مشتركات “الرفيقين جيم – جيم”.. من يدفع الفاتورة الكبيرة؟

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

تفيد التفسيرات اللغوية في اللغة العربية حول كلمة “رفيق” معنيين سائدين، الأول يندرج تحت عنوان الصاحب أو الذي يواكب ويزامل شخصاً آخر ويتوافق معه في الميزات والصفات العامة والخاصة، ويعبّر عن الشخص المقصود بأنه “صديق موثوق”؛ ويفيد المعنى السائد الآخر المنطوي في المعنى الأول الطابعَ المحبّب والحنون والذي يحمل في النفس عاطفة خاصة تجاه الشخص الآخر، ويمكن الاعتماد عليه في الأوقات الصعبة.

أما في الاستخدامات السياسية فإن مصطلح “رفيق” يعني “زميلاً في الحزب”، وغالباً ما كانت الأحزاب اليسارية تعتمد هذا المصطلح للدلالة على المشترك في الانتماء والعقيدة للأفراد المنضوين في الحزب الواحد، وقد شاع استخدام هذا المصطلح إبّان الثورة الفرنسية، وتطوّر بعدها إلى شكل من أشكال الخطاب بين الاشتراكيين والعمّال، كما ربطت الثقافة الشعبية في الغرب هذه الكلمة بالشيوعية، وفي وقتنا الحالي تعني كلمة “رفيق” في المفهوم العسكري والحربي “الحليف”، ولطالما استُخدم هذا اللقب للتخاطب بين عناصر حزب “البعث” في سورية قياداتٍ وأفراداً، وطغت على الألقاب الأخرى حتى داخل المؤسسة العسكرية السورية، وانتشرت بين الناس كواحدة من التعبيرات الدالّة على الجامع المشترك تحت راية هذا الحزب.

وبالنظر إلى الواقع السائد في سورية بعد أن أطبقت الفصائل المسلحة للمعارضة السورية سيطرتها على البلاد وآلت السيادة فيها للتيارات التي ترفع الشعارات الإسلامية، فإن اعتماد هذا المصطلح قد يكون تهمة لقائلها بأنه لا يزال يؤيد النظام العلماني السابق، وعليه فمن المستغرب جداً أن يتوجّه الناطق الإعلامي باسم “القوات اللبنانية” شارل جبّور في الخطاب لأحمد الشرع(أبو محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة المصنفة دولية منظمة ارهابية) بتسميته “رفيقاً” لتعارض مكنونات هذه الصفة مع ما يعلنه الجولاني من اتجاه إسلامي مناقض للعلمانية في تشكيل النظام الجديد في سورية.

وإذا أسقطنا ارتباط المصطلح بالنزعة اليسارية والاشتراكية والصبغة الشيوعية للكلمة، يبقى ارتباط “الرفيق” بالزمالة والتحالف والالتقاء على الجوامع المشتركة بين الفريقين المتناقضين في الشكل والمنسجمين في الخلفية والأهداف والتوجّه العام، فالاثنان يشتركان في العداء لنظام آل الأسد في سورية ولإيران، وتبعيتهما للتوجيه الأمريكي ومهادنة “الإسرائيلي” من جهة ثانية، وتبقى معضلة العلاقة مع التركي الذي يقف وراء دعم الجولاني ومدّ أذرع أنقرة للسيطرة على الداخل السوري، بينما يتّسم موقف “القوات اللبنانية” بالتردّد حيال هذا الأمر ارتباطاً بالموقف التاريخي للمسيحيين من الحكم العثماني في لبنان.

ويمكن رصد نوع آخر من المشتركات بين الفريقين يعود إلى حقبة تاريخية، خبرها “القواتيون” جيداً في ثمانينيات القرن الماضي، حين أعلن بشير الجميل ومعه سمير جعجع وأركان ميليشياته الحرب على الأحزاب المسيحية تحت عنوان “توحيد البندقية” وجمعها في إطار واحد تحت مسمّى “القوات اللبنانية”، مع ما رافق هذه الحرب من ارتكاب المجازر المروّعة وسلسلة اغتيالات طاولت الكثير من الشخصيات والقيادات السياسية والعسكرية لتطويع المسيحيين بشكل خاص وفرض حزب جديد إطاراً حاكماً وأوحد مهما كلّف ذلك من ثمن دفعه اللبنانيون ولا يزالون يدفعونه تحقيقاً لنزعات تسلّطية ضيقة.

أما في حالة الجولاني، فعلى الرغم من اجتماع العديد من الفصائل ذات الاتجاه الإسلامي تحت راية “هيئة تحرير الشام” بدعم تركي واضح وتوجيه مباشر من دوائر القرار والاستخبارات في أنقرة وتالياً من الدوحة، فإنه وبعد إسقاط الأسد كهدف جامع أكبر، برز تحدّ محوري أمام الرجل لتوحيد هذه الفصائل تحت رايته وحكمه، حيث بدأت التناقضات تطفو على السطح في ما بين هذه الفصائل اعتراضاً على قراراته المستجدّة التي تلغي كياناتها الخاصة عبر الانضواء في تشكيل واحد تحت إمرة وزارة الدفاع، وهذا ما قد يدفعه باتجاه ضرب المعترضين بالقوة، خصوصاً أن بعض الفصائل أعلنت جهاراً تمرّدها وعصيانها للأوامر.

ولا نغفل المعضلة الأخرى المتمثّلة بقوات “قسد” (قوات سورية الديمقراطية) ذات الطابع الكردي في العموم، والمدعومة من السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وهي تسيطر على مناطق الشمال – الشرقي حيث مصافي النفط السوري الذي ينهبه الأمريكيون “على عينك يا تاجر”، ولا يمكن حلّ هذه المعضلة وفق التوجّه التركي إلا باجتثاث الأكراد واستعادة السيطرة على هذه المصافي، خصوصاً بعد توقف الإمداد النفطي من العراق وإيران، وفتح الطريق أمام مدّ أنبوب النفط والغاز القطري عبر سورية إلى الموانئ التركية ومنها إلى أوروبا، ويبدو حتى الآن أن المحاولات الرامية إلى استيعاب الأكراد ضمن النظام السوري الجديد لن تؤتي أكلها نظراً لرفض “قسد” الذوبان في المنظومة العسكرية السورية من جهة، ولرفض أنقرة أي تواجد كردي مسلّح في سورية مهما كان شكله ونوعه وحجمه.

ينبئ مستقبل سورية بحروب داخلية طاحنة لن يجد فيها البلد طريقه إلى الاستقرار، حتى لو جاءت المعالجات على شكل تقسيم أو كانتونات شبه مستقلّة بحدود متداخلة، وسيجد “الرفيق” أبو محمد الجولاني نفسه أمام كيان مهتزّ حافل بالهزات الداخلية، في حين سيعمل “الرفاق” من الأتراك والصهاينة على تثبيت وجودهم على الأرض السورية وشرذمتها بين مشروع “إسرائيل الكبرى” الطامح إلى ضم الأردن والعراق، وبين السعي لاستعادة السلطنة العثمانية غير البعيدة عن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” كما سبق أن أعلن الرئيس التركي أردوغان نفسه.

والحال هذه، أين سيتموضع الرفيق جعجع في ظل هذين المشروعين؟! خصوصاً أن أصواتاً بدأت تتصاعد من كنف الجولاني تطالب بـ”استعادة” لبنان باعتبار أنه في الأصل إقليم سوري، ولا يبعد أن تكون هذه المطالبة تهدف في المدى القريب إلى التعويض عن الأراضي السورية التي ينوي أردوغان السيطرة عليها وضمّها إلى الكيان التركي الكبير، ولا نغفل هنا اعتبار أنقرة الذي يرى في لبنان وديعة تركية تاريخية بما يتطلّب مستقبلاً التفكير في كيفية إعادته إلى بيت طاعة “الباب العالي”.

استعجل الرفاق في لبنان كثيراً في تسليف الفاتحين الجدد مواقف ارتجالية مجّانية، وبدوا كالجائعين المفلسين الذين دعوا إلى وليمة، فاستغرقوا في الأكل حتى أدركتهم التخمة، فلم ينالوا سوى الألم والارتباك المعوي والذهني، والأدهى من ذلك أنهم فوجئوا عند الخروج أنهم مضطرون لدفع الفاتورة الكبيرة، والفاتورة نفسها سيدفعها الجولاني أيضاً بأثمان غالية على حساب وحدة سورية واستقرار شعبها وحفظ ثرواتها وأمنها.

محمد الحسيني – موقع العهد

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد