أدّى الصراع في سورية منذ اندلاعه في العام 2011 إلى استنزاف البنى التحتية والاقتصاد، ومختلف المرافق العامة، وسواء في سورية أو في لبنان من ثم، شلّ مجمل القطاعات الحياتية. أما بخصوص الخسائر فقدْ بلغت قيمة هذه الخسائر نحو 500 مليار دولار وهو إجمالي الخسائر المالية، التي مني بها الاقتصاد السوري بعد 10 سنوات من الحرب فقط، وفق تقديرات نشرتها الأمم المتحدة في تقرير صدر العام 2020 و100 مليار دولار هي قيمة الخسائر التي تكبدها قطاع النفط والطاقة في سورية. وقس على ذلك بقية القطاعات الانتاجية.
ومع هذه الكارثة الإنسانية الكبيرة، التي تتفاقم يومًا بعد يوم، سواء بسبب المجموعات المسلحة الممولة من دول أصبحت معروفة، والتي لا زالت تشن حربها على الدولة، أو بسبب العقوبات التي فرضت ولا زالت على الشعب السوري، فلا مبادرات جدية حول العالم اليوم لوقف الحرب وانهائها. ولعلها أصبحت مرتبطة بأزمة الشرق الأوسط ككل. ويبقى أن نقول بأن سورية هي بوابة المنطقة العربية كلها الى أوروبا وبوابة أوروبا الى كل العالم العربي. لقد كانت سابقا مركزا وبوابة لكل من حكم المنطقة من الفتح الإسلامي الى الاحتلال العثماني ولاحقا الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد الاستقلال أصبحت سورية بوابة الروس الى المياه الدافئة، فيها أقام الروس قواعدهم لوقف الزحف الغربي على المنطقة. ومن القواعد الأساسية للروس في سورية قاعدتان، قاعدة حميميم الجوية والتي تستخدم جزءا من مدارج مطار باسل الأسد في اللاذقية، وقد أقيمت سنة 2015، والقاعدة البحرية في طرطوس وتقع في ميناء طرطوس، وقد جرى الاتفاق عليها أيام الاتحاد السوفياتي السابق في سنة 1971 وهجرت سنة 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأعيد تفعيلها بعد العام 2006 .
أثر العقوبات على سورية
يتعاظم أثر العقوبات على أي دولة مع درجة انفتاح هذه الدولة ودرجة اعتمادها في تجارتها واستهلاكها على الخارج. وسورية بلد صغير نسبيا لا يتجاوز ناتجه المحلي ما يعادل 60 مليار دولار أميركي (تقديرات 2010)، ويشكل تبادله الخارجي ما بين 35 و43% (تقديرات 2008 و2009) من إنتاجه المحلي. ويتضح أن لبعض العقوبات آثارًا تفوق حجمها المباشر بالنسبة للاقتصاد المحلي، حيث أدت العقوبات التكنولوجية الأميركية على سورية خلال الفترة السابقة، إلى تأخر تطور قطاع تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية للاتصالات، والخدمات التكنولوجية والمعرفية لقطاعات الإنتاج، وأدت إلى خسائر كبيرة في قطاع النقل الجوي وحرمان سورية من نقد أجنبي ضروري، وعرقلت بالنتيجة تطور بنية وتركيبة العديد من القطاعات بما فيها الصحة والتعليم. وتندرج العقوبات الحالية على سورية في إطار العقوبات الموجهة، ومن شأن هذه العقوبات أن تُحدث أضرارًا ونتائج سلبية على سير الأعمال وقدرة الدولة على التحكم والسيطرة، نتيجة انعدام فرصة توفير بدائل محلية. إن تحليل أثر العقوبات الاقتصادية على سورية في الآونة الأخيرة، تحكمه عدة اعتبارات أهمها استمرارية تلك العقوبات واتساع نطاقها، وإجماع الأطراف الدولية والإقليمية على تنفيذها، وبالتالي محدودية البدائل بالنسبة للدولة.
الآثار المترتبة على العقوبات بالنسبة للدولة السورية
تشكل الإيرادات النفطية موردا هاما وأساسيا للموازنة العامة للدولة، فهي كانت تقارب نحو 22% من إيراداتها، وتشكل الصادرات النفطية على ضآلتها الحصة الأساسية من هذه الإيرادات، فتتراوح بين 16 و17% من إجمالي الإيرادات. وتوقف هذه الإيرادات لفترة زمنية طويلة دفع الحكومة إلى السحب من الاحتياطي والاقتراض من المصرف المركزي، نتيجة عدم وجود بديل لتلك الموارد.
على عكس العقوبات المفروضة على تجارة النفط، تبدو آثار العقوبات التي تستهدف النظام المصرفي والمالي أسرع في الظهور، حيث أدت هذه العقوبات والقيود إلى ارتفاع تكاليف المعاملات وارتفاع تكاليف المستوردات للأسباب المالية ودخول وسطاء يتم من خلالهم تحويل العملات والدفع، وارتفاع تكاليف التأمين، بالإضافة إلى تحول جزء من الطلب على العملة الأجنبية من السوق النظامية إلى السوق السوداء، ما أدى إلى انخفاض سعر صرف الليرة السورية، وذلك رغم تدخل المصرف المركزي مباشرة وبيعه للعملة من خلال مزاد يجمع الصيارفة والمصارف الخاصة، في محاولة للحد من تدهور سعر الصرف. ومن شأن الأحداث الحالية والعقوبات المفروضة على مصرفين حكوميين رئيسيين والخشية أن تؤثر تلك العقوبات على وضعية النظام المصرفي السوري، وقدرته الائتمانية ووفائه بالتزاماته حيال المودعين، إضافة إلى الخشية من تفاقم الوضع الأمني والحيلولة دون عمل المصارف بشكل اعتيادي، من شأن كل ذلك أن يحفز على طلب السيولة، والاحتفاظ بالنقد لإجراء المعاملات، مما يعني توسيعا للكتلة النقدية، إضافة إلى توسيع الكتلة النقدية المفروضة بفعل التباطؤ في النشاط الاقتصادي وتراجع معدل دوران النقد، حيث يفرض بطء النشاط الاقتصادي على المؤسسات الاحتفاظ بكميات كبيرة في المخازن من السلع الوسيطة أو المنتجات الجاهزة، كما أنها مضطرة للاحتفاظ بسيولة كافية لتسيير أعمالها في ظل بطء عمليات البيع والشراء وتراجع مستوياتها. ويطرح موضوع عدم إرسال العملة السورية المطبوعة لدى المطابع الأوروبية المتخصصة، وهو نوع من الحجز لتلك الأموال، مشكلة السيولة في السوق الداخلية خلال الفترة القادمة.
تعامل الحكومة مع الآثار الاقتصادية للأحداث
أدركت الحكومة أن العامل الاقتصادي قد كان من العوامل الرئيسية التي فجرت الحراك الاجتماعي. لقد قامت الحكومة بإقرار زيادة على الرواتب والأجور، كما أقرت تخفيضات في الرسوم الجمركية على السلع والمواد الغذائية، وخفضت أسعار المازوت بنسبة كبيرة، كما قدمت قروضا ميسرة للطلبة الجامعيين، وثبّتت عددا من العمال المتعاقدين منذ سنوات عديدة. كان ممكنا لجملة هذه الإجراءات أن تخفف من الاحتقان الكبير في الشارع السوري لكن بقيت مشكلة مستويات الأجور وعدم تناسبها قائمة.
ماذا عن الموارد المحتملة لسورية وانعكاسها على المنطقة؟
1- سورية سوق اقتصادي كبير وهي مرشحة لأن تكون أكبر سوق استهلاكي في المنطقة نظرًا لموقعها الجغرافي المساعد وسهولة الوصول إليها والخروج منها نحو الدول والقارات كافة.
2- الغاز وهو السبب الرئيسي في كل ما يجري في سورية سواء من الأنابيب المخطط لها أو من ناحية الإنتاج المحتمل، فقد ارتفع انتاج الغاز السوري وفقًا لتأكيدات وزير النفط والثروة المعدنية السوري علي غانم من 11 مليون متر مكعب يوميًا قبل الأزمة في العام 2011 الى 31 مليون متر مكعب اليوم بحسب صحيفة الوطن السورية. وهنا نشير الى تأكيدات قامت بها السفينة الأميركية نوتيلس وبمساعدة تركية في 17 آب 2010 عبر مسح جيولوجي تبين من خلاله أن واحدًا من أكبر حقول الغاز يقع شرقي المتوسط ويقدر بـ 23 تريليون قدم مكعب والجزء الأساسي يقع ضمن المياه الإقليمية السورية. ومن المتوقع أن يبلغ احتياطي الغاز السوري 28,5 تريليون متر مكعب ما بين الآبار البحرية والبرية مما يجعلها الثالثة عالميًا بعد روسيا وإيران، وهذه تقديرات مركز فيريل للدراسات.
3- الأنبوب القطري بعد العام 2023 أي عام قمة الإنتاج السوري للغاز يصبح في خبر كان لا منفعة اقتصادية منه نظرًا لتوفر الغاز السوري وقربه من الأسواق العالمية وخاصة الأوروبية مع تدني كلفة انتاجه ونقله.
4- النفط أيضًا ملف مهم فسورية تنتج اليوم حوالي 387 الف برميل يوميًا وفقًا لصحيفة الوطن السورية لكنها في 2013، أبرمت عقد “عمريت” البحري مع شركة “سيوزنفتا غازإيست ميد” الروسية، من أجل التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية.
فهل نحن في صدد إعادة رسم جديدة للمنطقة مع دور أساسي لروسيا وبداية استغناء أوروبا عن النفط والغاز الخليجي بعد أن استغنت سابقًا أميركا عنه برفع إنتاجها من نفط الزيت الصخري؟
آثار العقوبات على لبنان
لقد فرض قانون “قيصر” نفسه لاعبًا أساسيًا في الحياة اليومية اللبنانية، فالقانون الأميركي الجديد الذي يسمح لواشنطن بفرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري والجهات الداعمة له عسكريًا وماليًا وسياسيًا، والمتعاملة معه تجاريًا، تحول إلى مادة سجالية جديدة في لبنان، بين مؤيد له من منطلق تجنب العقوبات، وبين معارض له من منطلق تدخل أميركي في الشؤون اللبنانية، والمشاركة في محاصرة سورية.
أسئلة كثيرة تُطرح عن مدى تأثير القانون على لبنان، أكان عبر التبادل التجاري، أو خطوط الطيران، أو التبادلات المالية في ظل وجود أموال لمودعين سوريين في لبنان، أو عبر المصارف اللبنانية في سورية كونها تتعامل مع المصرف المركزي السوري، كذلك مصير التحويلات المالية من لبنان إلى سورية . لقد نتج عن هذا الحصار موجة من الهجرة الجماعية ترافق مع أعطاء حوافز للنازحين في لبنان شجعهم على القدوم الى لبنان، هذا الواقع نتجت عنه تداعيات كارثية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي اللبناني نذكر منها:
- خفض معدل النمو الحقيقي في الناتج القومي وفقًا لتقرير البنك الدولي الصادر في العام 2015 بمقدار 2.9 بالمئة .
- دفع أكثر من مليون مواطن الى خط الفقر.
- تقليص قدرة الحكومة على تحصيل 1.5 مليار دولار من الواردات الضريبية.
- ارتفاع الإنفاق العام بمقدار 1.1 مليار دولار بسبب زيادة الطلب على الخدمات العامة.
- خسائر دعم السلع التي استفاد منها كل المقيمين على الاراضي اللبنانية والتي قدرت قيمتها خلال العشر سنوات السابقة بأكثر من عشرين مليار دولار وحيث إن عدد النازحين يبلغ حوالي 20 بالمئة من المقيمين فهذا يعني أن ما لا يقل عن 4 مليار دولار ذهب الى دعم النازحين.
- انخفاض مستوى الخدمات الصحية والتعليمية نتيجة لعدم قدرة البيئة التحتية على تحمل هذا العدد من النازحين.
- تدني القدرة على معالجة النفايات الصلبة.
- زيادة نسبة العوامل الملوثة للبحر والأنهار نتيجة قرب هذه المخيمات من مصبّات هذه الأنهار وعدم القدرة على معالجة مياه الصرف الصحي.
بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية في لبنان، فإن القانون خلق انقسامًا سياسيًا ستشتدّ وتيرته مع التشدد الأميركي، ما سيزيد الضغط على الحكومة اللبنانية في مواجهتها للتحديات كافة. إن فتح العلاقات اليوم مع سورية من قبل الدولة اللبنانية دون رفع العقوبات الأميركية عنها قرار لن يجرؤ الساسة اللبنانيون على اتخاذه وقد ظهر هذا الخوف وعدم الجرأة من خلال ما يسمى بعملية استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية وبالتالي لا تنتظروا من الطبقة السياسية الحالية أن تذهب في هذا الاتجاه.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.