تسعى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية إلى الضغط على الصين، ودفعها للانضمام إلى العقوبات الغربية ضد روسيا، وهو ما وضح في الاتصال الذي جرى بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، ونظيره الصيني شي جين بينج، في 18 مارس 2022، غير أن بينج رفض النهج الأمريكي من الأزمة، كما دعا واشنطن إلى أن توجه العلاقات مع بكين نحو المسار الصحيح، محذراً من أنه “يجب ألا تتحول العلاقات الثنائية لمواجهة”، في تهديد ضمني، ورد على ما أثير قبل اللقاء حول إمكانية أن تتجه واشنطن لمعاقبة الصين إذا ما عززت علاقاتها بموسكو.
أبعاد الموقف الصيني:
تبنت الصين مواقف داعمة لروسيا من الصراع الأوكراني، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- دعم دبلوماسي قوي: لم تشجب الصين العمليات الروسية العسكرية في أوكرانيا؛ حيث أكد المسؤولون الصينيون أنه “لا يمكن تسمية ما تقوم بها روسيا حرباً أو احتلالاً”، كما ترى الصين أن واشنطن تتهرب من مسؤوليتها في إشعال الأزمة من البداية بمحاولة استقطاب كييف لحلف الناتو، رغم معارضة موسكو ذلك، وعلى الرغم من وجود تفاهمات سابقة تؤكد على عدم نية الناتو التوسع باتجاه جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة.
وقد انعكس ذلك الموقف في مجلس الأمن، إذ أصرت بكين على إعادة صياغة مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة وألبانيا إلى مجلس الأمن في 25 فبراير، وذلك حتى لا تصوت بكين ضده، وتمثلت أبرز البنود المعدلة في تخفيف مشروع القرار الذي تمّ التصويت عليه وذلك عبر حذف كلمة “يدين” واستبدالها بـ “يأسف المجلس”، وبطبيعة الحال، فإن الإدانة هي لفظ قانوني يعني أن السلوك الذي تبنته موسكو هو سلوك يخالف القانون الدولي، أما لفظ “الأسف” فلا يحمل هذه الدلالة، أي أن القرار خرج من دون أي إدانة رسمية للموقف الروسي من الأزمة. وصحيح أن القرار الأمريكي لم يتم تبنيه بسبب الفيتو الروسي، إلا أنه كشف عن دعم بكين الواسع لموقف موسكو.
2- رفض الالتزام بالعقوبات الأحادية: لم توافق الصين على فرض عقوبات اقتصادية على روسيا؛ لما لها من آثار سلبية على معدلات تعافي الاقتصاد العالمي من كوفيد – 19، كما تؤثر تلك العقوبات بالسلب على كل الأطراف، ولذلك تدعو الصين لاحترام معاهدات واتفاقيات التجارة الحرة، وترفض الاشتراطات الخاصة بإمكانية فرض عقوبات ثنائية تجاهها في حالة استمرار حيادها تجاه الأزمة الأوكرانية.
وترى الصين في العقوبات الاقتصادية المفروضة خارج أطر الشرعية الدولية المتمثلة في مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة، تحركات أحادية من دون شرعية قانونية دولية. كما قد تدعم الصين استبدال الدولار باليوان الصيني في التجارة المتبادلة بينهما؛ بما يحد من تأثير أي عقوبات غربية.
3- استمرار الشركات الصينية في روسيا: تواجه الشركات الصينية حملات مكثفة من الغرب لوقف علاقاتها بروسيا، فقد تم اتهام شركة “دي جيه آي” الصينية بتصدير منتجات أو أجزاء تستخدم في تطوير أسلحة تشارك في الهجوم الروسي على المدن الأوكرانية، وهو ما نفته الشركة تماماً.
وفي المقابل، أعلنت بعض الشركات عن توسيع تجارتها مع نظيراتها الروسية دون الاكتراث بدعوات أوكرانيا أو تهديدات العقوبات الغربية؛ حيث وقعت مجموعة من الشركات الصينية صفقات لبناء مصانع جديدة في روسيا، أو استيراد فحم من روسيا (تم توقيع عقود طويلة الأجل مع مجموعات الفحم الروسية مثل “شركة طاقة الفحم السيبيري” (SUEK) وإيبجا (Elga).
وما يعزز بقاء الشركات الصينية في الاقتصاد الروسي هو أن العديد من الشركات الغربية قد رفضت مغادرة السوق الروسي على أساس أنها تقدم منتجات ضرورية وأساسية، مثل الطعام، أو للحفاظ على دفع رواتب موظفيها، بينما أشار البعض الأخر إلى أنه مقيد باتفاقات تجارية، أو شراكات مع أطراف محلية، بالإضافة إلى تهديد موسكو بمصادرة أصول الشركات التي تغادر السوق الروسي.
حسابات بكين الاستراتيجية:
تتمثل أهم الاعتبارات الحاكمة للموقف الصيني الرافض للانصياع للعقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد روسيا في التالي:
1- رفض الهيمنة الأمريكية: أكد المسؤولين الروس والصينيون في مناسبات عدة انتهاء النظام الدولي أحادي القطبية، كما تحتفظ بكين برؤيتها التي تقوم على أن الولايات المتحدة تسببت في إشعال الأزمة الأوكرانية؛ عبر محاولة استقطاب أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو.
وترى بكين أن الولايات المتحدة تسعى لمقاومة نهاية الأحادية القطبية بكل السبل، وذلك عبر استدراج روسيا للحرب الأوكرانية، ومحاولة استنزافها عسكرياً واقتصادياً، وهو الأمر الذي تعيه الصين جيداً، ولذلك، فهي تترقب نتائج الصراع الأوكراني، إذ إن خروج موسكو منتصرة من هذه الحرب سوف يعني حتمياً تراجع الوزن الأمريكي عالمياً، وتحول النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب.
2- مواجهة التهديدات نفسها: تعاني بكين وموسكو من السياسات الأمريكية نفسها، أي إقامة تحالفات عسكرية بالقرب من حدودها لتطويقهما، وتقييد قدراتهما على التحرك عسكرياً. فإذا كانت الولايات المتحدة عمدت إلى التلويح بتوسيع حلف شمال الأطلسي عبر ضم أوكرانيا إليه، ومن ثم الوجود في الجوار الروسي المباشر، فإن واشنطن تتبنى النهج نفسه، وذلك في تايوان، عبر محاولة منع عودة الجزيرة إلى السيادة الصينية، وتبني عدة سياسات لاستفزاز الصين، سواء عبر إبحار مدمرة أمريكية في مضيق تايوان في 26 فبراير 2022، أو موافقة الولايات المتحدة على بيع معدات عسكرية وخدمات لتايوان بقيمة 100 مليون دولار لدعم أنظمتها للدفاع الجوي والصاروخي.
ولذلك طالب الرئيس بينج بايدن في الاتصال الهاتفي بينهما بضرورة معالجة قضية تايوان بشكل سليم لتجنب أي تأثير سلبي على العلاقات الصينية – الأمريكية، في مؤشر على أن الصين لن تهادن فيما يتعلق بتايوان.
ولا تقتصر الهواجس الصينية على تايوان، ولكنها تمتد إلى اليابان، فقد أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو لي جيان، على أهمية استمرار اليابان كدولة خالية من الأسلحة النووية، ومنع أي محاولات لوضع أسلحة استراتيجية أجنبية على أراضيها.
وأكد الهواجس السابقة، وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، والذي أكد في تصريحه أن بكين أصبحت متأكدة من أن الغرب سيتحول للصين بعد الانتهاء من مشاكله مع روسيا، فبعد أن انفتحت الصين اقتصادياً ودخلت السوق العالمي متبعة المعايير والأدوات التجارية الغربية، وحققت نجاحات كبيرة، قامت الولايات المتحدة بخلق عقبات “لمكافحة التمدد الصيني”، في إشارة إلى محاولة واشنطن تقييد بكين عن تصدير شبكات الجيل الخامس.
3- تكامل استراتيجي عميق: لا ترغب أي من بكين أو موسكو في مواجهة الولايات المتحدة بمفردها، إذ إن روسيا والصين تكملان بعضهما البعض استراتيجياً في مواجهة الولايات المتحدة. ففي حين أن موسكو تعتبر قوة عسكرية موازنة للولايات المتحدة، غير أن اقتصادها لا يمكن مقارنته بنظيره الأمريكي.
وفي المقابل، فإن الصين قوة اقتصادية تقارب قوة الاقتصاد الأمريكي، غير أنها لاتزال أقل قوة من واشنطن من المنظور العسكري. وفي ضوء هذا الوضع، فإن تخلي الصين عن روسيا في مواجهة الولايات المتحدة يعني أن واشنطن سوف تضع نصب عينيها بكين بعد الانتهاء من إضعاف روسيا، وهو سيناريو لا ترغب بكين في حدوثه.
ومن جانب آخر، فإن التحالف بين الصين وروسيا يضبط تحركات الهند، كما أنه في الوقت ذاته يفرض قيوداً على تحالف الهند بشكل كامل مع واشنطن في مواجهة الصين، خاصة أن تسليح نيودلهي هو تسليح روسي، وتمتع موسكو ونيودلهي بشراكات في مجال التصنيع العسكري.
4- حليف آمن في مواجهة واشنطن: تعد روسيا بالنسبة للصين حليفاً قوياً، إذ إنه مصدر مأمون للطاقة، خاصة إذا ما سعت الولايات المتحدة إلى فرض حصار على بكين، أو إنزال عقوبات اقتصادية بها، كما أن روسيا كذلك تمد الصين بالأمن الغذائي الذي تحتاجه، ولذلك فإن التخلي عن موسكو في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة لتطويق الصين وحصارها، عبر تحالف الكواد والأوكوس، يعد خياراً غير واقعي بالنسبة لبكين.
5- علاقات اقتصادية حيوية: يبلغ حجم الصادرات الصينية لروسيا حوالي 72.7 مليار دولار، وهو ما يمثل حوالي 24.8% من إجمالي الواردات الروسية من الخارج، وبذلك تعتبر بكين الشريك الاقتصادي الأول لموسكو، وهو ما يعني أن الاقتصاد الصيني سوف يتضرر سلباً إذا ما انصاع إلى العقوبات الأمريكية الأحادية ضد روسيا واضطرت لتعليق بعض صادراتها.
ومن جهة أخرى، تمر المعاملات التجارية الصينية مع روسيا عبر البنوك الأمريكية، ومن ثم ستتأثر المعاملات التجارية الصينية – الروسية إذا ما اتجهت الدول الغربية إلى عزل كامل البنوك الروسية عن نظام السويفت، وهو خير مستبعد. وحتى في هذه الحالة، فإن بكين وموسكو سيكون أمامها خيار آخر، وهو تفعيل الاتفاق الذي أبرم بينهما، ولم يدخل حيز التنفيذ بعد، والذي يقضي بإجراء التبادل التجاري بالعملات الوطنية.
6- تجنب الغرب الحرب التجارية مع الصين: تتمتع الصين بعلاقات اقتصادية قوية مع الغرب، وهي لا تفكر في التضحية بها، ولكن في الوقت نفسه، فإن هذا لا يعني الاستسلام للمطالب الغربية، فقد أكد وزير الخارجية الصيني، وانج يي، أن الصين قلقة من احتمال تعرّضها للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا لحربها في أوكرانيا، وأن بلاده سترد إذا لزم الأمر، مضيفاً أن “الصين لها الحق في حماية حقوقها ومصالحها المشروعة”، وهو ما يعني أن الصين سوف ترد على العقوبات الاقتصادية بعقوبات مماثلة، وهو سيناريو ليس بوارد أن تفكر فيه أي دولة غربية، نظراً لتداعياته الكارثية على الاقتصاد العالمي.
وتواجه الدول الغربية تداعيات كبيرة نتيجة للعقوبات التي فرضتها على روسيا، إذ تحذر المؤسسات المالية الدولية من دخول أوروبا في حالة كساد، بالإضافة إلى ارتفاع التضخم. ولاشك أن أي محاولة لفرض عقوبات متبادلة بين الصين والغرب سوف تكون لها تداعيات كارثية، على كل دول العالم.
وفي الختام، يمكن القول إن الموقف الصيني سوف يستمر في حدوده، إذ إنه لن يتخلى عن رؤيته للأزمة الأوكرانية، وعن مسؤولية واشنطن عن اندلاعها، كما سيظل يؤكد على أهمية الحلول الدبلوماسية، وليست العقوبات، لتسوية الأزمة، وعلى الرغم من أن الدول الغربية تلوح بفرض عقوبات ضد الصين، في حالة دعمها لروسيا، فإنها في الواقع لن تقدر على ذلك، نظراً لتحذير الصين بفرض عقوبات مقابلة، وهو ما سيتسبب في انهيار اقتصادي عالمي.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.