سمير مطوط في “خلة وردة”

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

عفيفة نور الدين – خاص الناشر |

في العام 1986، قاد الشّهيد سمير مطّوط “جواد” أوّل عمليّة أسر بتاريخ المقاومة الإسلامية حيث تمكّن المقاومون من أسر جنديّين إسرائيليّين في ما عُرِفَ بـ”عمليّة شيخ الشهداء راغب حرب” والتي تم تنفيذها قرب كونين، سُجِّلت في التّاريخ للشّيوخ المجتمعين أمام دكّان الحيّ وهم يسردون لبعضهم البعض معاناة الاحتلال، للشّبّان والشّابّات الحائرين الباحثين عن الحقيقة، للفتية وهم يركضون خلف كرة القدم في حين يخاف أحدُهم من ركلِها بقوّة لأنّها من إرث أبيه، للفتيات الجالساتِ على مقاعد الاستماع لتعاليم الحجاب الكامل، لحديثي الولادة الّذين يستمعون للأخبار العاجلة بديلاً عن المناغاة! وللجيل الّذي وُلِد بعد هذا العام.

كان من بين الشّبّان من تلقّف الأثر وسعى يسمع صدى العمليّة في كلمات السّيّد الصّدر: “إنّكم يا إخواني الثّوّار كموج البحر، متى توقّفتم انتهيتم”.

يستشهد سمير مطّوط في العام 1987 ويؤخذ جثمانه أسيرًا مع العدوّ ليعود إلينا عبر صفقة تبادل عام 1996. يُحمل جواد على الأكتاف وصوته يرنّ في مسامع الفتية، ويمرّ سريعاً بين سطور فقه الحجاب، ليصيرَ قصّةَ الدّكّان على لسان أكثر الشّيوخ سمَعًا، يبتسمُ الرّضيع في حجر أمّه مخبِرًا إيّاها أنّه يضحكُ لشعوره بالفرح لا لدغدغة الملائكة!

وأمّا من ولدَ بعد العام 1986، فهو الآن يخطُّ حروفًا مجبولةً بالدّموع ويحاول نثرها بين الجموع، ويعود لزمنِ ما قبل ولادته، يُحاول أخذ بعض الصّور وسماع ما قد تُركَ من صدىً! تذهبُ به الأيّام وينمو مع السّنين، يموت كبير الشّيوخ، ويُفتحُ الدّكّان بعد الحِداد ليجلس كلُّ من خبّأ صوت جواد في وجدانه أمام شاشةِ الحيّ ليستمعوا إلى خبرٍعاجلٍ: شوهِدَ سمير مطّوط اليوم في منطقة خلّة وردة، خراج بلدة عيتا الشّعب، يعبّدُ الطّريق أمام ثُلّةٍ من المجاهدين، يرسمُ لهم طريقَ العبور، يقرأ وصيّته “والله لو تجزّأ جسدي ألف جزء وأكثر، ولو تقطّعت أوصالي ألف قطعة وأكثر، ولو تفتتت أعضائي ألف تفتيتٍ وأكثر، ولو، ولو، ولو… كان ذلك أهون عليَّ من العيش و”إسرائيل” باقية وجاثية فوق أرض أبي ذر الغفاري، أرض جبل عامل، أرض الشهداء، وفوق قِبلة المسلمين الثانية، القدس الشريف”. هذا وقد سُمِعَ في أرجاء المنطقة جواب متخطٍّ حدود الشّريط الوهميّ: “بلِّغ صاحبنا، الأمانة صارت عنّا”.

أُطفِئت الشّاشة، وبدأ المُحتشِدون يرتجلون مشاعرهم بكلماتٍ تشبهُ في ترتيبها وقعَ خطواتهم نحو معتقل الخيام عام 2000، فالزّند الّذي حطّم حديد الزّنزانة هو ذاته نسج لأولاده جلودًا لا يمزّقُها سياجٌ فاصلٌ يدّعي حماية من يلقّبون أنفسهم بـ”شعب الله المختار”.

كبُرَ سمير مطّوط عشرين عاماً وفي حِجره من تسلّم أُوارَ وصيّته. ها قد ولد جيلٌ ونَما ووعَى فرحة البيان الأوّل فالثّاني، يتعايش مع فكرة تراكم الوعي عبر خطابات السّيّد التّلفزيونيّة كلّما أراد فرض معادلةٍ جديدةٍ خلال ثلاثة وثلاثين يومًا، يتعرّف على ترتيب الحماس التّنازليّ عند العدوّ وكيف يعلن الهزيمة عبر مجازرٍ يرتكبها تضاف إلى سجلّه الملطّخ بالدّم.

ما زال أبناء الحيّ أمام التّلفاز مع تزايد أعداد المقاعد الفارغة، فأولئك الفتية ذهبوا ليلوّنوا اللّيل وليزرعوا شتول الزّيتون في بنت جبيل، ليمسحوا دموع الأطفال بورق البيانات المتتالية، ويرسموا الأمل على وجوه المنتظِرات، يهدّئون من روعِ المرضى حيث استُبدِلَ الدّواء بوجوههم وأصواتهم وقناديل سيرِهم على طريق النّصر الإلهيّ. منهم من عاد، ومنهم من جعل أمّه الأجمل بين الأمّهات.

اليوم، يتعطّش أبناء العقدينِ الأخيرين للمعرفة، فعلى كلِّ من عرِف وشعر ورأى وسمِع مسؤوليّة أن يكتب ويروي كي يُخلّدَ الإنسانيّة الحقّ الّتي كادت أن تكون أسطورة.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد