تراكمت في لا وعي الأنظمة العربية وشعوبها فكرة الهزيمة، منذ بدايات القرن العشرين على الأقل، حتى نهاياته، منذ زوال الخلافة العثمانية وما تلا هذا الزوال من احتلالات وانتدابات وهيمنات فرنسية وإنجليزية ثم أميركية.
كان الاحتلال يلقي بثقله على معظم الدول العربية، من المحيط إلى الخليج، وفرض علينا زعماء اختارهم لنا، دون أن ننعم بما لديه من ديمقراطية تمارسها شعوبه في اختيار حكامها، أو سمح لنا بممارسة ديمقراطية مشوهة لا توصل إلى الحكم إلا من يشاء هو، باستثناء بعض من وصل إلى الحكم دون رضاه.
وفي ظل هؤلاء الحكام المسوخ كان ما كان من هزائم أعظمها خسارة الأمة فلسطينها وبعض أراضي دولها المحاذية لفلسطين، في ظل تواطؤ بعض الحكام العرب مدعين انحيازهم للقضية في الظاهر ممالقين أو مناصرين العدو في الخفاء.
وكان من نصيب لبنان حكام متواطئون خاضعون، منقادون للغرب بل مزايدون عليه أحيانًا، مسارعين إلى التنازل عن الأرض في الجنوب والبقاع الغربي، غير مبالين بالمحتل الصهيوني واعتداءاته واعتداءات عملائه، وقتلهم المدنيين وتهجيرهم واعتقالهم، وتدميرهم المنازل وتخريبهم الحقول وأبواب الرزق، وإن سمعنا منهم على المنابر وفي وسائل الإعلام اعتراضهم وشجبهم لما يقوم به العدو، أو شاهدناهم يبكون في اجتماعات العرب والأمم.
وكان ممنوعًا على الجيش اللبناني أن يوجد في المناطق الحدودية، وحتى عندما وقع النظام اللبناني على اتفاق أيار المشؤوم مع العدو، ظل ممنوعًا على الجيش أن يوجد إلا بشروط تقيده، وبأنواع أسلحة لا تصلح سوى لاصطياد الطيور.
حتى قبل اجتياح الجنوب كان الجنوبيون يعيشون في عدم أمان، وكان الليل يشهد اجتيازًا لجنود العدو من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أراضي القرى اللبنانية، فيستجوبون من يرونه خارجًا من منزله، أو يعتدون عليه، يفعلون ذلك أينما شاؤوا ومتى شاؤوا من ساعات الليل، دون أي استنكار من أية جهة رسمية لبنانية.
كان الصغار في القرى الحدودية يخافون أن يشيروا بأصابعهم نحو مواقع العدو العسكرية داخل فلسطين المحتلة، هكذا علّمهم أهلهم، كي لا يطلق جنود العدو النار عليهم. وكانت منازل القرى الحدودية معرضةً لقذائف العدو ورصاص سلاحه الثقيل متى شاء العدو، وكان الادعاء الدائم لديه أن خلية “مخربين” فلسطينية مرت قرب أحد البيوت أو دخلت إليها.
هكذا كان الحال، قبل انطلاق مقاومات لبنانية قاومت في بداية ما قاومت الهزيمة المتقعرة في اللا وعي العربي من أن العين لا تقاوم المخرز، ومن أن مناهضة الغرب والاعتراض عليه جريمة مشينة، ويا ويلنا إن غضبَ الغرب منا.
ثم كان أن انطلقت مقاومة أخرى، إسلامية حسينية خمينية، لا تؤمن بتقاليد الخنوع والخضوع، ولا تهتم لغضب الغرب وسفاراته ومَن جعلهم حكامًا علينا، مقاومة تعرف عدوها جيدًا، فلا تحارب في الداخل، ولا توجه سلاحها إلا نحو الجنوب، حيث العدو الصهيوني وعملاؤه.
وبدأ اللا وعي العربي يستيقظ من سبات خنوعه، مَن قال إن العدو لا يُقهَر؟ من قال إن العربي لا يقاوم؟ مَن قال إننا لا نستطيع هزيمة عدونا ولو كان وراءه أميركا، القوة العظمى، وكل دول الغرب الكبيرة؟
وهكذا أخرجت المقاومة الإسلامية الأمة من خوفها، وعلّمتها أن الاحتلال ليس قدَرًا مقدورًا، مهما كانت إمكاناته التقنية والتسليحية، وأن نداء “يا أبا عبد الله” و”هيهات منا الذلة” و”لبيك يا حسين” هي الأسلحة التي لا يُهزَم المتمسك بها، وأنه لا شكّ منتصر ولو بعد حين.
وكان أن انتصر العرب وانتصرت الأمة في العام ألفين، ووقف أولئك الذين كانوا أطفالًا ممنوعين من رفع أصابعهم الصغيرة نحو مواقع العدو، رافعين أسلحتهم، موجهينها نحو المواقع ونحو جنود العدو الخائف المرتبك خلف الأسلاك الشائكة الفاصلة بين لبنان وفلسطين المحتلة.
ثم كان نصر تموز، في العام ألفين وستة، لتتكرس في لا وعي العدو هذه المرة، أن هزيمة الجيش الذي لا يقهر، جيشه، قد حصلت ويمكن أن تحصل في أي وقت بعد اليوم.
ثم كان أن نصبت المقاومة الإسلامية خيمة داخل الأراضي اللبنانية، التي يدّعي العدو أنها أرضه، ولا أرض له ولن تكون، لكنه لأول مرة في تاريخ وجود كيانه، لا يجرؤ حتى على مسها أو الاقتراب منها، بعد أن كان يحتل العواصم والمدن والأراضي العربية، معربدًا فاعلًا ما يشاء.
يا الله أين أصبحنا، بعد أن كنا، نحن العرب، نستعطف منظمات الأمم المتحدة الشفقة علينا وإصدار ما يفرض على “إسرائيل” الكف عن عمل ما أو التراجع عن قرار ما، إذا بنا اليوم نرى مبعوثي الكيان يجولون في العالم متوسطين كي يزيل حزب الله الخيمة التي نصبها، بعد أن هددوا بالويل ثم تراجعوا، وها هم يلهثون لدى الأمم المتحدة وغيرها، لكن القرار ليس بيد الدول ولا الأمم المتحدة، القرار لدى القيادة الحكيمة للمقاومة الإسلامية التي كانت في مثل هذه الأيام تواصل صنع الانتصارات التي بدأت في العام ألفين ولن تتوقف حتى تحرير كل فلسطين.
فيصل الأشمر – موقع العهد
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.