منذ بداية عام 2022 وحتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حضرت نابلس، الواقعة شمالي الضفة الغربية المحتلة، كثيرًا في المشهد الفلسطيني إلى جانب جنين، في مشهد يعيد للأذهان ما كانت تشهده المدينة على مدار عقود الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
خلال الشهور العشر من هذا العام، ارتقى ما يزيد عن 26 شهيدًا من بينهم 19 في أعقاب العملية التي أطلقها الاحتلال لوقف موجة العمليات الفلسطينية، والتي حملت اسم “كاسر الأمواج” التي فشلت في مواجهة العمل المقاوم الفلسطيني.
وتعزز حضور نابلس أكثر في الأسابيع الأخيرة مع الإعلان عن مجموعة “عرين الأسود”، التي أصبحت الفاعل شبه الرئيسي في العمل المقاوم الفلسطيني في الضفة المحتلة في الآونة الأخيرة، حتى باتت المنظومة الأمنية الإسرائيلية تحت ضغطها. وتعدّ عملية اغتيال الشهداء الثلاثة (أدهم مبروكة، محمد الدخيل، وأشرف مبسلط) في 8 فبراير/ شباط الماضي غرب المدينة أحد العوامل التي أدّت إلى انفجارها وإعادة حضورها في المشهد المقاوم من جديد، لتصبح قادرة على تحريك المقاومين لتنفيذ العمليات.
في إطار هذه الحالة النضالية التي تشهدها مدينة نابلس، نسلط الضوء في “نون بوست” على النَّفَس المقاوم لنابلس، “جبل النار”، و”عرين الأسود”، و”مثلث الرعب” الفلسطيني.
تاريخيًّا، تعتبر مدينة نابلس من إحدى أعرق المدن الفلسطينية التي واجهت الحملات والاجتياحات من مختلف الجيوش والمحتلين، حتى أن البعض كان يطلق عليها “مثلث الرعب” مع كل من جنين وطولكرم في إشارة إلى دورها المقاوم.
وإلى جانب “مثلث الرعب”، يظل اسم “جبل النار” هو الأكثر تداولًا بين الفلسطينيين على مدار العقود الأخيرة، حيث أصبح هذا المسمّى ملتصقًا بالمدينة بمجرد نطق اسمها، ويتعزز هذا الأمر أكثر في أوقات المواجهات والاجتياحات مع الاحتلال.
تاريخ نابلس
خلال الغزو الفرنسي لمدينة عكا الفلسطينية، مرَّ جيش نابليون بونابرت من وادي قانا (غربي نابلس)، فأحرق المقاومون أحراشه الكثيفة لقطع الطريق عليه، فأُطلق عليها “جبل النار”، كما وصفها الإنجليز -بعد ثورة 1936- هي ورفيقتَيها جنين وطولكرم بـ”مثلث الرعب”.
حول ذلك، يروي عبد الرحيم الحاج محمد، أحد المقاومين في فترة الشيخ عز الدين القسام، أنه أنشأ مجموعةً للقيام بأعمال اغتيال ضد جنود العدو وضباطه، وضرب المستعمرات اليهودية القريبة من طولكرم وجنين، كما نشط في إتلاف محاصيلهم الزراعية، وقد أُطلق على منطقة نابلس وجنين وطولكرم “مثلث الرعب”، وذلك لشدة الهلع والذعر اللذين أصابا الجنود البريطانيين والمستوطنين اليهود في تلك المنطقة.
نفّذت مجموعة عبد الرحيم الحاج محمد عدة هجمات استهدفت القوافل والسيارات اليهودية والقوات البريطانية، بعد أن توفرت لديهم كميات من البنادق الألمانية والفرنسية والتركية، والذخائر المختلفة التي كانوا يشترونها من سوريا ولبنان مقابل أسعار خيالية، ومن أشهر المعارك التي خاضها عبد الرحيم معركة جبل السيد في ذنابة، ومعركة المنطار في جبال بلعا قضاء طولكرم، ومعركة دير شرف في نابلس عام 1936.
وعام 1966 بعد “معركة السموع” (قرب الخليل جنوب الضفة) بين الاحتلال الإسرائيلي والجيش الأردني، خرجت مظاهرات على ضفتَي النهر (الأردن وفلسطين) للتصدي للصهاينة، وكانت أقواها في نابلس، وخلال معركة “دار هواش” مع قوات الاحتلال عام 1967.
وظلت نابلس حاضرة خصوصًا عام 1974 خلال الهبّة بالضفة الغربية، حيث تخللتها مظاهرات انطلقت رفضًا لإقامة مستوطنات شمال نابلس، وتلتها انتفاضة عام 1976 واستشهاد لينا النابلسي وآخرين، وتميّزت نابلس حينها بعنفوانها وكسر أهلها العزل الذي فرضه الاحتلال على بلدتها القديمة عبر بوابات حديدية وإسمنتية.
ومع دخول انتفاضة الحجارة عام 1987، لم تنخرط نابلس فيها فحسب، بل قادتها، في حين لحقت بها عدة مدن بعد أشهر، وكانت تتعرض للإغلاق بأوامر الاحتلال وفرض منع التجول لأسبوعَين متواصلَين أحيانًا، وعام 1996 انعكست “هبّة النفق” بالقدس على مدينة نابلس بشكل مباشر، إذ انتفض المواطنون بوجه جنود إسرائيليين في منطقة “قبر يوسف” بالمدينة، واحتجزوا أكثر من 40 جنديًّا إسرائيليًّا وقتلوا عددًا منهم.
عام 2000 تداعت أحداث انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية)، وشكّلت نابلس بين عامَي 2001 و2002 تحديدًا “منبعًا” للعمليات الاستشهادية وحاضنة لقيادات المقاومة السياسية والعسكرية، وهو ما عرّضها وبلدتها القديمة لاجتياح كبير وحصار شديد كلّفاها العشرات من الشهداء.
الاغتيالات.. الأسلوب الإسرائيلي المعتاد
لم تسلم نابلس من الاغتيالات الإسرائيلية تاريخيًّا، حيث اعتاد الاحتلال على تنفيذ هذه العمليات ظنًّا منه أنها يمكن أن توقف ثورة الفلسطينيين أو تؤدّي إلى احتوائها في بعض المراحل، حيث سجّلت خلال الثورة المعاصرة عشرات عمليات الاغتيال.
ويعدّ بسام الشكعة، الذي اُنتخب رئيسًا لبلدية نابلس عام 1976، أبرز الشخصيات الفلسطينية في تاريخ المدينة، حيث تعرّض في 2 يونيو/حزيران 1980 لمحاولة اغتيال استهدفت عددًا من رؤساء البلديات في الضفة، وقف وراءها ما عُرف حينها باسم “التنظيم الإرهابي الصهيوني السرّي”، وأدى انفجار عبوة وُضعت في سيارته إلى بتر قدمَيه، وأشعلت هذه المحاولة شرارة انتفاضة استمرت لأشهر وشملت مختلف المدن الفلسطينية.
ونهاية يوليو/ تموز 2001، عاشت المدينة أكبر عمليات في الانتفاضة الثانية، وطالت الاغتيالات جمال سليم وجمال منصور، القياديَّين بحركة حماس، وعام 2004 اغتال الاحتلال قائد كتائب الأقصى نايف أبو شرخ ومجموعته، وتوالت الاغتيالات حتى طالت القياديَّين في الجبهة الشعبية يامن فرج وأمجد مليطات في اشتباكات مسلّحة.
وخلال العام الجاري عاد الاحتلال لسياسة الاغتيالات، حيث اغتال الشهداء محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح وإبراهيم النابلسي، الذين أسّسوا خلايا باتت تُعرَف باسم “عرين الأسود” وتضمّ عشرات المسلحين الذين اتخذوا من بلدة نابلس القديمة مركزًا لهم.
الاستيطان يلتهم نابلس
مرَّ السرطان الاستيطاني في نابلس بعدة مراحل إلى أن وصل إلى ما هو عليه اليوم، ففي الفترة الممتدة من عام 1967 إلى عام 1976 تأسست مستوطنتَين في محافظة نابلس بصورة انتقائية، ليبلغ التوسع ذروته في الفترة الممتدة من عام 1977 إلى عام 1984، حيث تأسّست فيها 10 مستوطنات من أصل 13 مستوطنة موجودة حاليًّا.
وشهدت تسعينيات القرن الماضي إقامة مستوطنة واحدة جديدة، بالتوازي مع تنفيذ عمليات توسيع المستوطنات المقامة، سواء من حيث أعداد السكان، أو من حيث إقامة وإنشاء أحياء جديدة ضمن حدود المستوطنات القائمة.
وحتى منتصف عام 2015، بنت سلطات الاحتلال 13 مستوطنة، بالإضافة إلى مستوطنة “حومش” المُخلاة، و37 بؤرة استيطانية تحتل مساحة إجمالية قدرها أكثر من 10 آلاف دونم، ويبلغ عدد المستوطنين الذين يقطنونها حوالي 13 ألف مستوطن، فيما يوجد في محافظة نابلس 14 موقعًا عسكريًّا تابعًا لجيش الاحتلال، وتحتل هذه المواقع مساحة تقدَّر بحوالي 3 آلاف دونم.
وإجمالًا تبلغ مساحة المستوطنات الإسرائيلية القائمة ومناطق النفوذ الأمنية والتوسعات المستقبلية حوالي 28 ألفًا و93 دونمًا، وهي ضعف المساحة الحالية للمستوطنات في محافظة نابلس.
وتعتبر مستوطنة “شافي شمرون” من أبرز المستوطنات التي أُنشئت في نابلس، حيث تمَّ تدشينها عام 1977 ضمن كتلة مستوطنات شومرون في منطقة نابلس على أحد معسكرات الجيش الأردني قبل عام 1967، على بُعد 15 كيومترًا شمال غرب مدينة نابلس على أراضي قرية دير شرف، وفي عام 1978 تحولت إلى مستوطنة دائمة.
أما مستوطنة “حومش” المُخلاة فقد أقيمت في البداية كنقطة عسكرية (ناحال) باسم “معاليه هناحل” عام 1987، ورغم مضيّ عدة أعوام على إخلائها إلا أن المستوطنين ما زالوا يرفضون الأمر الواقع، ويقومون بزيارات استفزازية إلى موقع المستوطنة المخلاة، وبمحاذاة ذلك توجد مستوطنة “ألون موريه” التي أقيمت داخل معسكر لجيش الاحتلال الإسرائيلي في أواخر عام 1978، وفي عام 1979 قررت حكومة الاحتلال، وبعد مقاومة فلسطينية وعالمية واسعة، نقل المستوطنة إلى منطقة الجبل الكبير أو جبل الشيخ بلال.
وتعدّ مستوطنة “إيتمار” إحدى أشهر المستوطنات في المدينة، حيث تمَّ إنشاؤها عام 1984 جنوب شرق مدينة نابلس على أراضي قرى وبلدات عورتا وروجيب وبيت فوريك ويانون، وهذه المستوطنة تابعة لحركة “غوش أمونيم”.
وقامت السلطات خلال عامَي 2008 و2009 بإصدار عدة إخطارات عسكرية تضمّ وضع اليد على العديد من الأراضي، بهدف إقامة أبراج مراقبة عسكرية تخدم المستوطنة، وتمَّ مصادرة مئات الدونمات بهدف إقامة سياج عازل يحتوي على شبكات إنذار في محيط المستوطنة.
وليس ببعيد، مستوطنة “يتسهار” التي أقيمت في البداية كنقطة عسكرية (ناحال) عام 1983 وتحولت إلى مستوطنة دائمة عام 1984، وتقع على بُعد 8 كيلومترات جنوب غرب نابلس، في الطرف الجنوبي لجبل جرزيم، وعلى الطريق الرئيسي الواصل بين نابلس ورام الله والقدس.
وتبقى نابلس من المدن الفلسطينية الفاعلة في تاريخ الصراع الفلسطيني مع الاحتلال على صعيد الفعل المقاوم الميداني أو حتى على صعيد الشخصيات القيادية التي أفرزتها، إلى جانب أطماع الاحتلال بأرضها وتدشين المستوطنات على أراضيها لصالح مستوطنيه.
نداء بسومي – نون بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.