المقدمة:
معركة سيف القدس، لم تكن معركة عادية، بل كانت معركة حاسمة، استمرت 11 يوماً، حدث فيها قتال شديد بين قوى المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال؛ مواجهة باسلة وشجاعة، جسَّدتها المقاومة بصمودها وثباتها وإرادتها، ومن ثم تُعد معركة سيف القدس من أهم المعارك التي مرت بالمسلمين في غزة خصوصاً وكامل فلسطين المحتلة عموماً، ليس فقط لخطورتها أو صعوبتها، أو لانتصار المقاومة فيها، ولكن لأنها كانت معركة فاصلة بين مرحلتين رئيسيَّتين من مراحل الحياة للمقاومة في غزة وفي الأراضي المحتلة، والتحول الأبرز للمقاومة بتحديد ساعة الصفر للمعركة.
وقد تجلَّت في معركة سيف القدس قوة الإيمان وثبات العزائم في مواقف المجاهدين، وتحملهم قسوة الحوادث، وصبرهم على شدة القصف، ودأبهم على العمل الشاق تحت الأنفاق، وتيقظهم لحركات أعدائهم ومواجهة هذه الحركات بما يوائمها من ثبات الإيمان وإخلاص اليقين، متّخذين من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاركه أسوة يتأسون بها، حتى كان لهم من كل ذلك دروس عملية في تربية المجتمع.
شَكَلَت معركة سيف القدس في أيار/ مايو 2021 منعطفاً مهماً في الصراع المستمر مع الاحتلال الإسرائيلي، حيثُ استطاعت المقاومة الفلسطينية تحقيق انتصارٍ على جيش الاحتلال، على الرغم من فارق القدرات العسكرية والتقنية بين الجانبين، كما أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية والقدس.
تتناول هذه الورقة معركة سيف القدس، أسبابها، ومقدماتها، وأحداثها، وأهم النتائج التي ترتبت عليها المعركة.
أولاً: أسباب المعركة:
خلال الأشهر القليلة التي سبقت معركة سيف القدس، باتت قرابة 25 عائلة فلسطينية تقطن في حي الشيخ جراح بالقدس تواجه خطراً حقيقياً بالتشريد، بعد قرارات متتالية للمحاكم الإسرائيلية تقضي بإجلائهم عن منازلهم بغية تسليمها لصالح الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية، حيث أخذت الأمور منحاً تصاعدياً مع تسليم السلطات الإسرائيلية إشعارات بالإخلاء لعدد من العائلات، بناء على قرار المحكمة المركزية الإسرائيلية، ليحدث القرار موجة متصاعدة من الغضب الذي تراكم طيلة عقود سابقة نتيجة سياسات التهويد التي مارستها الحكومة الإسرائيلية ضدّ السكان المقدسيين. بلغت حدة الغضب الشعبي ذروته مع دخول شهر رمضان المبارك 1442هـ، وازدياد الاستفزازات الإسرائيلية للفلسطينيين، بالإضافة إلى قطع شرطة الاحتلال كوابل مكبرات الصوت عن المسجد الأقصى في الليلة الأولى من رمضان، ثم محاولات إخلاء باب العامود من المصلين، ومنع إقامة الشعائر الدينية التي تقام سنوياً خلال شهر رمضان، لتبدأ مناوشات حقيقية بين المقدسيين من جهة والشرطة الإسرائيلية والمستوطنين من جهة أخرى، أسفرت عن تراجع السلطات الإسرائيلية عن قرارها بإغلاق باب العامود في وجه المصلين، بعد امتداد المواجهات لساحات المسجد الأقصى والمناطق المحيطة وكذلك حي الشيخ جراح، الأمر الذي شكّل دفعة معنوية كبيرة لصمود الفلسطينيين.[2]
بدت الأحداث تأخذ طابعاً أكثر سخونة مع استمرار المناوشات بين الفلسطينيين من جهة وشرطة الاحتلال والمستوطنين من جهة أخرى، وإعلان المستوطنين نيتهم إطلاق مسيرة الأعلام في ذكرى احتلال “إسرائيل” لشرقي القدس سنة 1967، إضافة إلى التجهيز لما سمي “الاقتحام الكبير” للمسجد الأقصى بمشاركة أكثر من 30 ألف مستوطن، في يوم 28 رمضان 1442هـ، الموافق 10 أيار/ مايو 2021 الذي شهد أحداثاً ساخنة أثرت في المشهد الفلسطيني ككل.[3]
وجاء التحول الأبرز في هذه الأحداث بتدخل المقاومة في غزة، التي رأت أن الانتهاكات بحق المقدسات وأهل القدس دافعاً ومبرراً للدخول في جولة من القتال مع الاحتلال، خصوصاً بعد مناشدات المقدسيين لها وإصرار حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu على فرض سياساتها على المسجد الأقصى.[4]
لقد استطاعت غرفة العمليات المشتركة[5] لقوى المقاومة الفلسطينية تحديد ساعة الصفر لمعركة سيف القدس، في محاولة منها لردع سلطات الاحتلال بالسماح للمستوطنين المتطرفين باقتحام المسجد الأقصى، بعد دعوات للاحتفال بالذكرى السنوية لاحتلال شرقي القدس، وتنفيذ مخطط لإخلاء عائلات فلسطينية قسراً من منازلها في حي الشيخ جراح في شرقي القدس وإحلال مستوطنين مكانهم، فبعد اقتحام الجنود الإسرائيليين للمسجد الأقصى ردت المقاومة برشقات صواريخ دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى، ليبدأ بعدها جيش الاحتلال عدوانه العسكري على القطاع.[6]
ثانياً: مقدمات المعركة:
بحلول مساء اليوم الأول من شهر رمضان 1442هـ الموافق 13/4/2021، بدأت ترتسم ملامح مواجهة جديدة في القدس بعد أن وضع الاحتلال الإسرائيلي حواجز وسواتر حديدية في باب العامود، وتطور الأمر إلى مواجهات يومية أخذت حيزاً مهماً من الاهتمام في العالمَين العربي والإسلامي. وبعد أسبوعين من بدء المواجهة، أعلن المقدسيون انتصارهم على الاحتلال الذي لم يرق له تذوق طعم الهزيمة، ليبدأ حرباً شرسة ضدّ المصلين في المسجد الأقصى وأهالي حي الشيخ جراح بنية تهجيرهم قسراً.
وفي 4/5/2021، وجَّه قائد أركان كتائب القسام محمد الضيف تحذيراً نهائياً وأخيراً للاحتلال الإسرائيلي إذا لم يتوقف عن اقتحام المسجد الأقصى، في ظلّ حديث كان يدور عن تجهيز المستوطنين لاقتحامه بالآلاف، وأشار أيضاً إلى قضية الشيخ جراح محذراً كذلك من تهجيرهم. لكن تقديرات الاحتلال كانت بعكس الواقع، فقد كانت ترى أن حماس غير معنية بالتصعيد، وهو ما ثبت عدم دقته بعد رشقة صاروخية نفذتها القسام باتجاه القدس مفشلة اقتحام المستوطنين للأقصى، ومن هناك بدأت الحرب.[7]
وتفجَّرت الأحداث مساء يوم جمعة الوداع في 7/5/2021 الموافق 25 رمضان 1442هـ، بعدما اقتحم آلاف من جنود الاحتلال، في عملية استفزازية، باحات المسجد الأقصى، واعتدوا على المصلين؛ ما أسفر عن إصابة أكثر من 205 مدنيين فلسطينيين في المسجد الأقصى وباب العامود والشيخ جراح.[8] وفي يوم الإثنين 10/5/2021 الموافق 28 رمضان 1442هـ، وفي تمام الساعة 4:40 عصراً، مَنح الناطق الرسمي باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أبو عبيدة، العدو الإسرائيلي، “مهلةً حتى الساعة السادسة لسحب جنوده ومغتصبيه من المسجد الأقصى المبارك وحيّ الشيخ جراح، والإفراج عن كلّ المعتقلين خلال هَبّة القدس الأخيرة، وإلّا فقد أعذر من أنذر”.[9] وفي تمام الساعة السادسة، أَطلقت كتائب القسام ستة صواريخ باتجاه مدينة القدس المحتلة، لتبدأ معها معركة سيف القدس.[10] وكانت قد وقعت مواجهات عنيفة صباح يوم الاثنين 10/5/2021، بعد اقتحام آلاف من الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى، وأسفرت عن إصابة أكثر من 331 مدني فلسطيني كانت فيهم 7 حالات خطرة للغاية.[11]
ثالثاً: أحداث المعركة:
بدأت معركة سيف القدس يوم الإثنين 10/5/2021 الموافق 28 رمضان 1442هـ، حين وجَّهت كتائب القسام أول ضربات صواريخها على الداخل المحتل، رداً على جرائم الاحتلال المتواصلة في المسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جراح المهدد بالتهجير في القدس المحتلة. وكان قد حذر محمد الضيف قائد هيئة أركان كتائب القسام، في 5/5/2021، الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، وقال: “إن لم يتوقف العدوان على أهالي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، في الحال، فإن كتائب القسام لن تقف مكتوفة الأيدي، وسيدفع الاحتلال الثمن غالياً”. وانخرطت مدن الضفة الغربية والقدس المحتلة ومدن الداخل المحتل في معركة سيف القدس، من خلال عشرات المسيرات الغاضبة والمواجهات وعمليات الدعس وإطلاق النار.[12]
وشهدت الساحة الفلسطينية ليلة ساخنة في ثاني أيام معركة سيف القدس، التي أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية بغزة ضدّ الانتهاكات الإسرائيلية بحق القدس، وسقط عشرات القتلى والمصابين من الجانبين، وإيقاف رحلات الطيران من وإلى مطار بن جوريون، وضرب خط إيلات – عسقلان النفطي، وإعلان حالة الطوارئ في مدينة اللد.
وصلت صواريخ المقاومة الفلسطينية كلّاً من تل أبيب واللد وبئر السبع وعسقلان وأسدود، وقال الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي Avichay Adraee إن المقاومة في غزة أطلقت 850 صاروخاً نحو “إسرائيل”، في المقابل استهدفت الغارات الإسرائيلية أكثر من 130 موقعاً للفصائل الفلسطينية،[13] منها محيط مسجد الإحسان في بلدة جباليا البلد شمال غزة، ومنطقة تل الهوا جنوب غزة، وبيت لاهيا شمال قطاع غزة، ودمَّر الطيران الحربي الإسرائيلي برج الجوهرة في غزة بشكل كامل، وبرج هنادي غرب مدينة غزة. واستهدفت بعض الغارات تجمع مقار الأجهزة الأمنية التابعة لحماس المعروفة باسم “الجوازات”، وأسفرت عن تدمير المقر الرئيسي لشرطة الحركة، وأعلن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي مقتل قيادي بحماس، وهو رئيس جهاز أمن المخابرات العسكرية وقائد شعبة مكافحة التجسس.[14]
شكَّلت الأنفاق القتالية للمقاومة درعاً لها من كثافة القصف الذي تعرض له قطاع غزة خلال الأيام العشرة من معركة سيف القدس، ولم تعد الأنفاق مجرد مكان لتنفيذ العمليات القتالية خلف خطوط العدو، بل هي الحصن المنيع الذي يسهم في حماية القادة السياسيين والعسكريين للمقاومة، حيثُ توجد فيها غرفة العمليات العسكرية. لقد قللت هذه الأنفاق من الخسائر البشرية في صفوف المقاومة، ولم تتعرض البنية التحتية العسكرية للمقاومة بفضلها إلا لضرر طفيف، حيثُ هناك ما يزيد على 500 كم من الأنفاق الهجومية والدفاعية، بحسب ما أكد يحيى السنوار، رئيس حركة حماس في قطاع غزة، ولم يتجاوز الضرر الذي أصابها 5% فقط.[15] وفي مساء الثلاثاء 11/5/2021، قصفت كتائب القسام تل أبيب بـ 130 صاروخ رداً على استهداف “إسرائيل” برجاً سكنياً يعد من أحد معالم قطاع غزة، مكون من 12 طابق، وتمت تسويته بالأرض. ونتج عن تلك الهجمة الصاروخية إيقاف رحلات الطيران من وإلى مطار بن جوريون، وضرب خط إيلات عسقلان النفطي، جنوب عسقلان. ووثَّقت الكاميرات عدداً من الصور والفيديوهات لآثار هذا الهجوم الصاروخي.[16]
وحول الخسائر التي تكبدها الاحتلال، فقد قدَّر اتحاد الصناعات الإسرائيلي خسـائر الشركات الإسرائيلية، خلال الحـرب الأخيرة على قطاع غـزة، بنحو 1.2 مليار شيـكل (نحو 368 مليون دولار). وأشار اتحاد الصناعات الإسرائيلي إلى أن 50 مصنعاً كانوا قد أصيبوا بشكل مباشر بالصواريخ. فيما قدَّرت ما تسمى بوزارة المالية الإسرائيلية، الخسائر الأولية للاقتصاد في المواجهة الأخيرة مع فصائل المقاومة الفلسـطينية بنحو 7 مليارات شيكل (نحو 2.51 مليار دولار). وعن الخسائر البشرية، فقد اعترف العدو عن مقتل 12 إسرائيلياً وآلاف الإصابات، بالإضافة إلى الأضرار المادية التي لحقت بالمنازل في المستوطنات جراء سقوط الصواريخ التي وصلت إلى مديات مختلفة من 10 إلى 120 كم.[17]
وخلَّف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ارتقاء 280 شهيداً من بينهم 96 طفلاً و40 سيدة و17 مسناً، إضافة إلى أكثر من 8,900 إصابة بجراح مختلفة، وتضرر 1,800 وحدة سكنية، وتدمير 184 برجاً ومنزلاً وعدداً من المصانع والمرافق الاقتصادية.[18]
انتهت معركة سيف القدس بتسجيل أكبر وأوضح هزيمة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، إذ لم يسبق أن مني المشروع الصهيوني بمثل هذه الانتكاسة منذ سنة 1948. وخلاصة المعركة أن “إسرائيل” تراجعت ولم تحقق أياً من أهدافها، بينما نجحت المقاومة من مكانها في غزة بحماية المسجد الأقصى والمرابطين فيه، وصدّ اعتداءات الاحتلال.[19]
رابعاً: نتائج المعركة:
حقَّقت المقاومة الفلسطينية في معركة سيف القدس إنجازات مهمة، فأثبتت قوتها وشعبيتها والقدرة على المبادرة إلى ضرب الاحتلال، واختيار توقيت المعركة، وتنامي خبرتها التقنية وقدرتها العسكرية،[20] وكرَّست دورها كمدافع عن القدس والأقصى، لتُخرج إلى دائرة الفعل ما ألتزمت به في خطابها لسنوات عبر تأكيدها أن القدس والأقصى خط أحمر. كذلك، أعطت المعركة دفعة إيجابية لقوى المقاومة في المنطقة، وأكَّدت مركزية القضية الفلسطينية على مستوى أي مقاربة للمنطقة، لا يمكن أن يؤدي تجاهلها وإهمالها إلى حلَّها تلقائياً أو تلاشيها.[21] وقد استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تثبت للاحتلال أن لا وجود لمعادلة ردع استراتيجي أو تكتيكي، وعاجلته بالاستعداد للدخول في مواجهة قتالية، وبدأت الجولة بقصف مناطق سيطرة العدو في القدس، والمستوطنات المحيطة.[22]
وسجَّلت معركة سيف القدس الكثير والكثير من النتائج، وفيما يلي نستعرض أبرزها:
- معركة سيف القدس، هي الحرب الأولى التي تخوض فيها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة الحرب نتيجة أسباب غير متعلّقة بالوضع الميداني الغزاوي، كالعدوان العسكري والحصار الاقتصادي، وغير ناتجة من تدحرج الأحداث المتبادلة بين المقاومة والاحتلال، بل اندلعت بسبب أهم مفردات القضية الفلسطينية، أي القدس والمسجد الأقصى، باعتبارهما قضية إجماع وطني فلسطيني، بعد تواصل انتهاكات المستوطنين لحُرمة المسجد الأقصى وتخطيطهم لاقتحامه، وتواصُل بطش جيش الاحتلال، واستباحة الدم الفلسطيني في باحاته وعند أبوابه، طوال شهر رمضان المبارك 1442هـ. وهذا يدل على أنَ المقاومة الفلسطينية، على الرغم من اهتمامها بتوفير الحياة الكريمة لشعبها وحاضنتها لدعم صمودهما، فإنها تضع في أولوياتها القضية الوطنية بكل مفرداتها: القدس، والتحرير، والعودة، وغيرها.[23]
- معركة سيف القدس، هي الحرب الأولى فلسطينياً، التي تُقرِّر المقاومة الفلسطينية فيها المبادرة إلى الحرب، وتحدِّد ساعة الصفر لانطلاقها. وهي الحرب الثانية عربياً، بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، التي يبدأ بها العرب.[24]
- ظهور المقاومة أقوى مما كانت عليه في حرب 2014 بشكل فاجأ الصديق قبل العدو، بكونها ترد ضربة بضربة، وضربة المقاومة أصبحت أبعد مدى وأكثر عدداً وفتكاً.[25]
- قدّمت المقاومة في غزة نموذجا قتالياً محترفاً، وقدرة عالية على مواجهة العدوان الإسرائيلي والتعامل مع خطط الاحتلال، بما يحدّ من قدرته على إطالة أمد عدوانه ضدّ الفلسطينيين.[26]
- معركة سيف القدس، في عنوانها ومضمونها، المتمحورَيْن حول القدس، هي عنوان وحدة فلسطين، ومضمون هذه الوحدة يتجسّد في وحدة الشعب والأرض والقضية. فالشعب توحَّد خلف القدس وسيفها في كل أماكن وجوده، ولا سيّما في فلسطين المحتلة، لا فرق بين سكان قطاع غزة، على الرغم من معاناة الحصار وآلام العقوبات، وبين سكان الضفة، على الرغم من معاناة الاحتلال والاستيطان وبطش أجهزة التنسيق الأمني، وبين مواطني الأرض المحتلة سنة 1948، على الرغم من معاناة التمييز العنصري ومحاولات الأسرلة، ووهم المواطنة، وأكذوبة التعايش في “مجتمع إسرائيلي” واحد!، ووحدة الأرض الفلسطينية، التي رسمت معالمها صواريخ المقاومة من شمالي فلسطين إلى جنوبها، ووحدة القضية الفلسطينية كقضية تحرير وعودة واستقلال محورها القدس.[27]
- بعد حرب 2021 أصبحت كل فلسطين واحدة، ما يحدث في الشيخ جراح يكون له رد فعل من غزة، وما يحدث في غزة يكون له رد فعل في اللد والقدس؛ ما يعيد لفلسطين تواصلها على الرغم من الحواجز والحصار.[28] لقد شكَّلت الوحدة الفلسطينية النضالية في مواجهة الاحتلال في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والداخل المحتل، بديلاً عملياً لمسار المصالحة أو مسار الانتخابات الفلسطينية، الذي تبنته السلطة الفلسطينية والفصائل، ومضت سنوات دون إحداث اختراق حقيقي فيه. بل إن مسار الانتخابات قد فوَّت على الفلسطينيين فرصة الانتفاضة في وجه صفقة القرن وخطط الضم والتطبيع، وجاءت هذه الجولة من المواجهات لتعيد للفلسطينيين اعتبارهم.[29]
- يضاف لذلك هبّة فلسطينيي الداخل المحتل التي برهنت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن “إسرائيل” أضعف مما تحاول تقديم نفسها به، وأن لدى الاحتلال خاصرة رخوة وحساسة لم تعد بمنأى عن الفعل الفلسطيني المقاوم والتأثر به.[30]
- أخرجت تطورات معركة القدس الآلاف إلى الشوارع للتظاهر وإعلان رفضهم للعدوان الإسرائيلي على غزة وتأييدهم المقاومة ووقوفهم إلى جانب الفلسطينيين، فكانت التظاهرات أشبه باستفتاء على مدى حضور القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والإسلامي والشعبي، بعدما أُريد لاتفاقيات التطبيع، التي وقعت من دون الرجوع إلى القاعدة الشعبية، أن تكون الناطق باسم شعوب المنطقة، وإن لم تكن مرَّت عبر المؤسسات الشعبية حين التوقيع عليها. وهذا ما يتوافق مع نتائج المؤشر العربي التي بيَّنت أن المجتمعات العربية ما زالت تعدّ القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعاً، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم وأن 88% من مواطني البلاد العربية يرفضون الاعتراف بدولة الاحتلال.[31]
- استهداف المقاومة لكل مطارات “إسرائيل” ووقف كل خطوطها الجوية لأيام مع وصول صواريخ المقاومة في قلب تل أبيب العاصمة، أوقع أسطورة “إسرائيل” الأمنية بما فيها القبة الحديدية. مما سيجعل قوافل المستوطنين الصهاينة الجدد في موقف تردد قبل مغادرتهم بلادهم، الأمر الذي قد يكتب تفكك “إسرائيل”.[32]
- فقدان “إسرائيل” كثيراً من أسهمها كواجهة للاستثمار الاقتصادي، بعد أن باتت أرضاً مهددة بصواريخ المقاومة، وبدء التعامل معها ولو جزئياً كعبء على العالم الغربي الراعي لدولة الكيان الصهيوني.[33]
- كان لهذه الحرب تداعيات وآثار سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، نتيجة استهداف المقاومة الفلسطينية لمطارَي “بن جوريون” و”رامون” وبعض الموانئ، حيث تمّ عزله عن العالم، وهذا ما دفع الشركات العالمية إلى تعليق جميع الرحلات الجوية، وإلغاء آلاف حجوزات الفنادق، مما أدى إلى تعطيل الحركة السياحية كلياً، علماً أنَّ قطاع السياحة يعدّ مصدراً مهماً من مصادر الدخل القومي، وبلغت عائداته في سنة 2019 نحو 6.66 مليار دولار. كما أدّت صواريخ المقاومة الفلسطينية إلى توقّف العمل في منصة استخراج الغاز الطبيعي “تمار”، وتعود منصة تمار على الميزانية بدخل قيمته 8 مليار دولار سنوياً، مما يعني أنَّ كل يوم تعطيل عن العمل يقابله خسارة تقدَّر بحدود 5 ملايين دولار يومياً، بالإضافة إلى توقف حركة القطارات والنقل والعديد من المرافق الاقتصادية الحيوية، ووصلت الخسائر إلى منشآت الطاقة الجنوبية، بالإضافة إلى الممتلكات العامة والبنى التحتية.[34]
- شهدت العواصم الغربية حراك وفعاليات شعبية مؤيدة للشعب الفلسطيني، مطالبة بتحقيق مطالبه العادلة في الحرية والعدالة، حيث خرج مئات الآلاف في بريطانيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا الشوارع والأماكن العامة أمام السفارات الصهيونية، داعمين لنضال الشعب الفلسطيني، ومنددين بجرائم الاحتلال.[35]
- كانت التظاهرات التي خرجت في الولايات المتحدة دعماً لفلسطين ورفضاً للعدوان على غزة ذات دلالات مهمة، إذ كانت أضخم من تلك التي نظمها أنصار دولة الاحتلال لدعمها. وخرجت تظاهرات في كُل من نيويورك وميشيغن وواشنطن، ونظمت فعاليات احتجاجية أمام البعثة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة وأمام سفارة الاحتلال.[36]
الخلاصة:
- المقاومة الفلسطينية هي التي قررت المبادرة إلى الحرب، وحدّدت ساعة الصفر لانطلاقها.
- أعادت معركة سيف القدس توحيد الشعب الفلسطيني في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والداخل المحتل في مواجهة الاحتلال، وأكدت جاهزيته للتضحية في أي وقت نصرة للقدس والأقصى والشيخ جراح.
- ظهور المقاومة أقوى مما كانت عليه في الحروب السابقة مع العدو، وتطور أسلحتها كماً ونوعاً.
- أعادت المعركة القضية الفلسطينية لصدارة الاهتمام العربي والإقليمي والدولي، حيث خرج مئات الآلاف في بريطانيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا في الشوارع والأماكن العامة وأمام السفارات الصهيونية داعمين لنضال الشعب الفلسطيني.
- كشفت معركة سيف القدس هشاشة الوضع الداخلي الصهيوني وضعف دولة الاحتلال، وأن صواريخ المقاومة قادرة على الوصول إلى أي مكان في جغرافية فلسطين، وتجاوز القبّة الحديدية.
- أحرجت معركة سيف القدس دول التطبيع؛ حيث أظهرت هذه الجولة من المواجهات أن الشعوب في العالمَين العربي والإسلامي ترفض فكرة التطبيع،وتعد القضية الفلسطينية هي قضيتهم الأولى، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم.
- تكبَّدت دولة الاحتلال خسائر مادية فادحة وصلت الخسائر إلى منشآت الطاقة، بالإضافة إلى الممتلكات العامة والبنى التحتية، بما يبرز تعاظم قوة المقاومة، وتأثير فعلها المقاوم على مناطق سيطرة العدو الصهيوني.
[1] أكاديمي ليبي، وباحث مهتم بالتاريخ الإسلامي والقضايا الإسلامية المعاصرة.
[2] وائل المصري، قراءة في معركة “سيف القدس” النتائج والتداعيات، موقع مجموعة الحوار الفلسطيني، 2021، في: اضغط هنا
[3] المرجع نفسه.
[4] عبد الله العقرباوي، إنجازات غير مسبوقة لـ”سيف القدس”.. ما هي وكيف يستثمرها الفلسطينيون؟، موقع الجزيرة.نت، 23/5/2021، في: اضغط هنا
[5] تأسست في قطاع غزة سنة 2006، وظهرت في صيغها الأولية بين الجناحَين المسلحَين لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي، وهما كتائب الشهيد عز الدين القسام وسرايا القدس، على التوالي، ثم أُعلن عنها رسمياً مع انطلاق مسيرات العودة على حدود قطاع غزة مع “إسرائيل” في تموز/ يوليو 2018، وتوسعت لتضم عدداً من الفصائل والقوى المسلحة في غزة، وهي بمثابة غرفة عمليات تضطلع بدور التخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي سياسياً وعسكرياً. للمزيد انظر: أحمد قاسم حسين، “كتائب القسام ومعركة “سيف القدس”: ممكنات الردع النسبي في حرب غير متناظرة،” ورقة استراتيجية رقم 4، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 24/6/2021، ص 1، انظر: اضغط هنا، نقلاً عن: عدنان أبو عامر، غرفة العمليات المشتركة للمقاومة في غزة نواة لـ”جيش التحرير”، الجزيرة.نت، 28/5/2021.
[6] أحمد قاسم حسين، “كتائب القسام ومعركة “سيف القدس”: ممكنات الردع النسبي في حرب غير متناظرة،” ورقة استراتيجية رقم 4، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 24/6/2021، ص 1.
[7] مقال بعنوان: قصة معركة سيف القدس من الإنذار إلى الدمار، موقع شبكة قُدس الإخبارية، 22/5/2021، في:اضغط هنا
[8] الشيخ جراح: إصابة عشرات الفلسطينيين في اشتباكات في القدس، موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، 7/5/2021، في: اضغط هنا
[9] قاسم قاسم، “سيف القدس”… مناورة حرب التحرير الكبرى، صحيفة الأخبار، بيروت، 31/5/2021، في: اضغط هنا
[10] المرجع نفسه.
[11] الاشتباكات الإسرائيلية الفلسطينية 2021، موقع ويكيبيديا، في:اضغط هنا
[12] 29 شهيداً في الضفة والقدس خلال معركة “سيف القدس”، موقع النورس، 20/5/2021، في: اضغط هنا
[13] ليلة ساخنة في فلسطين في ثاني أيام معركة سيف القدس (تغطية خاصة)، صحيفة المصري اليوم، 12/5/2021، في: اضغط هنا
[14] المرجع نفسه.
[15] أحمد قاسم حسين، “كتائب القسام ومعركة “سيف القدس”: ممكنات الردع النسبي في حرب غير متناظرة،” ورقة استراتيجية رقم 4، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 24/6/2021.
[16] ليلة ساخنة في فلسطين في ثاني أيام معركة سيف القدس (تغطية خاصة)، المصري اليوم، 12/5/2021.
[17] معركة سيف القدس 2021… لقنت الاحتلال درساً وجعلت غِمد المقاومة مُشرعاً دفاعاً عن المقدسات، موقع قناة فلسطين اليوم، 22/12/2021، في: اضغط هنا
[18] المرجع نفسه.
[19] محمد عايش، هذه نتائج معركة “سيف القدس”، شبكة قُدس الإخبارية، 21/5/2021، في:اضغط هنا
[20] براءة درزي، معركة “سيف القدس”: المواقف والتداعيات، في “المشهد الفلسطيني: قراءة في معركة سيف القدس،” مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، 2021، ص 65.
[21] المرجع نفسه.
[22] عبد الله العقرباوي، إنجازات غير مسبوقة لـ”سيف القدس”.. ما هي وكيف يستثمرها الفلسطينيون؟، الجزيرة.نت، 23/5/2021.
[23] وليد القططي، بعد “سيف القدس” نغزوهم ولا يغزوننا، موقع قناة الميادين، 16/5/2021، في: اضغط هنا
[24] المرجع نفسه.
[25] باسم الجنوبي، 21 انتصاراً للمقاومة في معركة سيف القدس، موقع عربي بوست، 21/5/2021، في: اضغط هنا
[26] عبد الله العقرباوي، إنجازات غير مسبوقة لـ”سيف القدس”.. ما هي وكيف يستثمرها الفلسطينيون؟، الجزيرة.نت، 23/5/2021.
[27] وليد القططي، بعد “سيف القدس” نغزوهم ولا يغزوننا، موقع قناة الميادين، 16/5/2021.
[28] باسم الجنوبي، 21 انتصاراً للمقاومة في معركة سيف القدس، عربي بوست، 21/5/2021.
[29] عبد الله العقرباوي، إنجازات غير مسبوقة لـ”سيف القدس”.. ما هي وكيف يستثمرها الفلسطينيون؟، الجزيرة.نت، 23/5/2021.
[30] المرجع نفسه.
[31] براءة درزي، معركة “سيف القدس”: المواقف والتداعيات، في “المشهد الفلسطيني: قراءة في معركة سيف القدس،” مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، 2021، ص 62.
[32] باسم الجنوبي، 21 انتصاراً للمقاومة في معركة سيف القدس، عربي بوست، 21/5/2021.
[33] المرجع نفسه.
[34] بالأرقام.. غزة تكبد الكيان الإسرائيلي خسائر اقتصادية ضخمة، موقع الخنادق، 25/5/2021، في: اضغط هنا
[35] رضوان أبو جاموس، معركة سيف القدس نتائج.. ودلالات، موقع أمد، 31/5/2021، في: اضغط هنا
[36] براءة درزي، معركة “سيف القدس”: المواقف والتداعيات، في “المشهد الفلسطيني: قراءة في معركة سيف القدس،” مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، 2021، ص 64.
صالح الحاج حسن – مركز الزيتونة |
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.