في ظل الإنفراجات الدبلوماسية المتسارعة التي شهدتها المنطقة خلال الآونة الأخيرة، لا سيما بعد الاتفاق السعودي – الايراني، يبدو أن ذلك المسار التصالحي يشق طريقه أيضًا على صعيد العلاقات التركية – السورية هذه المرة.
فبعد مشاركة وزير الدفاع السوري علي محمود عباس، في اجتماع ضمه للمرة الأولى منذ العام 2011 إلى جانب نظرائه في روسيا وتركيا، في العاصمة الروسية، أواخر العام الماضي، نقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية قبل أيام قليلة عن مصدر سوري مطلع قوله إن اجتماعًا رباعيًا على مستوى نواب وزراء خارجية روسيا وإيران وسوريا وتركيا سينعقد الاثنين المقبل في موسكو. وكان مقررًا أن يتم عقد الاجتماع في وقت سابق من هذا الشهر، قبل أن يتم تأجيله في اللحظات الأخيرة لأسباب غير معروفة.
مساعِ روسية نشطة
الأكيد، هو أن للمساعي الدبلوماسية النشطة التي تتولاها موسكو، بتشجيع إيراني، لتقريب وجهات النظر بين الرئيسين السوري بشار الأسد، والتركي رجب طيب اردوغان، دورًا بارزًا في ترتيب الاجتماع الرباعي، لا سيما بعد اتصال هاتفي جرى مؤخرًا بين وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، ونظيره الروسي سيرغي لافروف أكدا فيه تطلع بلديهما إلى مصالحة بين تركيا وسوريا، على أمل تتويجها بلقاء ثنائي بين وزيري خارجية البلدين، تمهيداً لقمة مرتقبة بين رئيسي البلدين.
ورغم الآمال الكبيرة المعلّقة على قمة رئاسية سورية – تركية قريبة، بعد توالي تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على مدى الأشهر الماضية عن إمكانية استعادة العلاقات مع سوريا، إلا أن الرهانات على تطورات دبلوماسية من هذا النوع تبقى عُرضة للأخذ والرد، لا سيما وأن كلا من دمشق وأنقرة تتشددان في طرح الشروط، والشروط المضادة. فمن جهتها، تتمسك الحكومة السورية بالحصول على تعهدات من الجانب التركي، بسحب قواته من أراضيها، والتوقف عن دعم “الجماعات الإرهابية”، وهو شرط ردّده الرئيس الأسد خلال زيارته إلى موسكو في الرابع عشر من الشهر الجاري، رغم وجود مؤشرات بغياب عنصر الثقة بين الأخير واردوغان.
ماذا يريد اردوغان؟
أما أنقرة، فهي تعلي من شأن هاجسها الأمني التاريخي المتعلق بـ”مكافحة التهديد الكردي” على حدودها مع سوريا، وتحديدًا تنظيم “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تعتبرها أنقرة امتدادًا لـ”حزب العمال الكردستاني” المصنف إرهابياً من جانبها.
ما تريده تركيا، أكده الرئيس اردوغان حين صرّح بأنه حصل على ضمانات من نظيره الروسي فلاديمير بوتين لتنفيذ عملية عسكرية لمكافحة التنظيم المذكور داخل الأراضي السورية، مقابل إعادة العلاقات مع دمشق. كذلك، يجهد الرئيس التركي من أجل استباق المصالحة السورية – السعودية المرتقبة مدركًا أن عودة الاحتضان العربي لدمشق، سيعزز أوراقها التفاوضية في وجه أنقرة، بعد ورود إشارات عدة من قبل “الجامعة العربية” أكدت تأييدها موقف حكومة الأسد الداعي لانسحاب القوات التركية من بلاده.
وأكثر من ذلك، تأتي اندفاعة اردوغان للقاء نظيره السوري قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة في أيار المقبل، بغرض البحث عن مكسب سياسي وإعلامي بالدرجة الأولى، يمكنه من “بيعه” لجمهوره على أنه بداية حل لأزمة النزوح السوري في تركيا، وسط أزمة اقتصادية متفاقمة وتصاعد حجم المعارضة الشعبية لـ “سياسة الباب المفتوح” حيال النازحين، المقدر عددهم بنحو 4.5 مليون شخص، وهي سياسة انتهجتها حكومات اردوغان منذ بدء الأزمة السورية.
ومع احتلال تلك الأزمة صدارة اهتمامات الناخب التركي، وفق أحدث استطلاعات الرأي، باشرت الحكومة التركية بسلسلة من الإجراءات بعد الزلزال الأخير، من ضمنها إعطاء الإذن بالسفر إلى سوريا بين ثلاثة وستة أشهر لكل نازح سوري من دون وجود ضمانات واضحة تكفل عودتهم إلى تركيا، وهي إجراءات فسرها مراقبون على أنها تعكس توجهاً لدى حكومة أنقرة من أجل دفع السوريين إلى خارج البلاد، في إطار التنافس مع المعارضة التركية التي تروّج لإنهاء ملف النزوح خلال سنتين، في حال فوز مرشحها الرئاسي كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات المقبلة.
وفي هذا السياق، بدا لافتاً إعلان السلطات التركية على لسان وزير الدفاع خلوصي أكار أن عدد النازحين السوريين في بلاده ممن عادوا إلى سوريا في الأسابيع القليلة الماضية بلغ 60 ألفًا، واضعًا إياها في سياق ما أسماه “العودة الطوعية” لهؤلاء. من هذا المنطلق، تجزم مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية بأن الانعطافة في الموقف التركي منه، بعد ما يقارب العقد من العداء لدمشق، تشي بأن الرئيس السوري “في طور كسر العزلة عنه، بوتيرة ثابتة، وبطيئة”، مضيفة أنّه “كسب الحرب، ونجح في إخماد التمرد ضده”.
أوراق القوة وفرص النجاح
وعن فرص نجاح الجهود الروسية، المؤيدة إيرانيًا، لإحداث اختراقة دبلوماسية بين دمشق، وأنقرة، تمتلك موسكو أوراق قوة تتيح لها تأدية هذا الدور. فمن جهة، تعد روسيا أحد أبرز الداعمين السياسيين الدوليين للحكومة السورية، فضلًا عن العلاقات التاريخية المميزة بين الجانبين، على المستوى الدفاعي والتسليحي، علمًا أن روسيا، ومنذ توقيع اتفاقية مع سوريا لإقامة قواعد عسكرية على أراضيها منذ العام 2015، باتت تشكل القوة العسكرية الأبرز هناك.
من جهة ثانية، يبدو تنامي العلاقات التركية الروسية يصب في خدمة بوتين، واردوغان. فالرئيس الروسي، وفضلًا عن رغبته في توظيف الدور التركي على الساحة السورية لصالح “ورشة تطبيع إقليمية” مع حكومة الرئيس الأسد، يرغب في ضرب وحدة حلف “الناتو” عبر استمالة تركيا، التي تملك أحد أكبر جيوش الحلف الغربي، وذلك من خلال منحها إغراءات ذات طابع مالي، ودبلوماسي، على غرار ترشيح أنقرة للعب دور وساطة بين موسكو وكييف، كما شهدنا في “اتفاق الحبوب” الموقع بين الجانبين، بوساطة تركية وأممية، أو تصدير الغاز الروسي لها بأسعار مخفّضة، فضلاً عن اعتمادها كوجهة مفضّلة لرساميل المستثمرين الروس الهاربة من العقوبات الغربية.
وفي مقابل تمرير اتفاق الحبوب، ونيل حصة من الحسومات على مبيعات الغاز والاستثمارات الروسية، وهما أمران تحتاجهما أنقرة بشدة بعد الزلزال الكارثي الذي ضربها مؤخرًا، نجح بوتين في إبقاء تركيا خارج ركب الملتحقين بحزمة العقوبات الغربية ضد روسيا، حيث ضاعفت من وارداتها من روسيا، بخاصة الغاز، خلال الأشهر التسعة الأولى من حرب أوكرانيا بأكثر من الضعف مقارنة بالعام 2021.
هذا، وتكشف تقارير اقتصادية غربية، أن حركة الصادرات من تركيا إلى روسيا انتعشت خلال الفترة عينها مع اضطرار العديد من الشركات الغربية إلى اعتماد تركيا كبوابة موازية لإيصال منتجاتها إلى السوق الروسية، كوسيلة من وسائل التحايل على العقوبات الغربية. وبحسب التقارير نفسها، فإن حجم تدفقات الرساميل الروسية إلى تركيا ناهز 28.3 مليار دولار، وذلك خلال الأشهر الثمانية الأولى منذ بدء الحرب.
هل تنجح موسكو؟
يبقى السؤال الأبرز، هل تنجح موسكو في جمع الأسد بأردوغان؟ وفي حال نجحت في ذلك، ما انعكاساته على الملفات الخلافية بين البلدين؟ في هذا الصدد، تتساوى احتمالات الانفراج والمراوحة.
ففي حين تبدو احتمالات استئناف العلاقات الدبلوماسية بين سوريا وتركيا أكثر من أي وقت مضى، يشير محللون إلى أن لدى الجانبين هواجس تحتاج إلى متسع من الوقت لمعالجتها، منها ما يتعلق بالشق السياسي حول طبيعة وشكل الحكم في سوريا في فترة ما بعد التسوية، ومنها ما يتعلق بالشق العسكري الميداني حول دور الجماعات المسلحة على اختلافها، بخاصة تلك الكردية، المدعومة أميركياً، ونظيرتها “الإسلاموية” المدعومة تركياً.
وفي هذا الصدد يرى مراقبون غربيون، أنه حتى في حال نجاح روسيا في عقد قمة رئاسية تركية سورية، فإن اردوغان لن يعمد إلى سحب قواته من سوريا، كما تريد دمشق، أقله قبل الانتخابات التركية القادمة، ولا الرئيس الأسد سيكون قادراً على شن عملية عسكرية ضد الفصائل المسلحة الكردية، أو الدخول في “عملية سياسية” بمواصفات خصومه، كما تشتهي أنقرة.
هنا، ترتسم علامة استفهام كبرى حول مدى التأثير الأميركي على أنقرة، في ظل إصرار واشنطن على المضي في سياسة العزلة ضد سوريا. وعلى هذا يبدو السؤال المتعلق بإمكانية حدوث تغيرات كبرى في العلاقات التركية السورية معلقًا إلى ما بعد أيار المقبل.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.