في أوقات الأزمات والحروب يبرز دور الإعلام وأهميته، إذ تشكل وسائل الإعلام الوجهة الرئيسية للمهتمين بمتابعة الحدث ومراقبة التطورات. ولا يختلف اثنان على مدى تأثير هذه الوسائل في تكوين وجهات النظر لدى المتلقين عن طريق السياسة التي تعتمدها في تسليط الضوء على الحدث، فهي تتحول من كونها مسؤولة عن نقل “الحقيقة” إلى المساهمة في تشكيل الرأي العام وصوغ مواقفه وتحركاته.
وللإعلام ضوابط ومعايير مهنية متعارف عليها تقتضي أن تلتزمها وسائل الإعلام، تتمثل في التقيد بمجموعة من المبادئ والقيم والسلوكيات، أهمها: نقل الواقع والحقيقة بتجرد، والدقة في نقل المعلومة، والشفافية، وتجنُب كل ما من شأنه إثارة خطاب الكراهية والعنصرية، وغيرها…
هذا من الناحية النظرية، لكن واقع الأمور بالنسبة إلى الإعلام، بصورة عامة، ربما لا يتطابق دائماً مع المعايير والضوابط، وفي كثير من الأحيان تصبح أخلاقيات المهنة مجرد مصطلحات نظرية، وهو ما جرى خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت.
فمما لا شك فيه أن الحرب الشعواء التي أعلنتها إسرائيل على القطاع، في أعقاب عملية طوفان الأقصى، كشفت كيفية تعامل الإعلام الغربي مع الحدث، ومدى التزامه المعاييرَ المهنيةَ؛ إذ سارعت أغلبية وسائل الإعلام الغربية الساحقة إلى تبنّي السردية الإسرائيلية منذ الساعات الأولى للعدوان، وهي سردية تجاوزت المعايير المهنية والأخلاقية، فقامت على مجموعة من الأكاذيب مظهرة تحيُزاً واضحاً إلى جانب إسرائيل، وخصوصاً في المراحل الأولى من الحرب.
وعلى الرغم من بعض التحول في توجهات الرأي العام الغربي، وهو تحول فرضته حقائق ما يجري على أرض الواقع من همجية إسرائيلية فاقت الوصف وكشفت زيف الادعاءات الصهيونية، فإنه من المفيد التوقف عند عدد من السرديات الإسرائيلية التي تبنّاها الإعلام الغربي من دون مراجعة أو تدقيق، وفرضها على الرأي العام عبر تبنّيها بصورة مطلقة وتكرارها:
السردية الأولى: “حماس” قطعت رؤوس الأطفال
كان من اللافت انزلاق الإعلام الغربي في ترديد هذه الأكاذيب، وفي مقدمها الروايات التي تحدثت عن مجازر ارتُكبت بحق الإسرائيليين، وعن “قطع رؤوس الأطفال”، وحرق جثث، واغتصابات وغيرها من دون تقديم أدلة. ومن الأمور التي ساهمت في انتشار هذه الروايات مسارعة الرئيس الأميركي جو بايدن ومسؤولين في إدارته إلى تبنّي الرواية وترديدها أمام الرأي العام العالمي قبل التأكد منها.
لكن المفاجأة كانت أنه عندما سُئل مسؤولون في البيت الأبيض عما إذا كانوا يملكون ما يؤكد صحة هذه الأنباء، اضطروا إلى التراجع عن التصريحات، فنقلت شبكة “CNN” الإخبارية الأميركية عن مسؤول في الإدارة الأميركية قوله إن التصريحات كانت مبنية على “مزاعم” مسؤولين إسرائيليين، ولم يرَ بايدن والمسؤولون الأميركيون الصور التي تثبت الرواية الإسرائيلية، ولم يتحققوا من صحتها.[1]
وهذا الموقف قاد مذيعة الـ”CNN” سارة سيندر إلى الاعتذار بسبب تبنّيها المقولات الإسرائيلية قبل التأكد من صحتها، لكن موقفها لم يجرِ على آخرين واصلوا ترديد هذه الأكاذيب حتى رسخت في أذهان كثير من الجمهور في الغرب.
السردية الثانية: “شيطنة” حركة “حماس”
عمد قادة العدو الإسرائيلي، منذ اللحظة الأولى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى “شيطنة” حركة “حماس” وتشبيهها بتنظيم “داعش”، مستخدمين عبارة الأعمال “الإرهابية”، و”البربرية” في تصريحاتهم. وتلقف أغلب المسؤولين الأميركيين والغربيين هذه المقولات التي باتوا يرددونها كمرادف لحركة “حماس”.
هذه “الشيطنة” انتقلت بدورها إلى الإعلام الغربي، الذي استخدم المصطحات نفسها في نشرات الأخبار وفي الصحافة المكتوبة. أمّا بالنسبة إلى المقابلات على الهواء، والتي نشطت بصورة غير مسبوقة منذ بداية الحرب على غزة، فحدِّث ولا حرج، إذ أصبح السؤال بشأن “إدانة ‘حماس‘” لازماً كمقدمة لأي حوار يتناول الحدث، وباتت الإدانة بمثابة جواز مرور يرضي وسيلة الإعلام والمذيعين.
وبرزت المشكلة عندما حاول بعض وسائل الإعلام الغربي لاحقاً استضافة شخصيات فلسطينية، أو مؤيدة لفلسطين، فعمد المحاورون إلى أسلوب منافٍ للمعايير المهنية، يُقصد منه إحراج الضيف وإملاء الإجابات، وهذا ما أدى إلى نقاشات ومشادات شابت هذه المقابلات، فحنان عشراوي، على سبيل المثال، انتقدت بشدة السؤال الذي وجهته مذيعة في إحدى محطات التفلزة السويدية، معتبرة أنه “سؤال في غاية العنصرية والتعالي”،[2] رافضة الإجابة عنه. كما كان لسفير فلسطين في بريطانيا، حسام زملط، جولات مع وسائل الإعلام الغربي، رد فيها على كثير من الأسئلة الملتوية بمنطق متماسك.
المقولة الثالثة: أكذوبة “الدفاع عن النفس”
تحت هذا الشعار، أعطى الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل الحق في ارتكاب ما تشاء من مجازر في قطاع غزة. وإذا كان معظم زعماء الغرب قد تحدث صراحة أمام وسائل الإعلام عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فما بالك بردة فعل وسائل الإعلام؟
لقد شرعن الإعلام الغربي، عبر تبنّي مقولة “الدفاع عن النفس”، قتل أكثر من 15,000 مواطن غزي، بينهم أكثر من 6000 طفل، وتدمير المستشفيات ومقرات الأمم المتحدة والمدارس والجامعات ودور العبادة والأبنية والتجمعات السكانية، وهو ما أحدث دماراً أشبه بزلزال ضرب المنطقة، ناهيك بالحصار الكامل الذي فُرض على القطاع بمنع سبل الحياة كافة، من مياه وكهرباء وأدوية ومواد غذائية.
وتجاهل هذا الإعلام، بصورة منافية لأخلاقيات المهنة، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل خلال هذه الحرب، بل أيضاً برر كل هذه الجرائم تحت حجة “الدفاع عن النفس”.
فأي معيار أخلاقي مهني يجيز تبرير هذا الحجم من الجرائم التي تفوق الوصف؟
تداعيات التجييش الإعلامي
إن مجرد متابعة ما بثته وسائل الإعلام الغربي خلال هذه الحرب كفيل بأن يخدع المتلقين، وخصوصاً المؤيدين أصلاً لإسرائيل. وقد أدى هذه التجييش الإعلامي إلى ردات فعل عنيفة جداً دفع ثمنها أبرياء لمجرد أنهم من العرب أو الفلسطينيين أو المؤيدين للقضية الفلسطينية. وشكلت ظاهرة المساواة بين “معاداة الصهيونية” و”معاداة السامية” تهديداً لكل من يعادي إسرائيل، إذ بات حكماً، نتيجة هذا الكم من التجييش والتسييس الإعلامي، معادياً للسامية ولليهودية. وهذه الظاهرة تنطوي على خلط في المفاهيم يتنافى مع الواقع، وينشئ التباساً لدى الرأي العام، ويشيطن كل من لا يؤيد إسرائيل. والأخطر من ذلك، أن هذه التهمة تؤدي بدورها إلى حرف الأنظار عن الجرائم المتواصلة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين على مدى 75 عاماً.
أمّا الاعتداءات التي تعرّض لها مواطنون في الغرب نتيجة هذا البث الإعلامي غير المهني، فلائحتها تطول، ونسوق في هذا المجال مثلين؛ فبعد نحو أسبوع على الحرب، أقدم عجوز أميركي على تسديد 26 طعنة أصابت طفلاً فلسطينياً في السادسة من العمر أدت إلى وفاته، بينما أصاب والدته بعدة طعنات أُخرى، وأُدرجت الجريمة تحت خانة “جرائم الكراهية”، بسبب الصراع الدائر بين إسرائيل و”حماس”.[3]
وقبل أيام، أُصيب ثلاثة طلبة فلسطينيين في ولاية فيرمونت الأميركية بجروح بليغة، عندما أطلق مسلح النار على الشبان الثلاثة الذين كانوا يرتدون الكوفية ويتحدثون العربية. وقد طالب حسام زملط، سفير فلسطين في بريطانيا، تعليقاً على ما حدث بـ “وقف جرائم الكراهية ضد الفلسطينيين.”[4]
ويضاف إلى جرائم الكراهية التي تسبب الإعلام بها انتهاكات أُخرى لا تقل خطورة طالت عاملين في وسائل إعلام غربية بحجة تأييد الفلسطينيين، أو معارضة إسرائيل؛ ومنها ما جرى مع الصحافية المخضرمة ندى عبد الصمد في محطة “BBC”، وما جرى مع المذيع الفرنسي ذي الأصل الجزائري محمد القاسي، والذي تعرّض لتوبيخ حاد من القائمين على محطة “TV5” الفرنسية بحجة توجيه سؤال إلى متحدث باسم الجيش الإسرائيلي ينطوي على مساءلة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في مستشفى الشفاء في غزة.
هذا غيض من فيض لما يتعرض له العرب والمؤيدون لفلسطين والفلسطينيين في الغرب، وهي ممارسات يتحمل الإعلام المتحيز الجزأ الأكبر من المسؤولية عنها، فوجود سياسة إعلامية تقوم على إثارة المشاعر عبر نشر أخبار مضللة وتشويه للحقائق، وعبر تجاهل قضية احتلال بدأت قبل 75 عاماً، ستؤدي حتماً إلى مزيد من جرائم الكراهية والمعاداة، وهذا ما كشفته حرب إسرائيل على غزة، هذه الحرب الجهنمية، والتي عرّت ما تدّعيه مؤسسات الإعلام الغربي من مهنية عالية، وشفافية لا تقارن. وبرهن هذا الإعلام، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه إعلام متحيّز ومروج للرواية الإسرائيلية، وشكّل إلى حد كبير جبهة حرب إعلامية موازية للحرب العسكرية.
[1] “البيت الأبيض يتراجع عن تصريح بايدن بشأن ‘قطع رؤوس الأطفال'”، “سكاي نيوز عربية”، 12/10/2023.
[2] “حنان عشراوي تحرج مذيعة التلفزيون السويدي: هذا سؤال عنصري”، يوتيوب.
[3] “أميركي يقتل طفلاً فلسطينياً ويصيب والدته بجروح خطيرة”، “الجزيرة نت”، 16/10/2023.
[4] “إصابة 3 طلبة فلسطينيين بأميركا بعد إطلاق النار عليهم لارتدائهم الكوفية”، “العربي الجديد”، 26/11/2023.
رامي الريّس – مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.