موت الدولار

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

في سياق تسارع الأحداث العالمية، وآخرها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدأنا نرى ظهور ما تراكم من أزمات اقتصادية على الصعيد العالمي إلى الواجهة العريضة.

السؤال القديم الجديد هوعالم ما بعد الدولار، بما أن هذه العملة هي عملة الارتكاز في مبادلات اقتصاد العالم، والعملة الأساسية في احتياطات البنوك المركزية العالمية.

مصدر قوة الدولار
أولًا: بكلام بسيط ومختصر فإن البداية كانت بسبب العزلة الجغرافية للولايات المتحدة عن العالم القديم التي جعلتها بلدًا مستقرًّا فصارت وجهة للكثير من الذهب في العالم مما مكن الدولار من الحصول على غطاء ذهبي كبير.

ثانيًا: وبعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة البلد المنتصر الذي لم تتعرض أراضيه وأصوله للتخريب والتدمير. وبعد ذلك أتى مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا. ومقابل هذا المشروع كان على الأوروبيين القبول بالدولار كعملة عالمية للتبادل، خاصة وأن الطرح الأميركي لهم ولغيرهم بما أن لدينا قوات بحرية منتشرة على كافة جغرافيا العالم ونستطيع حماية التجارة العالمية فالمقابل هو اعتماد الدولار كعملة ومقياس للتجارة العالمية وللعملات الباقية.
ثالثًا: أتفق الأميركيون مع السعودية أكبر الدول المصدرة للنفط على بيع النفط بالدولار الأميركي بعد عام 1971 مع العلم أن هذه الاتفاقية جاءت تحت الضغط الأميركي بتهديد السعودية باحتلال أراضيها خاصة بعد حرب 1973 وفرض الحظر النفطي، وبعد ذلك أطلقت تسمية البترودولار، وأطلق على النفط تسمية الذهب الأسود أي أنه أصبح للدولار غطاء نفطي بدل الغطاء الذهبي.

وبما أن النفط شريان الاقتصاد العالمي فقد باعت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات مما جعل الدولار أكثر العملات المتداولة في العالم ومتوفرًا بكثرة والأرقام الضخمة منه لا يمكن لأي ذهب في العالم أن يغطيها.

هذه الميزة مثلما تدركها الولايات المتحدة كذلك يفعل أعداؤها، لذلك فإننا نرى أن العالم ينقسم إلى معسكرين، وقد بدأ هذا الانقسام يظهر بشكل أكثر قسوة ما بين الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، والمعسكر الآخر الناشىء المؤلف من روسيا والصين وإيران والعديد من الدول التي ترفض عصا الطاعة الأميركية.

لطالما رغبت هذه الدول بالابتعاد عن الدولار و”السويفت” وإنشاء نظام خاص بها بالاشتراك مع دول البريكس. وفي السنوات الأخيرة قامت الصين وروسيا بشراء الذهب بقوة وإدخاله ضمن نظام خاص يضم الذهب والنفط السيبيري لمنافسة الدولار. وهذا ما أكده المحلل المالي الشهير ماكس كيزر من أن احتياطات الصين من الذهب هي أكبر بكثير مما تعلنه الصين، وأن بكين تسعى لاستخدامها في إنشاء عملة رقميه يمكن أن تحل مكان الدولار.

ويضيف كيزر أنه إذا كانت هذه العملية الصينية صحيحة فإن ذلك سيكون
” بيرل هاربر” ماليًّا، لكن الصين لن تطلق هذه العملية ما لم تشعر بأنها ضرورية وبأنها تستطيع تحمل رد الفعل والهجوم المضاد الأميركي.
إن ظهور العملات الرقمية هو فتح باب آخر يمكن من خلاله لخصوم الولايات المتحدة العمل من خلاله على تقويض الدولار؛ فمثلًا عملية “تعدين” العملات الرقمية 65% منها تجري في الصين، ولا يمكن معرفة مدى ارتباط الشركات التي تعمل في العالم بالدولة الصينية، لكن النخب المالية الأميركية تشير إلى أن العملات الرقمية هي بمثابة سلاح صيني ضد الدولار.

بدأت المصارف المركزية في جميع أنحاء العالم بمراقبة حركة العملات الرقمية وبدأت بالسير في هذا الاتجاه، والتقديرات تقول إنه خلال ثلاث سنوات سيستخدم 20% من سكان العالم العملات الرقمية.

عملية التحول والانتقال لعالم ما بعد الدولار
استغرقت عملية الانتقال من الجنية الإسترليني الى الدولار الأميركي عقودًا طويلة مع الأخذ بعين الاعتبار القوة الأميركية الحالية بالنسبة للقوة البريطانية.

أما اليوم فإن تسارع الأحداث وظهور قوى تجري عملية تكتل اقتصادي بوجه الدولار للاعتبار الطبيعي بأن السلوك المالي للولايات المتحدة أصبح فاضحًا باعتمادها على الإستدانة وسداد الديون بطباعة دولارات جديدة، مع تقديرات البنك الدولي أن الدين الأميركي قد أصبح 28.5 تريليون دولار أي ما يوازي 128% من الناتج المحلي الأميركي، وأن الالتزامات الأميركية القادمة وفقًا لمجلة فوربس ستكون 200 تريليون دولار أي ما يوازي 10 أضعاف الناتج الأميركي أو الناتج العالمي بمرتين ونصف، وهذه الالتزامات من الطبيعي أن لا يتحملها أي مصدر تمويلي أو إنتاجي.

ما أنقذ الولايات المتحدة والدولار إلى يومنا هذا هو عملية طباعة الدولار، والرقم الهائل الموجود كاحتياط في البنوك المركزية العالمية.

بدأ التحول منذ مطلع الألفية الجديدة مع دخول اليورو على الساحة الأوروبية والعالمية؛ فقد دخل اليورو أولًا كعملة صعبة في الاحتياطات المركزية وكذلك زادت البنوك من احتياطاتها الذهبية. وقد شهد عام 2018 أقوى طلب على الذهب منذ عام 1971.

مع التحولات الحالية التي نشهدها نتيجة توسع الدول المنتجة للنفط واهتزاز القوة العسكرية الأميركية، وبداية تحول دول كبيرة للتبادل بعملاتها المحلية ولو بجزء بسيط فإن هذا العمل سيتحول الى كرة ثلج ستطيح بالدولار داخل احتياطات البنوك المركزية لهذه الدول، وهذا ما سيجعل الطلب العالمي على الدولار يتدنى، وما يلاحظه الاقتصاديون تسارع معدل انخفاض قيمة الدولار منذ عام 2010 الى يومنا هذا مقابل ارتفاع أسعار النفط والسلع الأخرى.

عندما يفقد الدولار مكانته كعملة احتياط عالمية ستحدث أسوأ الأزمات الاقتصادية في الولايات المتحدة بأضعاف ما حصل عام 2008، وذلك مؤشر بسيط عما سيحدث لاحقًا مع محاولة الجميع التخلص من الدولار، مع مقدار الديون الهائل المتراكم على الولايات المتحدة، وليس بالإمكان إيجاد ناتج يغطي هذه الديون، أصبح البنك الفدرالي بمثابة ثقب أسود وليس أمامه الكثير من الحلول ومنها تخفيض قيمة الدولار، والحل الثاني تسوية على الديون مع الدول الدائنة. وهذان الحلان لهما مترتبات سياسية على الوضع الجيوسياسي للولايات المتحدة ومكانتها العالمية وكيف تحضر الدول الكبرى أوضاعها لما بعد الدولار. وقد ذكر روبرت فيسك أنه في السنة الماضية اجتمع ممثلون عن الصين وروسيا وفرنسا واليابان في اجتماع سري لم تدعَ اليه الولايات المتحدة وتحدثوا عن شراء النفط من دول الخليج العربي بالين أو اليورو أو الذهب أو العملة الموحدة التي قد يطلقها مجلس التعاون الخليجي، وهذه خطوة كبيرة نحو استبدال العملة المركزية العالمية.
وعلى هذا الطريق تم الاتفاق لاحقًا بين روسيا والصين على تسوية الديون فيما بينهما على عملاتهما المحلية دون تحويلها إلى الدولار، وسرعت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في تعميم التبادل بالعملات المحلية بين روسيا والصين وحلفائهما وشركائهما التجاريين وإعلان التبادل بالعملات المحلية حتى وصل الطرح الى شراء النفط السعودي باليوان الصيني.

تعيش الولايات المتحدة حالة من الإنكار بخصوص البترودولار. وقد أدت العقوبات التي فرضت على روسيا دورًا عكسيًّا عليها، وبدأ يظهر عدم قدرتها على تنفيذ استراتيجية “الهيمنة على النفط” التي أعلنها ترامب. وحالة الإنكار هذه ما هي إلا الساعات الأخيرة من عمر امبراطورية الدولار، والكثير من الدول تستعد لهذه اللحظة الانتقالية التي ستسبب تخبطًا اقتصاديًّا عالميًّا، وما الإشارات التي نراها من قيام دول بعملية تخزين استراتيجي للغذاء يسمح لها بإمداد أسواقها لفترات أقلها ستة أشهر إلا استعداد لهذه اللحظة، وهي فقدان الولايات المتحدة سيطرتها على سوق النفط العالمي وتسريع نزول الدولار عن عرش العملة المركزية العالمية لأكثر من 50 عامًا وإعلان موته.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد