تطالعك وأنت في الحافلة عشرات الإعلانات المغروسة على جوانب الطّرقات، لوحات ولوحات، وتكاد تُشبع شهيّتك بأنواع المعروض من أصناف الطّعام وما دار في رحاه، تارةً تسري الحسرة في نفسك في ظلّ الغلاء الفاحش وعدم قدرتك على شراء ما ترغب، وتارة أخرى تشعر وكأنّك إنسان من عالمٍ آخر لأنّك لا تستحقّ أن تكون في ركب هذه الثقافة الهجينة وبالمعنى الحقيقيّ اللّا ثقافة.
قد أتعاطف مع غالب من لا يجد قوت يومه وهو يشاهد هذا الكمّ من الدعاية المغرضة لأنواع وأصناف المأكول، لكن سأتحفّظ عن دعم المروّجين المبدعين في فنّ الجذب لأنّ الأمر لم يعد يقتصر على السّعيّ لكسب الزّبائن وحسب، فهم وإن لم يشعروا باتوا في ركب من همّهم ملء البطون، وهل تُختصر الحياة بالأكل والتفكير كيف وماذا سنأكل؟ هل أصبحنا من الذين يعيشون ليأكلوا؟
إذا لم تكن صاحب فكر ودراية على الأقلّ إنسانيّتك ستدفعك لاكتساب المعرفة والاطلاع على أنواع العلوم الّتي تُنمّي فيك الرّوح وتعطيك قيمة بين أبناء البشر، ويكتمل لديك الوعي كي تعيش الحياة بمتعة الصّحة والأمان والتّطوّر، وكما يُقال العقل السّليم في الجسم السّليم، لأنّ الغذاء الجسدي المادّيّ ونمط الحياة هما جزء من الثقافة وعمارة الأرض وإدارة الموارد والطّاقات بأفضل مستويات التّدبير والاتّزان.
لكلّ شعبٍ نمطه في العيش والّذي يُعبّر عن قابليته للتّطوّر ومواصلة المسير البشري الهادر بالطّاقات الخلّاقة، فلا يُعقَل بشعبٍ همّه كسب المنافسة في تقديم الصنف والمذاق وإن كان مستوردًا، أن يتحلّى بهمّة المفكّر المبدع المستقلّ والمتمتّع بالثّقة خاصّة في أوقات التحدّيات وإثبات الوجود ومواجهة الأعداء.
لقد رُسمَت لنا الخطط في تغيير نمط تفكيرنا والسّعي الحثيث لجعلنا منغمسين في بطالة الفكر وإعماله، وإحدى هذه الخطط تبدأ من الغذاء فضلًا عن التنميط والسّعي لمحو الثقافة الأصيلة ضمن نطاق الحرب النّاعمة الموجّهة.
في لبنان كنّا نتغنّى بالمائدة اللّبنانيّة العامرة بخيرات الأرض المزروعة بهمم وسواعد محليّة، على موائدنا ألوان الأرض والعيش الترابيّ الّذي يبني جسدًا قويًّا ببنيته وعقلًا مبدعًا منغرسًا بالأرض والانتماء كذلك فيها الحبّ والألفة والكرم، كم هي غنيّة موائدنا عندما كنّا حولها نتشارك، هل ما زالت عامرةً تلك الموائد؟
اليوم أصبحنا نفترق عند لوحة الإعلانات، فالغنيّ لا يشبع من أصناف المذاق والفقير لا يشبع من مجرّد النّظر. هذا أحد آثار هذه الثقافة الهجينة الّتي تحاوِل ترويضنا فما بالك بما هو أعظم؟ لقد حاولوا إغراقنا بالأزمات من خلال التّدخّلات في شؤون الدّولة وإفساد ما يزال يُعدّ صالحًا، وتفشّت البطالة والإغراءات بأعمالٍ لا نتاج منها إلّا الضّياع والتفلّت والإفساد، كرمى لتحقيق مآرب التبعيّة والخضوع مقابل لقمة العيش الّتي سيطعمونها بذلّ.
لا ضير في إطعام النّاس لكن فليكن ذلك بوعي وأمانة. فلنستعد عاداتنا الأصيلة فهي تعبّر عن مكنونات قلوبنا وموروثاتنا الغنيّة بحسن الضّيافة وحبّ المساعدة والمساندة وطيب المأكل، والتمسّك بالثقافة الأمّ والهويّة، ولتبقَ شوارعنا تعبّر بلوحاتها عن تطوّرنا ومستوى معرفتنا المتقدّمة والمتجذّرة فينا أبًا عن جدّ، حتّى لا تبتلعنا حيتان المال والثروات والّتي حتمًا ستنقرض يومًا ما، وستبقى الأرض لورثةٍ سيعمرونها بالعدل وثقافة الحياة الطّيبة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.