على وقع طبول الحرب التي تدق في أوكرانيا، والتي تجذب انتباه العالم وتهدد بتسريع الانسحاب الأمريكي المتوقع من الشرق الأوسط بهدف تركيز الانتباه والجهود مع كلٍ من روسيا والصين، تُراجع الأطراف الإقليمية والدولية حساباتها، وتُعيد تشكيل قائمة التحالفات والخصومات لمواجهة التطورات المتلاحقة، لذا في هذا التقرير نحاول تسليط الضوء على الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط الذي دام لعقود، ما أسبابه؟ وكيف تغيرت أشكاله خلال السنوات السابقة؟ وكيف سيكون الوضع في المنطقة في ظل الانسحاب الأمريكي منها؟
الشرق الأوسط في ميزان المصالح الأمريكية
بحسب دراسة صادرة عن «المركز الأطلنطي للأبحاث»، تتركز مصالح الأمن القومي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط في عدة محاور، يأتي في مقدمتها ضمان استمرار إنتاج الطاقة الحيوية من المنطقة -وعلى رأسها النفط والغاز- وشحنها بأمان إلى جميع أنحاء العالم.
ولطالما اعتُبر ملف الطاقة المحرك الرئيسي للسياسة الأمريكية في المنطقة منذ عقود طويلة، وخصوصًا بعد أزمة حظر النفط من طرف المملكة العربية السعودية عام 1973، في ظل التعاطف العربي مع المصريين والسوريين خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول)، وتلا ذلك توترات بين واشنطن والاتحاد السوفيتي، تكللت بإعلان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر عام 1980م أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة العسكرية ضد أي قوة تحاول السيطرة على منطقة الخليج العربي، فيما عُرف بـ«مبدأ كارتر».
أيضًا من ضمن العوامل الأخرى المؤسسة للسياسة الأمريكية، ضمان التوازن بين القوى المتصارعة في المنطقة بما يعزز الاستقرار الإقليمي ويحمي حلفاء الولايات المتحدة وفي مقدمتها إسرائيل ويمنحها تفوقًا نوعيًّا على جيرانها، إذ تقدم الولايات المتحدة مساعدات عسكرية واقتصادية متكررة لإسرائيل، بمليارات الدولارات، ولا تتردد في دعم هجماتها العسكرية ضد الفلسطينيين علنًا، كما تقف حجر عثرة ضد أي قرارات تدين إسرائيل في المنظمات الدولية.
ويعود الدعم الأمريكي اللامحدود للإسرائيليين إلى عوامل عدة، أهمها رؤية واشنطن التاريخية لإسرائيل على أنها حجر الزاوية للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، في مقابل الكتلة المؤيدة للسوفييت أثناء الحرب الباردة، ثم لاحقًا في مقابل أنظمة مناوئة للولايات المتحدة مثل نظام صدام حسين، وفي مقابل النفوذ الإيراني المتصاعد حاليًا.
هذا فضلًا عن عوامل داخلية وحسابات انتخابية أمريكية، إذ يعتبر اليهود الأمريكيون والمسيحيون الإنجيليون -وكلا المجموعتين مؤيدتان لإسرائيل بشكل تام- من أكثر المجموعات نفوذًا في السياسة الأمريكية، في كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كما تحظى إسرائيل بشعبية واسعة بين الناخبين الأمريكيين، بسبب الدعاية التي تسوق لها باعتبارها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط على النموذج الأمريكي».
وبموازاة دعم إسرائيل، طالما عملت السياسة الخارجية الأمريكية على منع خصوم واشنطن، الإقليميين والدوليين من توسيع أهدافهم في الشرق الأوسط، بما يقوض الأهداف والمصالح الأمريكية، وتركز سياسة واشنطن كذلك -وفقًا «للمركز الأطلنطي»- على الحيلولة دون تمكن المنظمات التي تعتبرها الولايات المتحدة «إرهابية» من استهداف مصالحها أو مصالح شركائها الإقليميين.
الشرق الأوسط لم يعد مسألة «حياة أو موت» بالنسبة للأمريكيين
بعد عقود من الارتباط الأمريكي اللصيق بالشرق الأوسط، حتى ظن البعض أن علاقة واشنطن بالشرق الأوسط أقرب إلى «زواج كاثوليكي» لا يمكن لأي من الطرفين الانفكاك منه، إلى أن برزت العديد من العوامل والرؤى التي جعلت من مسألة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط أمرًا وارد الحدوث، بل وإستراتيجية مفضلة لدى العديد من المفكرين الإستراتيجيين وكبار الساسة الأمريكيين.
وفي البدء كانت مسألة النفط الصخري، وهو مصطلح يشير إلى زيت خام اصطناعي يجري استخراجه من الصخر الزيتي عن طريق الانحلال الحراري، أو زيت خام طبيعي يجري استخراجه من رواسب الصخر الصخري تحت الأرض عن طريق التكسير الهيدروليكي، ويمكن أن يشكل بديلاً للنفط الأحفوري التقليدي، وقد طورت الولايات المتحدة على مدار السنوات السابقة تكنولوجيا استخراج النفط الصخري وتوسعت في إنتاجه واستخدامه، حتى صارت أكبر منتج للنفط في العالم.
وبرغم «ثورة النفط الصخري الأمريكية»، فإن اعتماد الولايات المتحدة المطرد على الطاقة وضخامة استخدامها، لا يزال يتطلب منها أن تكون ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم، إذ لا يلبي الإنتاج المحلي من الطاقة الطلب المتزايد، لكن على الرغم من ذلك لا يمكن إنكار الدور الذي لعبته طفرة النفط الصخري الأمريكي في تقليل الاعتماد على الطاقة الأجنبية.
إذ أصبح الأمريكيون مطمئنين إلى أنه في حالة الحرب، تمتلك واشنطن الآن القدرة على التحول إلى الاكتفاء الذاتي إذا لزم الأمر لتزويد اقتصادها وجيشها بالطاقة المحلية، ولم تعد مصادر الطاقة القادمة من الشرق الأوسط مسألة حياة أو موت بالنسبة للأمريكيين كما كانت سابقًا.
أما فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، باعتبارها «حجر زاوية» للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، فقد بدأت تتصاعد أصوات العديد من المفكرين والساسة الأمريكيين، الذين أشاروا إلى أن «القيمة الإستراتيجية» لإسرائيل قد تضاءلت في السنوات الأخيرة، ولم تعد تل أبيب تشكل نفس الأهمية للأمريكيين كما كانت من قبل، لقد انتهت الحرب الباردة منذ 30 عامًا، ولم تعد واشنطن تكافح أنظمة موالية للسوفييت في المنطقة.
بل ينتشر اعتقاد داخل الأوساط البحثية الأمريكية بأن الدعم الأمريكي اللامشروط لإسرائيل ووقوفها «حارسًا» يقظًا للمصالح الإسرائيلية في المنظمات الدولية، واستخدام حق النقض «الفيتو» ضد أي قرار يدين تل أبيب، يخلق من المشاكل أكثر مما يحلها، ويضر بالصورة «الأخلاقية» للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل وعلى المستوى العالمي، بموازاة تشكك غير مسبوق بجدوى المساعدات العسكرية والاقتصادية الضخمة التي تتلقاها إسرائيل من أمريكا (تتجاوز 3 مليارات دولار سنويًا) رغم أن إسرائيل دولة غنية يحتل دخل الفرد فيها المرتبة 19 في الترتيب العالمي.
أما فيما يتعلق بالمصالح الأخرى للولايات المتحدة في المنطقة، فلا تزال محل أخذ ورد بين المحللين الأمريكيين، فهناك من يرى أولوية مطلقة للقضايا الأمنية، والتعاون مع حكومات الشرق الأوسط في المسائل المتعلقة بـ«مكافحة الإرهاب» و«التعاون الاستخباراتي».
فيما يرى البعض أن غض الطرف عن المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان في الشرق الأوسط يقوض المصداقية الأمريكية في المنطقة والعالم، ويضر باستقرار المنطقة والمصالح الأمريكية فيها على المدى الطويل، خاصة أن حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والسنوات الطويلة لتفضيلها دعم الحكومات القمعية على حساب حقوق الإنسان، لم يوفر الاستقرار المنشود، ولم يقضٍ على خطر الحركات «الإرهابية» التي تخشاها واشنطن، بل كانت السياسات الأمريكية في كثير من الأحيان سببًا إضافيًا لصب الزيت على النار.
تمدد القوى المنافسة وإعادة تشكيل خارطة التحالفات في الشرق الأوسط
في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات داخل أروقة السياسة الأمريكية، منادية بتقليل الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط، و«توظيف الموارد الأمريكية المحدودة في مناطق أكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة» -وبالتحديد توجيهها إلى آسيا لمواجهة النفوذ المتزايد للصين وروسيا- على حد تعبير الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تثور التكهنات حول عواقب هذا الانسحاب على توازنات القوى الإقليمية، وما يمكن أن تعنيه خطوة كهذه لحكومات وشعوب المنطقة.
يترقب الكثيرون ما يمكن أن تعنيه تلك الإستراتيجية الأمريكية الجديدة بالنسبة لإسرائيل بعد عقود من الارتباط الوثيق بواشنطن، إذ تعتبر تل أبيب أن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط هو أسوأ كابوس لها، إذ سيؤدي إلى تصاعد النفوذ الإيراني وقد تقرر إيران في النهاية استثمار التردد الأمريكي في تطوير قدراتها النووية، وصولاً إلى إنتاج قنبلة نووية في نهاية المطاف، هذا أسوأ سيناريو يمكن للقادة الإسرائيليين تخيله.
لكن ثمة تحليلات أخرى تقلل من تأثير أي انسحاب أمريكي محتمل على إسرائيل، فقد تمكن الإسرائيليون على مدار عقود من تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي الدفاعي، واستطاعوا بناء آلة عسكرية وسياسية فعالة تستطيع بها مواجهة «أعدائها» الإقليميين، من دون الاعتماد المطلق على الدعم الأمريكي المباشر، كما أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة سيكون جزئيًا، ومن غير المحتمل أن نرى الولايات المتحدة تقف مكتوفة الأيدي إذا رأت إسرائيل تخوض مواجهة عسكرية ضد إيران مثلاً، أو حتى ضد «حماس» و«حزب الله».
ويمكن أن تبادر الدول المنافسة للولايات المتحدة لملء الفراغ الذي سيتركه الغياب الأمريكي في المنطقة، إذ أصبحت الصين حاليًا أكبر مستورد للنفط من منطقة الشرق الأوسط، حيث يزودها بأكثر من نصف احتياجاتها من الطاقة، ربما سيدفع هذا الفراغ الصينيين إلى اتباع سياسة أكثر تدخلية في شؤون المنطقة.
إضافة إلى ذلك، فإن شرقًا أوسط بدون «إزعاج» أمريكي يمكن أن يثير لعاب روسيا -المنخرطة أصلاً في أزمات المنطقة، كما هو الحال في الشأنين الليبي والروسي- أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، لمزيد من التدخلات السياسية والعسكرية لتعويض الغياب الأمريكي.
كما سيترك الغياب الأمريكي الكثير من الساحات فريسة لهيمنة إيران التي تتساقط صواريخ الجماعات المتحالفة معها على الأهداف الأمريكية في العراق وسوريا، أملاً في أن تشكل مزيدًا من الضغوط التي تدفع الأمريكيين في النهاية إلى تسريع الانسحاب، كما سيتيح ذلك الانسحاب فرصةً لقوة إقليمية أخرى وهي تركيا، للعب دور أكبر، وهو ما يفسره سعي قيادات خليجية -في مقدمتها الإمارات العربية المتحدة- إلى تعزيز علاقاتها مع تركيا، بعد سنوات من القطيعة.
ساسة بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.