سريعاً، تسرق قارة آسيا الأضواء. هي القارة التي تعج بالأزمات من كل حدب وصوب. هي قارة “المواجهة الجيوبوليتيكية” التي تحوم حولها استراتيجيات القوى الكبرى. هي نفسها خطفت أنظار العالم على وقع أخبار ومشاهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان قبل شهرين. وهي بدورها لفتت على مر الأشهر الماضية أنظار الأوروبيين وشركائهم في “حلف شمال الأطلسي” إلى “الباسيفيك” على وقع أزمة الغواصات الأخيرة بين واشنطن وباريس. أزمة لن تبرأ من تبعاتها علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين، على الأمد القريب، وتعكس مؤشرًا واضحًا حول تخلخل لبنات “الأسرة الغربية” في مقابل “الشرق الصاعد”، لتضيف عاملًا إضافيًا آخر بشأن أفول عصر “الاستثنائية” الأميركية. وآسيا بلا أدنى شك تحتل واجهة الأحداث اليوم، وتتهيأ لتكون غدًا قبلة العالم.
ايران تتجه شرقًا
بين الحدثين، كانت “نسائم الشرق” تلفح وجه العاصمة الإيرانية طهران، للاحتفاء بقبول إيران في عضوية “منظمة شنغهاي للتعاون” بعد انتظار دام 14 عاماً. وفيما كان العالم منشغلًا بمتابعة جدول أعمال القادة والزعماء على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/ أيلول الفائت، كان لدى الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي أولويات أخرى، ووجهة أخرى، وعوض الذهاب إلى نيويورك، حطت طائرته في العاصمة الطاجيكية دوشنبه، مكان انعقاد القمة الأخيرة للمنتدى الذي يضم إلى عضويته كازاخستان، طاجكستان، أوزبكستان، قيرغيزستان، إضافة إلى روسيا، والصين، إلى جانب كل من الهند، وباكستان، وإيران أخيراً.
هكذا، حسمت طهران “الجديدة” خياراتها. “إيران رئيسي” تتجه إلى تعميق روابطها الشرقية، وأولوياتها باتت أبعد بكثير من انتظار عودة أميركا للاتفاق النووي على ضوء كلام رئيسي قبل أسابيع لدى استقباله وفدًا من المصدرين الإيرانيين عن تعويله على تسخير العقوبات الأميركية كفرصة للدفع باتجاه تنمية الإنتاج المحلي، وتعزيز العلاقات الاقتصادية لإيران مع الدول المجاورة، لا سيما تلك المنضوية تحت لواء “منظمة شنغهاي”.
الثابت أن الانفتاح على تثبيت عضوية إيران، الواقعة تحت ضغط العقوبات الأميركية، والعزلة من قبل الغرب عمومًا، في عداد المنتدى الآسيوي الواعد، والذي يعد إحدى أكبر المنظمات الإقليمية وفق مقاييس الواقعين الجغرافي والديمغرافي، في غضون عامين من الآن، استرعى انتباه الصحافة الغربية، وبدا ملفتًا تعليق مجلة “فورين بوليسي” بالقول إن “إيران يحدوها الاعتقاد بأن القوى الآسيوية تنهض على حساب واشنطن، وأن الصين وروسيا لا تتشاطران الموقف (مع واشنطن) إزاء المصالح الأميركية الرامية إلى احتواء إيران، وخنق اقتصادها”، ملمحة إلى أن الدولتين، خلافًا للولايات المتحدة، قد تكونان على استعداد لاحتضان إيران، وتعزيز مصالحهما المشتركة معها في الشرق الأوسط. وألمحت المجلة إلى أن رئيسي سيعمد إلى الاستفادة من ذلك النجاح الديبلوماسي في الشكل، والاستراتيجي في المضمون، شارحة أن صناع القرار الجدد في طهران يشككون في نوايا واشنطن ودوافعها حيال الاتفاق النووي، مرجحين أن هواجس الأميركيين وحلفائهم الإقليميين والدوليين، لا تتعلق أساسًا بمخاوف من عسكرة البرنامج النووي لطهران، بقدر كونها تستبطن “استراتيجية احتواء”، بهدف الحد من النفوذ الإقليمي لإيران، بكل السبل المتاحة أمامهم. وتابعت المجلة، أن حكومة رئيسي تنتهج “سياسة التوجه شرقًا، ردًا على سياسة سلفه التي سبق أن وصفها أركان هذه الحكومة بـ “سياسة التوجه غرباً”، مشيرة إلى أنه يمكن للصين على وجه الخصوص، وفي وقت تبدو فيه المفاوضات النووية في ظل إدارة بايدن متوقفة، أن “تدعم الموقف التفاوضي” للإيرانيين، أو أن تعمد إلى توفير “خيارات بديلة”، سواء من خلال “مبادرة الحزام والطريق”، أو الاستثمار الأجنبي المباشر، وذلك “إذا كانت لديها الرغبة في تحدي الولايات المتحدة”.
الموقف الرسمي لطهران
فمن جهتها، تنظر طهران إلى مسألة قبولها داخل أروقة “شنغهاي للتعاون” بشيء من الأمل، والتفاؤل. وفي معرض توضيح توجهات الحكومة الجديدة، صرّح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بأن “العالم قد دخل حقبة جديدة”، مضيفًا أن “نهج الهيمنة والأحادية في طور الأفول”، مع التشديد على أن “التوازنات الدولية تنحو في اتجاه التعددية، وإعادة تشكل خارطة توزيع القوى لصالح الدول المستقلة”. من جهته، قال مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، علي باقري كني، وهو المحسوب على الجناح المعارض للاتفاق النووي، إن “الملاذ الوحيد المتاح لإيران يتمثل في كسب حلفاء استراتيجيين أقوياء جدد، مثل الصين، وروسيا”، معولًا على دور ديبلوماسي داعم من جانبهما في المحادثات الرامية لإعادة واشنطن إلى التزاماتها بموجب اتفاق فيينا.
وبصرف النظر عن المزايا التجارية لعضوية المنظمة، على أهميته للقيادة الإيرانية، فهي ترى أن ذلك من شأنه أن يوسع هامش عمقها الدفاعي عند حدودها الشرقية، ويفتح الأبواب أمام نيلها دورًا وازنًا في النظام الإقليمي المتشكل في جنوب آسيا، ووسطها، والاعتراف بها “لاعبًا فاعلًا” على قاعدة احترام التعددية في المنطقة، والعالم، إلى جانب ما يتيحه ذلك من فرص لناحية إشراك قواتها في المناورات العسكرية التي تجريها دول المجموعة دوريًا، أو الحصول على معدات عسكرية متقدمة من جانب روسيا، وعلى استثمارات صينية، وتعاون تجاري يراهن رئيسي عليها للتخفيف من حراجة الوضع الاقتصادي لبلاده. من هنا، جاء تهليل وسائل الإعلام الإيرانية للحدث بوصفه “انتصارًا”، على اعتبار أنه “سوف يقوض جهود الدول الغربية لعزل إيران، وذلك عبر تعزيز مقدرات القوة لديها من جهة، وترسيخ مكانتها في منطقة غرب آسيا من جهة أخرى”.
“بشائر” غير سارة لأميركا
ورغم أن إيران لم تنسحب من الاتفاق النووي، فمن المرجح أن تشيح بنظرها عن الاتفاق المذكور، ربما لفترة ليست بقصيرة، طالما بقي الجانب الأميركي مصرًا على نهج العقوبات، ليتقاطع ذلك مع ما يشاع همسًا في إيران وخارجها حول ضرورة وجود “اتفاق مكمّل” لخطة العمل الشاملة المشتركة التي تم التوصل إليها في فيينا في صيف العام 2015، أو ربما “نسخة معدّلة” عنه. فمسار الأحداث، على ما يبدو، قد تجاوز بأشواط ما جرى في ذلك العام، لا سيما لجهة دخول المشهد الإقليمي مرحلة جديدة، لن يشكل خروج أميركا المذل من أفغانستان دمغها الوحيد، مع التحاق إيران “الصاخب” بـ “العصر الآسيوي” في كنف “منظمة شنغهاي للتعاون”، وانعكاساته على تعاملاتها مع كل من الصين، وروسيا، الأمر الذي، وبصورة لا تقبل الشك، لن يحمل بشائر سارة لأميركا.
استطلاعات الرأي
خلافًا لما راهن عليه كثير من الإيرانيين في ملف المفاوضات مع القوى الكبرى، بخاصة الولايات المتحدة، أتى تعامل الإدارة الأميركية السابقة إثر انسحابها من “اتفاق فيينا” على هيئة “عقاب لطهران”، أكثر منه سياسة خارجية متماسكة. وبرأي محللين إيرانيين، فإن سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب أسهمت في تشكّل شبه إجماع في أوساط النخب داخل الجمهورية الإسلامية مفاده أن “الطريقة الوحيدة المتاحة أمام إيران لحماية مصالحها القومية تتلخص في حماية النظام (الإسلامي) فيها”. وهي حقيقة عكستها خسارة معسكر “الإصلاحيين” في انتخابات العام 2021. فالعقوبات التي أقرت إدارة الرئيس الأميركي السابق إعادة فرضها على طهران عام 2018 عززت مناخات عدم الثقة لدى الشعب الإيراني تجاه الغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا. فمع وصول معدلات التضخم داخل إيران إلى مستويات قياسية قاربت 40 في المئة، وتضاعف نسبة الفقر المدقع من 15 في المئة إلى 30 في المئة في غضون عامين من ذلك القرار، وفق بيانات “مؤسسة الأمن الاجتماعي” الإيرانية، يبدو المشهد الداخلي في إيران مفتوحًا على احتمالات شتى، ومزاج الرأي العام الإيراني بدأ يشي بتململ من سياسات التسويف والمماطلة المتبعة أميركيًا حيال “اتفاق فيينا النووي”.
ولا يبدو أن تغيير الإدارة في الولايات المتحدة، وانتقال دفة الحكم من “الحزب الجمهوري” إلى “الحزب الديمقراطي” يوحي بتغيير ما في النظرة التشاؤمية السائدة حيال هذا الملف. ففي استطلاع جديد للرأي، أجرته جامعة “ميريلاند” تبين أن النسبة الأكبر من الإيرانيين المستطلعة آراؤهم تعتبر أن لدى الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن نزعة عدائية حيال بلادهم، فيما تصدرت مسألة رفع العقوبات الأميركية عن إيران قائمة اهتمامات 6 في المئة فقط من المستطلعة آراؤهم كشكل من أشكال إحباط فئات واسعة من الإيرانيين من سياسات واشنطن.
في المقابل، أظهر الاستطلاع الذي أجري في أيلول / سبتمبر الفائت أن حوالي 54.1 من المستطلعين يعتقدون أنه على إيران أن تعمد إلى تقوية علاقاتها بدول آسيا، في حين قاربت نسبة المتحمسين لتحسين علاقات حكومتهم مع بكين وموسكو نسبة 60 في المئة. وفي الإطار عينه، تشير مجلة “نيوزويك” الأميركية إلى أن نهج الإدارة الديمقراطية الجديدة تجاه الملف النووي، أوجد حالة من “الإحباط الملحوظ” لدى الإيرانيين، ممن كانوا يأملون في أن تبادر إدارة بايدن سريعًا إلى التخلي عن التدابير العقابية القاسية بحق طهران الصادرة عن سلفه، لافتة إلى أن النهج المشار إليه أفضى إلى تبلور “تحول جيوبوليتيكي أوسع” يحظى بتأييد شعبي من أجل حسم مسألة التوجه شرقًا، بعيدًا عن الغرب.
الفرصة الضائعة:
على ضوء ما سبق، لا بد من التأكيد على دخول “إيران رئيسي” في حقبة جديدة من تاريخها، خصوصًا على الجبهة النووية، وعلى صعيد علاقاتها الدولية. وبحسب مصادر غربية، فإن المتغيرات الداخلية والخارجية التي عصفت بإيران خلال العامين الماضيين سوف تسهم في إعادة صياغة علاقاتها مع كافة دول العالم، بخاصة الولايات المتحدة، وفي قلب نهج حكومة روحاني السابقة الطامحة إلى الانفتاح على الغرب، وذلك لحساب تقارب اقتصادي وأمني أكبر مع كل من موسكو، وبكين. ووفق المصادر عينها، فإن “التركيز الأساسي” لإيران في عهد رئيسي سينصب على منطقة الشرق الأوسط، حيث ستنشغل بتنمية علاقاتها التجارية مع محيطها الحيوي، كالعراق، وتركيا، ودول آسيا الوسطى بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، مع رفد الموارد لتعزيز العلاقة بين أطراف “محور المقاومة” الممتد من حدودها مع العراق وصولًا إلى اليمن، والساحل السوري. وتضيف تلك المصادر أن الوعود الجاذبة، والعناوين البراقة حول جدوى الانفتاح على الغرب، “لم تعد تتوافر لها أرض خصبة” في العاصمة الإيرانية، مرجحة أن تكون نافذة الفرص المتاحة على هذا الصعيد قد أغلقت.
روسيا والصين: السؤال البديهي
من جهتها، تسهب مجلة “فورين أفيرز” في التشديد على أن عدم تعويل حكومة رئيسي على إمكانية تحقيق انفراجة محتملة في العلاقة مع واشنطن، أسهم في “تماسك عناصر السياسة الخارجية “، وأوجد “إجماعًا في أوساط القوى السياسية” داخل الجمهورية الإسلامية حول عدوانية السياسة الأميركية تجاه بلادهم. وتلمح المجلة إلى أن النقاش السياسي حول مزايا التقارب مع واشنطن لم يعد مهيمنًا في أروقة القرار في طهران، ما يعني أن نجاح المفاوضات النووية، أو فشلها، لم يعد عاملًا مؤثرًا في قلب التوازنات الداخلية بصورة دراماتيكية. وبحسب المجلة، فإن هذه الدينامية الجديدة أدت إلى تعزيز الموقع التفاوضي لإيران على مائدة المحادثات النووية، وسوف تحث الرئيس الإيراني الجديد على تجاوز إخفاقات أسلافه في تطلعاتهم الدولية، وتمتين “التحالف الاستراتيجي” مع الصين، وروسيا. فالأخيرة كانت في طليعة المهنئين بفوز رئيسي، أملًا بدفع العلاقات الثنائية بين موسكو وطهران، فيما تبدو حكومة رئيسي عازمة على تفعيل اتفاقية “التعاون الاستراتيجي” الموقعة بين الصين وإيران العام الماضي، بعد مماطلة طويلة من جانب حكومة الرئيس الإيراني السابق في الارتقاء بالعلاقات الإيرانية – الصينية حرصًا على عدم استفزاز موقف واشنطن على طاولة المفاوضات بشأن “اتفاق فيينا”.
يبقى القول، إن موقف ايران المبدئي هو التمسك باتفاق فيينا، باعتباره انجازًا للديبلوماسية الإيرانية في الملف النووي، شأنها شأن روسيا والصين اللتين تتبنيان الموقف عينه من باب سحب الذرائع التي يسوقها الأميركيون لمعاقبة حليفتهما، وعلى قاعدة “شرعنة” تعاملاتهما السياسية والعسكرية والتجارية معها، والحؤول دون عزلتها. أما السؤال البديهي، فهو: هل يمكن للصين وروسيا أن تكونا بديلًا عن الغرب؟
إزاء كل ما تقدم، تدشن إيران انعطافتها تجاه آسيا، فهل تحافظ على وتيرة هذه الانعطافة، أم أنها تنتظر مفاجآت على طاولة فيينا؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.