يشدد أستاذي على أن العقوبات الخيار الأكثر إنسانية، وتحثّ البرامج الجديدة العالمية اليوم —التي لا يكف عن الافتخار بها— عليها. كوني من بلدٍ تفرض عليه العقوبات اليوم وجدتُ نفسي أضع شعارات أستاذي جانبًا، لأجعل تاريخها خير حاكم لها.
هل سمعت يوما عن برنامج الغذاء مقابل النفط؟
ما هو هذا البرنامج؟
بعد فرض عقوبات على العراق تتمثل بمراقبة الأمم المتحدة لكل حركة الاستيراد والتصدير التي تقام في البلاد، توضع الأرباح في حسابٍ لا تملكه الدولة، بل الأمم المتحدة. اقترحت الأخيرة بأمر من الولايات المتحدة الأمريكية أن تصرف أرباح عائدات النفط على شراء مؤنٍ للشعب العراقي، لأن أمريكا كانت قد دمرت البنى التحتية للبلاد بحيث لم يعد العراق يستطيع الوقوف على قدميه وحيدًا.
كانت الولايات المتحدة تأخد ثلث هذه الأرباح التي في الحساب لنفسها، وعُشرُها ضرائب “خدمات الأمم المتحدة” ليذهب الباقي إلى شركات وموردين تختارهم الأمم المتحدة، ليطعِموا الشعب العراقيّ تحت عنوان برنامج: الغذاء من أجل النفط.
يومها كانت العراق مدمرة اثر حربين، وأمريكا مصرّة على فرض هذا البرنامج كعقوبات لعدم رضوخ العراق لها. فكانت المعركة بين الحكومة الأمريكية (تحت غطاء الأمم المتحدة) ضد أطفال العراق.
آثار العقوبات على الأطفال
خلال فترة هذا المشروع، تضاعفت نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة في ١٥ محافظة عراقية. يُقال أنها النسبة الاكبر في العالم منذ ٢٠٠ سنة على الأقل. هناك أسباب شتى لهذه النسبة، كلها مرتبطة بالعقوبات. فعلى سبيل المثال، عانت مياه الشرب ومياه الصرف الصحي في العراق من التلوث الشديد بسبب الحربين ومن دمار معظم القساطل الاساسية، لكن أمريكا رفضت مد البلاد بخزانات للمياه، زاعمة أنها قد تستخدم لتخزين الأسلحة.
لم يتوقف الأمر هنا، فمنعت أمريكا ما يقدّر بحوالي مليار دولار من المعدات الطبية بحجة قدرة الدولة على الاستخدام السيء لها. يُذكر أيضا أنها حاولت منع لقاحات الأطفال بحجة ان اللقاح مصنوع من كائن حيّ ويمكن للدولة أن تصنع منه أسلحة بيولوجية. اضطر الكثير من العلماء يومها لتقديم أوراق بحثية تثبت أن هذا التخوف مستحيل، حتى رضخت أمريكا أخيرا وسمحت باللقاحات.
لعل تلك كانت المرة الوحيدة التي خففت فيها العقوبات.
التدهور العام للبلاد
مع الوقت، هبطت العراق من الدولة الـ٥٥ من ١٣٠ دولة على لائحة الدول النامية إلى الدولة ١٢٦. منعت أمريكا حوالي ٢٠٠ عقد للمساعدات الانسانية على العراق، رغم كون العقود موافق عليها من الأمم المتحدة. كانت الأمم المتحدة تراقب كل مسمار يدخل ويخرج من البلاد، وتحرص على أن كل ما يدخل لا يمكن استخدامه لصنع الاسلحة، ومع ذلك، لم تُخفف العقوبات، وبقي التضييق على حاله.
حتى أن المدارس مُنعت من الحصول على كومبيوترات، تحت نفس الأعذار.
لا يمكننا الاستمرار
أوصلت العقوبات الأمر إلى استقالة كل من استلم برنامج العراق في الأمم، أولهم كان دنيس هاليداي الايرلندي، الذي خدم لمدة ١٣ شهرًا فقط. قال هاليداي “نحن نعمل على تدمير مجتمع كامل، هذه هي الحقيقة المرعبة، وهذا غير قانوني وغير أخلاقي.” ومن لم يستقِل بنفسه، بل حاول التغيير والتخفيف غير المباشر من العقوبات، كانت أمريكا تقيله بنفسها.
لكنها تستحق
المشكلة أن امريكا قالت للعالم أنها تعاقب النظام البعثي على استخدامه لأسلحة أمريكا نفسها باعتها له على أنها “اكثر انسانية” ولكن هذا حديث لمقال آخر. الهدف الحقيقي وراء العقوبات كان ضرب سيادة الدولة. في اللحظة التي قررت العراق التفكير لنفسها وعدم أخذ إذن أمريكا في التنفس، قامت بخنقها.
تُوفي اثر هذه العقوبات ما يفوق نصف مليون طفلٍ، مع ازدياد الامراض المستعصية لدى الأطفال الذين نجوا. قالت يومًا مذيعة تلفزيون هذه المعلومة إلى وزيرة خارجية الولايات المتحدة —السابقة— مادلين اولبريت وسألتها، هل كان الأمر يستحق كل هذا الموت؟ فأجابت: إنه خيار صعبٌ جدًا لكنه يستحق.
انتهى هذا المشروع عام ٢٠٠٣، ودخلت أمريكا مباشرة على العراق.
أستاذي وأولبريت محقان. فللمستكبر خيارات عديدة للطغيان، والعقوبات ليست الوحيدة لكنها حسب قولهم: تستحق، لا لكونها الأكثر إنسانية، بل لكونها الأرخص وتستهدف الأغلى.
وأضيف على هذا أن للمستضعف خيارات عديدة للنجاة، لكن المقاومة وحدها التي تستحق.
بتول الغداف- موقع فُتات
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.