويرونها إما فاسدة وإما عديمة الكفاءة.
ويميلُ العديد من الناس للمجموعات المشابهة لهم عرقيًّا أو دينيًّا أو ثقافيًّا، أو لمجموعات تؤمن بالاهتمامات والقضايا نفسها، وهي مجموعات بارزة تُصارع بعضها برؤى وسرديات مُختلفة لأهداف المجتمعات ومعتقداتها.
هذه الهويات العابرة للحدود، مجتمعةً مع إحياء الولاءات الراسخة وبيئة المعلومات المعزولة، تخلق وتكشف الصدوع داخل الدول لتقوض القومية المدنية وتزيد من التقلبات.
وأصبحت المجتمعات في كل مناطق العالم تملك أدوات وقدرات لقيادة حملات تدعو للتغيير الاجتماعي والسياسي، وتطالب حكوماتها بالموارد والخدمات والتقدير.
الدول: توترات واضطرابات وتحولات
تواجه الحكومات في كل المناطق ضغوطًا متزايدة بسبب القيود الاقتصادية ومزيج من التحديات الديموغرافية والبيئية وغيرها. وفي الآن ذاته، ستطالب المجتمعات بالمزيد وهي أقدر على دفع أولوياتها والضغط لتحقيق أهداف كل مجتمع، ولو كان منقسمًا داخليًّا.
ومن المرجح أن تواجه الحكومات والمجتمعات توترات مستمرة، بسبب اختلاف آمال الشعوب عما تقدمه الحكومات، وتنبئ هذه الفجوة المتزايدة بالمزيد من التقلبات السياسية، وبتهديد الديمقراطية، وبتوسع أدوار مصادر «الحوكمة البديلة»، ويمكنُ لهذا الغضب الشعبي، إن كان مصحوبًا بأزمة تزيد منه وقيادة ملهمة، أن يتسبب في تغييرات كبيرة في طريقة الحكم.
النظام العالمي: أكثر تنافسية وضبابية وعرضة للنزاع
خلال العقدين المقبلين، ستتطور القوى داخل النظام العالمي لتشمل مجموعة أكبر من المصادر والخصائص، في ظل توسع قوة التكنولوجيا والشبكات والمعلومات، فتضيفُ إلى القوى الأكثر تقليدية، العسكرية والاقتصادية والقوة الثقافية الناعمة.
ويرجحُ أن لا تسيطر دولةٌ واحدة في كل مناطق ومجالات القوة، ما سيسمح لفاعلين دوليين آخرين بالسعي خلف مصالحهم.
وسيكونُ للولايات المتحدة والصين التأثير الأكبر في الديناميات العالمية، وقد تدعمان رؤى متنافسة للنظام العالمي وأنظمة الحكم، تعكسُ مصالحهما الأساسية وأيديولجياتهما، وستؤثر هذه الندية في أغلب المجالات، لتضغط على التحالفات والمنظمات الدولية وأعراف وقواعد النظام الدولي، أو تعيد تشكيلها في بعض الأحيان.
وتُنبِئ هذه البيئة التنافسية بصراعات دولية محتملة، بسبب التقدم التكنولوجي واتساع نطاق الأهداف وجبهات الصراع الجديدة، وتنوع الفاعلين الدوليين، وصعوبة تحقيق معادلات الردع العسكري، وضعف أو غياب المعاهدات والأعراف المتفق عليها.
ويتوقع التقرير صعود الصين لتصبح قوةً عالمية، وستتطلع لفرض السيطرة على آسيا وزيادة نفوذها العالمي، ويرجح أن تستمر الصين في تقوية تكاملها الاقتصادي مع دول الشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهندي.
ويحتملُ أن تستمر روسيا في إرباك النظام العالمي، وستحاول توسيع الانقسامات في الغرب، وتوطيد علاقاتها مع دول أفريقيا والشرق الأوسط وغيرها، ومع رحيل بوتين، في 2024 أو بعد ذلك، ربما تضطر للتراجع جيوسياسيًّا.
أما اليابان وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي ستحافظ على قوتها السياسية والاقتصادية.
ومن المرجح أن تصبح الهند قوةً عالمية، بسبب جغرافيتها وإستراتيجيتها وتزايد قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، إلا أنها ستظلُّ تعاني بعض المشكلات الداخلية الاجتماعية والبيئية، التي تحتاج إلى حلها قبل أن تلعب دورًا خارجيًّا قويًّا.
ويتنبأ التقرير باستمرار بعض قوى الشرق الأوسط في الصعود، مثل السعودية وتركيا والإمارات وإيران، وغيرها من الدول الإقليمية مثل إندونيسيا والبرازيل ونيجيريا وأستراليا، مع احتمال تغير هذه الدول في العقدين المقبلين، وستحاول هذه الدول ألا تدخل في صدامات مع القوى العالمية، ولكنها ستسعى في الوقت نفسه لبناء تحالفات وتكتلات إقليمية لتتمكن من التأثير في بعض القضايا، وستكون أكثر عدوانية في صراعاتها الإقليمية.
وعلى صعيد الجماعات المسلحة، يتوقع التقرير أن تبقى الحركات الجهادية أكبر تهديد عابر للحدود، ويتنبأ باحتمالية ظهور جماعات يسارية ويمينية، تدعو لمجموعة مختلفة من القضايا، من العنصرية للحفاظ على البيئة إلى مكافحة توسع التدخل الحكومي.
وستستمرُّ إيران وحزب الله على الأرجح في ترسيخ ما يسمى «محور الممانعة»، مع احتمال زيادة التهديدات ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية والسعودية وغيرها من الأهداف في الشرق الأوسط.
- السيناريوهات الخمسة للعالم في 2040
يطرح التقرير خمسة سيناريوهات تجمع كل التفاصيل التي ناقشناها في مشهدٍ واحد، ليحاول توضيح توابعها المحتملة وأثرها في شكل العالم.
ثلاثة سيناريوهات من الخمسة، تصوِّر العالم بقيادة إما الولايات المتحدة وإما الصين، وإما التنافس بينهما، ويتنبأ السيناريوهان الباقيان بتغيرات جذرية أكثر، تنتج من انقسام عالمي شديد.
السيناريو الأول: نهضة الديمقراطيات
في عام 2020، انتبه العالم لأهمية التعاون الدولي في الأبحاث العلمية، والابتكار، والتقدم التكنولوجي، في مواجهة التحديات العالمية، خاصةً مع نجاح تطوير لقاح «كوفيد-19» وتوزيعه.
ويشهدُ العالم صعود ديمقراطيات منفتحة تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ويتغير شكل الاقتصاد العالمي نتيجة للتقدم التكنولوجي الذي ترعاه شراكة بين الحكومات والمؤسسات والشركات الخاصة، لترتفع الأجور وتتحسن جودة حياة الملايين في أنحاء العالم.
ونتيجة لما سبق، ستتمكن الدول من الاستجابة للتحديات العالمية بشكل أفضل، وستخفُّ حدة الانقسامات الاجتماعية، وتتجدد الثقة في المؤسسات الديمقراطية بسبب المبادرات المستمرة للقضاء على الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة.
وستُظهر القيادة الأمريكية مركزيتها في عمليات التنسيق بين الدول لحل المشكلات العالمية، وسيساهم في تثبيت هذا النظام انتعاشُ دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، بسبب النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي.
وسيسهم التطور التكنولوجي الذي حققته الديمقراطيات في جعل بعض الدول كثيفة السكان تتبنى أنظمةً ديمقراطية أكثر شفافية، ومنها الهند والبرازيل وإندونيسيا ونيجيريا.
وعلى النقيض، سيتراجع الابتكار في روسيا والصين، بعد لجوء أبرز العلماء ورواد الأعمال الصينيين إلى دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، بسبب المراقبة الجماعية والقيود الاجتماعية المتزايدة، وسيضعفُ النظام السلطوي في البلدين إثر تزايد القمع وتعطُّل النمو الاقتصادي وتزايد الضغوط الديموغرافية، وفي ظل ضعف النظامين، يُصبحان أكثر عدوانية تجاه جيرانهما.
ستُهدد روسيا بالتدخل لحماية الإثنيات الروسية في دول سوفيتية سابقة ليست عضوةً في حلف الناتو، وهذه ستكون محاولةً أخيرة ويائسة لتشتيت الانتباه عن مشكلات موسكو الداخلية، بينما ستتحرك الصين بخطواتٍ تصعيدية في بحر الصين الجنوبي، وستستثمر الدولتان في تكنولوجيا المعلومات المُضللة، وأسلحة الحرب غير المتكافئة، لمواجهة التفوُّق الأمريكي العسكري، متفاديتين تكلفة العنف المباشر.
السيناريو الثاني: عالم تائه
ستفشل العديد من الدول المتقدمة والصاعدة في التعافي الكامل من آثار جائحة «كوفيد-19» التي سيطولُ عمرها بسبب التوزيع البطيء للقاحات، وسيزيد إحباط الشعوب في دول كثيرة، ورغمَ ذلك لن تستطيع حركات المعارضة المُنقسمة أن تتفق على مطالب وأهداف واضحة.
نعيش في عالم تائه بلا اتجاه، لا يتبع القواعد الدولية في سلوكه، ويقل فيه التعاون الدولي، وتفشل التكنولوجيا في توفير الحلول، وتعاني دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من تباطؤ النمو الاقتصادي، وزيادة الانقسامات الاجتماعية، والشلل السياسي.
وتتجه دول مثل اليابان وكوريا لتطوير برامج التحديث العسكري المستقلة والخاصة بها، وستعمل على تطوير أسلحة نووية لمجابهة كوريا الشمالية والصين، وسبب ذلك قلقهم مما إذا كان من الممكن الاعتماد فعلًا على حليفهم الأمريكي.
وستستغلُّ الصين مشكلات الغرب لتوسع نفوذها، خاصةً في آسيا، ولكنها تفتقر للرغبة والقدرة العسكرية التي تجعلها تقود العالم، ومع ركود العديد من الاقتصادات النامية، سيتجه بعضها نحو الصين، وسيعاني العديد منها من فشل الدولة، خاصةً في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وقد تستطيع الصين التكيف بشكل أفضل مع المشكلات البيئية والاجتماعية التي تعاني منها بقية الدول، بسبب قوة التماسك الاجتماعي، وبسبب تعامل أكثر مرونة من السلطة المركزية في بكين، ولقدرة النظام على توفير الوظائف والبضائع والخدمات، وفي الوقت نفسه يقدرُ على قمع الأصوات السياسية المتضاربة، وبحلول 2035، ستصبح الصين أهدأ، خاصةً بعد إجبار حكومة تايوان على بدء محادثات ضمَّها للصين.
السيناريو الثالث: تعايش وتنافس
بعد التعافي البطيء من أزمة «كوفيد-19»، وبعد الحرب التجارية الممتدة بين أمريكا والصين، يصبحُ الطلب الاقتصادي مقيدًا وينتشر الإحباط العام بنهاية العشرينيات، وتتخذ دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – التي يعاد إحياؤها – إجراءات اقتصادية جديدة لتحفيز النمو.
تجتمعُ دول السبع في كندا عام 2031، لتقرَّ خططًا لتحفيز الاقتصاد وتحرير التجارة والاستثمار، وتحسين نُظم الضرائب، وتخفيف القيود التنظيمية، وتدعمها «روسيا ما بعد بوتين» التي عانَت في سنوات انخفاض أسعار النفط، ومعها اقتصادات صاعدة مثل البرازيل والهند.
ولكن الصين لا تنفتحُ على هذا النموذج الاقتصادي، وستلتزم بنظامها المغلق والمُوجَّه من الدولة، ولكنها ستجعل الأولوية للنمو الاقتصادي والتجارة.
وستعمل الصين والولايات المتحدة على تقوية علاقاتهما الاقتصادية، ولكن ستتنافسان على النفوذ السياسي والترويج لأنظمة حكمهما، وعلى الهيمنة والتفوق التكنولوجي والإستراتيجي، وبينما ينخفض خطر النزاعات بسبب الاعتماد الاقتصادي المُتبادل بين البلدين، سيبقى التنافس الجيوسياسي هو التحدي الأمني الأهم.
وفي ظل المنافسة بين الدول على الأسواق والموارد، واتباعها أحد النموذجين الأمريكي أو الصيني، يقل الانقسام الاجتماعي وتلتف الشعوب حول حكوماتها.
وستصبحُ الدول المتقدمة قابلةً للتكيف أكثر مع التغير المناخي، ولكن الدول النامية سيكون لها النصيب الأكبر من الكوارث المتزايدة، لتمثِّل تحديًّا أمنيًّا من الدرجة الثانية.
السيناريو الرابع: صوامع منفصلة
في بداية الثلاثينيات، ستتجه الدول لزيادة الحواجز وفرض قيود تجارية بينها، لحماية سكانها ومواردها ولخدمة الصناعة المحلية، في ظلِّ تراجع في الوظائف سبَّبته جزئيًّا العولمة، وخلافات تجارية محتدة، وتهديدات «إرهابية» وصحية عابرة للحدود.
وفي 2040، سينقسم العالم لتكتلات اقتصادية وأمنية متعددة، تختلف حجمًا وقوة، وترتكز حول الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا وبعض القوى الإقليمية مثل الهند، وتركز على الاكتفاء الذاتي والمرونة والدفاع العسكري.
وستعاني بعض الدول النامية وسط هذه التكتلات، وستكون معرضةً لخطر أن تصبح دولًا فاشلة، ولكن الدول ذات الأسواق المحلية الكبيرة، أو المجاورة لبلدان كبيرة، ستنجح في إعادة توجيه اقتصاداتها.
وتمتدُّ حالة الانغلاق وبناء الحواجز إلى الإنترنت؛ إذ ستبقى الولايات المتحدة وقلة من حلفائها هي الدول الوحيدة التي تحافظ على شكل الإنترنت المفتوح، وستعمل البلدان الباقية من خلف جدران نارية تتحكم فيه.
وسيسبب الركود الاقتصادي اختلالًا أمنيًّا واسعًا في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، وسيعزز العودة للهويات الإثنية والدينية الفرعية، ما سيُنهك المجتمعات وسيُقسم الدول وينشر الفوضى.
وستصبح الدول الفقيرة أقل استقرارًا، خاصةً مع عدم اهتمام الدول الكبرى أو الأمم المتحدة باستعادة النظام، وستصبح النزاعات مستمرةً فيها، ومن ثم ستُفاقِم وضعَ المشكلات الأخرى.
وسيزيدُ المهاجرون الهاربون من الفقر والحكومات الضعيفة والظروف البيئية المتدهورة، ولكن آمالهم ستتحطم بسبب منع الدول الآمنة لأغلب أنواع الهجرة.
السيناريو الخامس: المآسي والتعبئة
في هذا السيناريو، سيقود العالم في 2040 تحالف عالمي تتزعمه دول الاتحاد الأوروبي والصين، ويتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية العائدة للحياة، لعمل تغييرات واسعة المدى لمجابهة التغير المناخي والفقر ونضوب الموارد، وذلك بعد وقوع كارثة غذائية سببها مناخي، بعد تدمير مصائد الأسماك وتراجع محاصيل الحبوب؛ ما سبَّب ارتفاع أسعار الغذاء وانتهى بمجاعة عالمية.
وستتواصل الأجيال الشابة التي عاشت جائحة كورونا معًا عبر الحدود، وسيلجؤون للمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني بدلًا من الحكومات التي سترى شعوبها أنها خيبت آمالها.
وتأتي المبادرة الدولية من الاتحاد الأوروبي، بعد نجاح الأحزاب الخضر في الفوز بالانتخابات في دول أوروبية عدة بين 2034 و2036، لتُطلق حملةً داخل الأمم المتحدة لتوسيع برامج الإغاثة بشكل كبير، وتحديد موعد جديد لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة المقررة في 2050.
وستعلن الصين دعمها للاتحاد الأوروبي بسبب تأثرها الشديد من المجاعة، بينما تلحق بها ببطء دول مثل أمريكا وأستراليا بعد أن تحصل الأحزاب المهتمة بالبيئة على سلطة سياسية أكبر.
هذه المبادرة الأوروبية، بالتعاونِ مع الدول المُتقدمة التي ركزت على تحديات القرن العابرة للقوميات، ستُنشئ منظمةً عالمية جديدة تسمى مجلس الأمن الإنساني، تسمح بعضوية الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية، وتتطلب عضويتها التزامًا أكيدًا بإجراءات تحسين الغذاء والصحة والأمن البيئي، حتى المُكلفة منها للدول والمجموعات الغنية.
وسيُفصل أعضاء المنظمة غير الملتزمين، ليواجهوا حركات شعبية مناهضة ودعوات للمقاطعة تشبه تلك التي قامت ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وبحلول 2038، سيختلف السلوك العالمي تجاه البيئة والأمن البشري بعد الاعتراف المتزايد بفشل الإجراءات السابقة.
ولكن ستبقى بعض الدول معارضةً لهذه الإجراءات، مثل روسيا وبعض دول «أوبك»، التي ترى فيها تهديدًا لقيمها التقليدية، وستواجه الدول ذات المصالح القوية في قطاع الطاقة، مثل روسيا والسعودية وإيران ودول الخليج، حركاتٍ سياسية ضدَّ النظام، وتُهدد بنزاعات اجتماعية وسياسية عميقة.
ساسة بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.