في السابع من حزيران/يونيو الجاري تم انتخاب المندوب الإسرائيلي نائباً لرئيس الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الـ77، في انتخابات شاركت فيها 193 دولة. وتعيدنا هذه الخطوة مباشرة إلى عام 1975، وإلى القرار التاريخي رقم 3379 في الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار الصهيونية عنصرية، كما تعيدنا إلى الخطاب الصهيوني الدائم بأن الأمم المتحدة لا تساوي شيئاً، أو الأرض القفر (أُووم شْمومْ). ويأتي انتخاب غلعاد أردان نائباً لرئيس الجمعية العمومية ليشكل ضربة معنوية وسياسية للدبلوماسية الفلسطينية والعربية المعنية بمعاقبة إسرائيل، التي تبوأت أحد المناصب العليا في المنظمة الدولية. وقد تزامن هذا الانتخاب والإنجاز الإسرائيلي مع الذكرى الخامسة والخمسين لعدوان 1967، ومع الاحتلال الذي لا يزال جاثماً ويتعمق في القدس والضفة الغربية والجولان السوري، وفي محاصرة غزة. كما يتناقض بشكل صارخ مع تقرير لجنة التحقيق في جرائم دولة الاحتلال، فهذه اللجنة المنبثقة عن هيئة مركزية في الأمم المتحدة ذاتها وهي مجلس حقوق الإنسان، لكن لا غرابة أن المنظومة الدولية لا تعتمد الأخلاق بل موازين القوى والمصالح ليس إلاّ، بينما تختلف تفاعلات مجلس حقوق الإنسان كونه لا يخضع لحق النقض، وفيه وزن للمنظمات الحقوقية الفلسطينية والدولية.
يدلل انتخاب المندوب الإسرائيلي على التحولات الخطرة على الساحة الدولية بمستواها الرسمي الحاسم، إذ تسعى هذه الدولة ومنذ حوالي ثلاثة عقود لكسب مكانة خاصة في المنظمة الدولية، وكان بنيامين نتنياهو أكثر مَن استثمر من جهود في سبيل استعادة مكانة “إسرائيل” في الحلبة الأممية، بخلاف النهج السابق والسائد القائل بعبثية الأمم المتحدة. فقد رأى نتنياهو والمؤسسة الصهيونية الحاكمة أن التحوّلات الأكثر أهمية والواعدة في هذا السياق هي التحولات في الدول الأفريقية، وخصوصاً أفريقيا السوداء، أو دول جنوب الصحراء التي يبلغ عددها 48 دولة بينها 40 دولة تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وفي عام 2018، وخلال اجتماع نتنياهو مع ثمانية من القادة الأفارقة، أطلق شعاره “إسرائيل تعود إلى أفريقيا وأفريقيا تعود إلى إسرائيل”، وشملت العلاقات مع أفريقيا التعاون الأمني والاقتصادي والثقافي والجيو-استراتيجي أيضاً، بينما على صعيد المنظمات الدولية رأى نتنياهو أن أفريقيا هي الكتلة الدولية الأكبر التي من شأنها أن تحدث التحوّل في هيئات الأمم المتحدة، وقد اعتمد في قراءته على التحولات الجارية في النخب الحاكمة والمؤثرة في البلدان الأفريقية، والتي على عكس الجيل الذي سبقها، أي جيل حركات التحرر الوطني التي أخفق كثير منها فيما بعد، كان يناصر فلسطين والحق العربي ويناوئ إسرائيل، على الأقل علنياً، وهو المنحى الذي تعزَّز بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. في المقابل، فإن النخب الحالية ليست منشغلة بفلسطين، بل معنية بإنجاز خطة التنمية الوطنية والقارية الأفريقية 2065، والتي حددها الاتحاد الأفريقي الذي حلّ مكان منظمة التضامن الأفريقية، والذي تسعى “إسرائيل” للحصول على وضعية عضوية مراقبة فيه. وفعلاً، إن الدول التي كانت تدعم الحق الفلسطيني والتعاون الأفريقي – العربي باتت تقودها هويتها الأفريقية وأولوياتها إلى تعزيز علاقاتها مع إسرائيل، واستعداء عدد من الدول العربية، ومثال لذلك موقف أثيوبيا من كل من مصر والسودان، وأثيوبيا هي الدولة الأكبر التي تقود الاتحاد الأفريقي. وحتى العلاقات الإسرائيلية – الخليجية، ولا سيما العلاقة مع الإمارات، تقوم بدور مشترك كبير في تطوير طرق التجارة العالمية في القارة، وفي تقاسم نفوذ عسكري في دول غرب أفريقيا والهلال الأفريقي في شرقها. وهي المناطق التي تشكل طوقاً على البلدان العربية في شمال أفريقيا، وسداً أمام تعزيز نفوذها، وذلك بعد انهيار الطوق العربي والشمال أفريقي التاريخي على إسرائيل.
في المقابل، باتت دول أوروبا الشرقية من أهم حلفاء الدبلوماسية الإسرائيلية، وأثرت في مجمل الموقف الأوروبي بعد أن كانت جزءاً من المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. هذا بالإضافة إلى العلاقات الاستراتيجية مع كل من روسيا والهند، والعلاقات التجارية المتطورة مع الصين، والنفوذ الإسرائيلي العالمي المدعوم بالقوة العظمى العالمية للولايات المتحدة والتأثير الناجم عن ذلك.
لقد جاء التطبيع العربي شبه الجماعي واتفاقات أبراهام، من دون الخوض في تفاصيلهما، لتقنع “إسرائيل” من خلالهما دولَ العالم بأن البلدان العربية تنازلت عن فلسطين، أو تجاوزتها في علاقتها معها، الأمر الذي جعل المجاهرة الدولية في العلاقة مع “إسرائيل” شيئاً سهل التحقيق وطبيعياً، فلن يكون العالم عربياً أكثر من العرب. وقد تم تتويج هذه المساعي بالتعاون الأمني والعسكري وإقامة تحالفات واصطفافات إقليمية جديدة ومشاريع اقتصادية عظمى، سواء طرق التجارة وإسالة الغاز الطبيعي مع الإمارات، أو توفير البنية الإقليمية لاستخراج كميات هائلة من الغاز من تحت البحر وتصدير كميات كبيرة إلى أوروبا، بالإضافة إلى الاستخدام الذاتي، أي أنها باتت دولة عظمى إقليمية وذات نفوذ عالمي، وتمارس ضغطاً دبلوماسياً أيضاً على الاتحاد الأوروبي الذي تتآكله الصراعات، وبات أضعف مما كان عليه في السابق، ولا سيما بعد انسحاب بريطانيا منه. لذلك فإن انتخاب أردان لنيابة رئاسة الجمعية العمومية في الأمم المتحدة ليس نتاج الصدف أو اللحظة الأخيرة، وإنما نتاح عمل دؤوب متعدد الأذرع ومتواصل، وكتحصيل حاصل للوضع القائم.
في الحقيقة لا يمكن الادعاء أن الدبلوماسية الفلسطينية أو العربية ضعيفة، ذلك بأنها دبلوماسية نشطة وناجعة ومؤثرة، وهناك الكثير من الإنجازات التي راكمتها، ويقوم ممثلوها بدور فعّال وجدير، وبالذات في أروقة الأمم المتحدة. وفي الإمكان الإشارة إلى ثلاثة بلدان، هي مصر والجزائر وفلسطين، تنشط دبلوماسياً وفي المحافل الدولية بشكل قوي للغاية، لكن المشكلة ليست في النشاط الدبلوماسي وجدارته، وإنما في وضعية العالم العربي ووضعية فلسطين في ظل ضعف بنيوي داخلي وتوازن قوى استراتيجي يميل بشكل صارخ لمصلحة “إسرائيل” والولايات المتحدة، ولا يمكن الفصل بينهما في هذا الصدد. وهذه الفجوة في توازنات القوى على الأرض هي التي تحاصر الأثر الدبلوماسي المنبثق من قوة الدول.
لهذا أيضاً نرى الفجوة الكبيرة بين المستويين الشعبي والرسمي في العالم بشأن الموقف من فلسطين وشعبها؛ فبينما تتعاظم أدوار حركات التضامن والمقاطعة ودور النقابات ومنظمات المحاضرين والاتحادات الطلابية في جامعات العالم، وكذلك التطور في خطاب كبريات منظمات حقوق الإنسان الدولية، نرى أن أثر هذه الحركات في دولها وحكوماتها محدود، وذلك أيضاً نتيجة توازن القوى الحقيقي على أرض الواقع والمهيمن على كل المجالات. كما أنه ينقص الدبلوماسية الفلسطينية والعربية البعد الاستراتيجي بعيد المدى، وانعدام الأدوات التي تملكها دولة الاحتلال، مثل الغطاء الأميركي الثابت والقوة العسكرية والأمنية والتجارية، وقدرات التنقيب عن الغاز، وغير ذلك من أدوات تخلق مصالح لدول أُخرى بالتعامل معها ودعمها.
المستعربون يَصِلون إلى جنيف
تقوم “إسرائيل” الرسمية ومعها المنظمات الصهيونية العالمية والمحلية بتقاسم الأدوار في مسعى مكثف للقضاء على القضية الفلسطينية ودمغها بالإرهاب ونزع شرعيتها، وأساساً تسعى إلى التصدي للمد الشعبي العالمي الذي تقوم به حركات التضامن ومجلس حقوق الإنسان ومنظمات حقوق الإنسان. ففي العام الأخير تراكمت ثلاثة تقارير مهمة للغاية ترى في “إسرائيل” دولة احتلال، ومتورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ودولة استعمار استيطاني وفصل عنصري، وتربط هذه التقارير ما تقوم به دولة الاحتلال في المناطق المحتلة سنة 1967 ومناطق الـ 48 والشتات الفلسطيني واللجوء ومنع العودة. وقد تصدرت هذه التقارير ما صدر هذه الأيام عن لجنة التحقيق المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان، وكذلك تقرير منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش. وعلى الرغم من التفاوت فيما بينها، فإنها أجمعت على الجوهر، وهي نافذة الأثر.
عملياً، يمكن القول إن “إسرائيل” بدأت بعدوان أممي متجدد على الفلسطينيين، وعلى أنصار الحق الفلسطيني، وذلك في مسعى لكسب حيّز إضافي من النفوذ عالمياً، ولتعاظم نفوذها في مقابل هذه القوى، وذلك ضمن حرب هجينة متعددة الأذرع والأمكنة والوسائل هدفها “إخضاع العدو” وإنهاء القضية الفلسطينية بالكامل، وإزاحتها عن جدول أعمال العالم. وفي هذا السياق تنشط جمعية “شورات هدين” في البلاد وفي أنحاء العالم ضمن ما يسمى “الحرب القضائية”، والتي تحدد موقعها “في طليعة مكافحة الإرهاب وحماية حقوق اليهود في جميع أنحاء العالم”، كما تتعاون بشكل وثيق وبنيوي مع المؤسسة الرسمية الإسرائيلية الحكومية ومجلس الأمن القومي، وتقوم باستقاء معلوماتها وبتنسيق نشاطاتها من خلال وحدة “تْسَلتسِلْ” (أي إقرع الباب أو رنّ الهاتف)، وهي تقع ضمن الاستراتيجيات التي طورها رئيس الموساد السابق مئير دغان، والتي في موجبها ينبغي “فك الارتباط بين دوائر الإرهاب وبين إكسير حياته الذي يحركه أي المال”.
في السادس من الجاري، وعشية صدور تقرير لجنة التحقيق الأممية، وبالتزامن مع انتخاب أردان لمهماته الجديدة، نظّمت الجمعية بالتنسيق مع الجهات المذكورة، تظاهرة أمام مقر الأمم المتحدة في جنيف. فقد جنّدت طلاباً يهود وجنوداً في الاحتياط ارتدوا ملابس وبزّات مشابهة لما يرتديه مقاتلو كتائب عز الدين القسام في غزة، واعتمر الآخرون الكوفية الفلسطينية وهتفوا بـ “الصداقة” وتلاقي الخطاب بين “حماس” ومجلس حقوق الإنسان. واعتبرت رئيسة الجمعية أن “مجلس حقوق الإنسان معروف بهوسه تجاه “إسرائيل” لكنه هذه المرة يعمل على تقويض شرعية وجود الدولة”، وأن “مجلس حقوق الإنسان هو إطار معادٍ للساميّة…لكن لجنة بيلاي [لجنة التحقيق] تشكّل مرتبة جديدة وخطرة”.
لا بد من أن تشهد الساحة الدولية مواجهة قوية وأعنف مما شهدناه في العقود الأخيرة، إذ باتت “إسرائيل” تعلّق آمالاً على نفوذها ونفوذ المنظمات الصهيونية، وعلى مساندة الكثير من دول العالم لها سعياً لتغيير هوية المنظمات الدولية، بينما العامل المستجدّ والأكثر تهديداً من وجهة نظرها هو جدية الجهود المبذولة لإخضاعها لمحكمة الجنايات الدولية. وتتعاظم أهمية هذه المواجهة بكونها تتصاعد في ظل تغييرات جوهرية يشهدها النظام الدولي. لكن، ومهما يكن، ففي مثل هذه المواجهة يملك الفلسطينيون وأنصارهم الكثير من مواطن القوة لمحاصرة دولة الاحتلال.
أمير مخول – مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.