يواجه الفلسطينيون، في الحرب الوحشية المتواصلة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، سلاحًا إسرائيليًّا جويًّا جديدًا غير الذي اعتادوه، أصغر حجمًا لكن أكثر فتكًا، يلاحقهم في أزقة الشوارع الضيّقة وأسطح منازلهم على ارتفاعات منخفضة وداخل خيام نزوحهم، كما يطاردهم أثناء محاولاتهم للنجاة.
يتمثل هذا السلاح بمسيّرة “كواد كابتر”، وهي كلمة إنجليزية تعني “رباعية المراوح”، وتطلق على المسيّرات التي تستخدم 4 مراوح للإقلاع العمودي والحركة الأفقية، سواء كانت ذات استخدام عسكري أو مدني، ويصل وزنها تقريبًا إلى 10 كيلوغرامات، ولا تزيد أبعادها عن 1.6 مترًا، حيث يتم تسييرها إلكترونيًّا عن بُعد.
استخدم الاحتلال مسيّرات من هذا النوع، لأول مرة، من طراز DJI Matrice 600 صينية المنشأ، في إسقاط قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين في مسيرات العودة على السياج الحدودي شرق غزة، ثم ظهرت هذه المسيّرة في نقاط التماسّ في الضفة الغربية.
توظَّف هذه المسيّرات لتوفير صور استخباراتية تسهّل عمل قوات الاحتلال على الأرض، بالاعتماد على قدرتها على التسلُّل إلى الأزقة ونوافذ البيوت والطيران على ارتفاعات منخفضة، كذلك تزوَّد بعبوات ناسفة مدمجة تحوّلها إلى طائرة انتحارية قاتلة.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، اغتال الاحتلال القائد في سرايا القدس بهاء أبو العطا بواسطة هذه المسيّرة، كما تسبّبت في مارس/ آذار 2021 في استشهاد 3 صيادين، بعد أن علقت مسيّرة مفخّخة بشباك صيدهم في بحر غزة.
يسهّل من عملية تحركها وتخفيها
وبخلاف الطائرات المسيّرة المعتادة، تأتي مسيّرات “كواد كابتر” لتضيف مصدر تهديد إلى أهالي غزة ومقاومتها، يتم إطلاقها في أجواء القطاع بشكل يومي، حتى أصبح خبر استشهاد مدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ قنصًا خبرًا يوميًّا لا يخلو من نشرات الأخبار، خلال العدوان المتواصل على قطاع غزة.
كما يمكنها القيام بمهامّ عسكرية إضافية، كإطلاق النار، وحمل القنابل المتفجرة، ما يؤهّلها للاستخدام الفاعل في عمليات الاغتيال، فضلًا عن احتوائها على أدوات تنصّت دقيقة جدًّا، كما أن صغر حجم الحوامات يسهّل من عملية تحركها وتخفّيها، إضافة إلى تمتّعها بالمرونة العالية في التنقل بين المباني والأزقة وعلى مستوى منخفض جدًّا، ما يزيد من احتمالات خطرها.
ورُصدت عشرات حالات القتل والإصابة لمدنيين فلسطينيين في عمليات قنص من الجيش الإسرائيلي، وإطلاق النار من مسيّرات “كواد كابتر”، أو من خلال إطلاقها صواريخ موجّهة للأفراد منذ بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، مع تزايدها خلال عمليات التوغّل البري التي بدأت نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لا سيما في الأسابيع الأخيرة.
وتؤكد شهادات جمعها مرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الجيش الإسرائيلي يستخدم بشكل منهجي طائرات “كواد كابتر” في تنفيذ عمليات قتل عمدي وإعدام غير قانونية ضد المدنيين الفلسطينيين، خاصة في المناطق التي تشهد توغّلات ومداهمات إسرائيلية ثم تتراجع عنها الآليات الإسرائيلية.
حيث يتم استهداف، عبر هذا النوع من المسيّرات أو القناصين الذين يكونون متخفين في المباني، المدنيين الذين يحاولون العودة لتفقّد منازلهم، وأبلغ كثيرون عن حالات إعدام ميداني كانوا شهودًا عليها بحقّ ذويهم أو جيرانهم في المناطق التي نزحوا منها.
لـ”ترويع” النازحين واصطياد الجياع
في أحدث عملياتها، والتي وُثّقت في مقطع مصوّر، أعدمت قوات الاحتلال عددًا من المواطنين أثناء جلوسهم على سطح منزلهم في حي النصر بمدينة غزة، حسبما أظهر مقطع فيديو متداول على منصات السوشيال ميديا، حيث يظهر الفيديو قنص الاحتلال، بواسطة “كواد كابتر”، لعدد من المواطنين كانوا جالسين على سطح منزلهم، ما أدّى إلى استشهادهم.
وقبل أسابيع قليلة، أثناء محاولاتها قطع الطريق من مركز الإيواء التي تقطن فيه إلى مجمع ناصر الطبي في خانيونس، لجلب الماء لعائلتها، قُتلت الطفلة رؤى قديح (14 عامًا) برصاص قناصة “كواد كابتر”، وظلت على الأرض تنزف رغم محاولات الشبان والطواقم الطبية سحبها بعيدًا عن تحليق الطائرة، إلا أنها نزفت حتى الأنفاس الأخيرة.
وفي شارع الرشيد غربي مدينة غزة، تجمع السكان بانتظار وصول الشاحنات التي تقلّ الطحين، قبل أن يفاجأ الجميع بقدوم طائرات مسيّرة من نوع “كواد كابتر” بدأت بإطلاق النار تجاههم، وأوقعت عددًا كبيرًا من الشهداء والجرحى في صفوفهم، وهرب الجميع من المنطقة ونقلوا من استطاعوا من الجرحى، فيما بقيَ الشهداء في المكان.
وتكررت بعد ذلك حوادث إطلاق نار مماثلة، ما لا يقلّ عن 6 مرات في المنطقة ذاتها، وقرب منطقة دوار الكويت على طريق صلاح الدين جنوب مدينة غزة، ما أدّى إلى مقتل وإصابة العشرات.
في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2023، استشهد الطفل أمير عواد بعد إصابته بعيار ناري في صدره، جّراء إطلاق مسيّرة “كواد كابتر” النار تجاهه، خلال وجوده في غرفة بمقرّ جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في خانيونس.
قال والد الطفل: “أمير كان يلعب مع أبناء عمه داخل غرفة في الطابق الثامن من مبنى جمعية الهلال الأحمر الذي نزحنا إليه، قبل أن يصاب فجأة بعيار ناري أطلقته طائرة “كواد كابتر” عبر نافذة الغرفة. كان أمير مصابًا في الجانب الأيسر من صدره، وحملته ونزلت به إلى مستشفى الأمل الذي يقع ضمن مبنى مقرّ الجمعية، وهناك أعلنوا وفاته”.
تترك شكلًا مختلفًا على جسد الضحية
قتلَ الجيش الإسرائيلي المواطن الفلسطيني جهاد محمد الدردساوي (49 عامًا)، من حي التركمان في منطقة الشجاعية شرق غزة، بإطلاق نار من مسيّرة “كواد كابتر” الإسرائيلية في 4 فبراير/ شباط الجاري.
وفي حينه، أظهر الفحص الأولي لجثة الدردساوي تعرّضه لعدة فتحات في جسده، على الأقل أربعة في الظهر وواحدة في الفخذ، بفعل استهدافه بإطلاق نار مباشر.
وقال أكرم الدردساوي، في إفادة لفريق المرصد الأورومتوسطي، إن شقيقه جهاد كان في طريقه من منزله إلى مجمع الشفاء الطبي في غزة، لتوصيل الطعام لشقيقهما المصاب باستخدام دراجة هوائية، قبل أن يتم استهدافه بإطلاق نار إسرائيلي وقتله، لافتًا إلى أنه تم دفنه لاحقًا في ساحة إحدى مدارس الإيواء شرق مدينة غزة.
ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة، فإن العاملين في القطاع الصحي رصدوا أن أغلب حالات الإعدام والقتل غير القانونية جرت بواسطة أعيرة نارية غريبة، حيث تختلف مواصفاتها عن الأعيرة النارية المعتادة، وتترك شكلًا مختلفًا على جسد الضحية عند اختراقها إياه، وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأن حالات القتل كانت بواسطة مسيّرات “كواد كابتر”.
بحسب بيانات وزارة الصحة في يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن العدد الإجمالي لقتلى هجمات الطائرات المسيّرة وصل إلى 700 حالة، بينهم 103 أطفال و332 امرأة، كما ألحقت مسيّرة “كواد كابتر” أضرارًا بـ 3 آلاف و332 منزلًا.
تنفّذ مهمات الجنود
يقول شهود عيان إن “الطائرات المسيّرة من طراز “كواد كابتر” تصدر صوتًا يشبه صوت مروحية لكن بدرجة أقل، وتحلق بسرعة كبيرة، وتدخل البيوت ما يتسبّب في رعب كبير، وقد تراها تخرج من نافذة منزل أو تلاحقك بين زقاق شارع أو حي”.
وتنفّذ الطائرات المسيّرة مهمات الجنود الإسرائيليين في مهاجمة أماكن بهدف القتل في أي لحظة، ويجري التحكم بها من بُعد لتسهيل الإعدامات الميدانية لأي بشري يظهر أمامها في الشارع، وهذا ما تنفّذه الطائرات المسيّرة من نوع الزنانة عبر إطلاق صواريخ صغيرة مدمّرة جدًّا.
وفي تعليقه، يقول المتخصص في الشؤون العسكرية صفوت شاهين، إن “كواد كابتر” الجديدة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي أصبحت تحل مكان الجنود وتنفّذ مهماتهم، خاصة فيما يتعلق بمهاجمة أماكن بهدف القتل في أي لحظة.
ويضيف شاهين: “يستخدم الجيش الإسرائيلي الطائرات المسيّرة كأداة قتل، لأنها تملك قدرة التنقل بسهولة بين الأماكن بسبب صغر حجمها، ما يسمح لها بالوصول إلى أهداف ضيقة، كما اعتمد عليها في تفريغ المناطق وتطبيق حظر التجول أحيانًا”.
وعلى لسان جيش الاحتلال، يؤكد المتحدث باسم الجيش، دانيال هاغاري، أنهم يستخدمون القطع الجوية الصغيرة لتنفيذ مهمات خطيرة، وتنجح على الأغلب في أداء المطلوب منها بكفاءة عالية، ويشير إلى أن “كواد كابتر” سلاح فعّال منذ أن دخلت الخدمة العسكرية.
وتتمثل خطورة الطائرات المسيّرة في أنها تتابع تحركات الغزيين بشكل كثيف، وتلاحقهم لقتلهم كما يفعل جندي يلاحق مدنيًّا بهدف قتله، وقد تكرر محاولات القتل لتحقيق الهدف المنشود كما فعلت في 7 يناير/ كانون الثاني الجاري مع الصحفيَّين حمزة الدحدوح (28 عامًا) ومصطفى ثريا (27 عامًا)، حين كانا مع مجموعة إعلاميين يصورون مكانًا يأوي نازحين غزيين في بلدة النصر شمالي مدينة رفح.
وبالعودة إلى الوراء، يستخدم الاحتلال الإسرائيلي الطائرات المسيّرة كأداة قتل مباشرة لغزيين منذ عام 2004، ورصد مركز الميزان لحقوق الإنسان استشهاد 2146 مدنيًّا، بينهم 378 طفلًا و86 امرأة، بهذه المسيّرات حتى مطلع عام 2022.
ومن جهته، يقول الباحث الحقوقي نهيل أبو رحمة، إن أكثر الإعدامات الميدانية التي نفّذها الجيش الإسرائيلي كانت عبر قناصة وطائرات مسيَّرة قصفت أهدافًا كبيرة، مثل سيارات وتجمعات تضم محلات تجارية، ونفذت المسيّرات من نوع “كواد كابتر” تحديدًا عدة عمليات لإعدام أشخاص بمفردهم، أو ضمن مجموعات في الشوارع.
ويرصد الباحث أبو رحمة الانتهاكات الإسرائيلية منذ 15 عامًا، ويشير إلى أن حصيلة العدوان الحالي هي الأكبر على صعيد استخدام طائرات مسيَّرة مختلفة الأنواع كأداة قتل واستهداف المدنيين، استنادًا إلى أرقام وفّرتها فرق التوثيق والرصد في مؤسسات محلية فلسطينية.
ويتابع أنه “بناءً على عدة شهادات لسكان في مدينة غزة وشمالي القطاع ومناطق في الوسط والشرق، استخدم الاحتلال الإسرائيلي الطائرات المسيّرة من طراز “كواد كابتر” بشكل كثيف في العمليات العسكرية، لأنها تملك قدرة التنقل بسهولة بين الأماكن بسبب صغر حجمها، ما يسمح لها بالوصول إلى أهداف ضيقة، لذا يستخدمها أداة لقتل مدنيين بشكل مباشر وتفريغ المناطق وتطبيق حظر التجول أحيانًا”.
جرائم قائمة بذاتها
وفيما يتعلق بشرعية هذا السلاح في قوانين الحرب، يؤكد المرصد الأورومتوسطي أن الطائرات المسيَّرة، رغم أنها لا تعتبر بحدّ ذاتها من الأسلحة غير القانونية، مثل الأسلحة المحظورة دوليًّا، إلا أن استخدامها يجب أن يتم وفقًا لقواعد القانون الدولي الإنساني المعمول بها في سياق النزاعات المسلحة، تمامًا مثل أي سلاح آخر يسمَح باستخدامه، ويأتي على رأس هذه القواعد ضمان احترام مبادئ التمييز والتناسبية، واتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة قبل تنفيذ الهجوم العسكري.
ويظهر بشكل واضح، استنادًا إلى الشهادات والتقارير الطبية والصحفية، أن “إسرائيل” تستخدمها بشكل متعمّد لاستهداف المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، حيث إن معظم الاستهدافات التي وقعت كانت في مناطق مفتوحة يسهل فيها تمييز المدنيين من المقاتلين.
هذا بالإضافة إلى أن تلك الطائرات كانت تحلق فوق مناطق الاستهداف لفترات تمكّنها من مراقبة وتقييم الأوضاع الميدانية، كما أن معظم حالات القتل التي نفّذتها هذه الطائرات كانت باستخدام أعيرة نارية ذات مدى الاستهداف القصير والمباشر.
وتستمر “إسرائيل” في قتل الفلسطينيين على نحو واسع، على مرِّ 4 أشهر من العدوان، من خلال القصف الجوي والمدفعي على المناطق السكنية، وتصعيد وتيرة تنفيذ عمليات القتل والإعدام غير القانونية، بما يصل إلى حد ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كجرائم قائمة بحدّ ذاتها، وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
كما أن عمليات القتل والإعدام والقنص التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بلا هوادة، يستهدف فيها بشكل أساسي المدنيين العزل الآمنين في مراكز الإيواء والمستشفيات والشوارع والمناطق السكنية المأهولة.
منى حجازي – نون بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.