لم تكن الأسابيع الأولى من العام 2024 أفضل من سابقتها، إذ ظل العالم يعاني من صراعات دامية راح ضحيتها الآلاف الذين لم تزهق أرواحهم بنيران الأسلحة الثقيلة فحسب، إذ كان لتدمير البنى التحتية وقطع إمدادات الإغاثة أثر بالغ في جعل تلك الصراعات أكثر قسوة ودموية، وهو الأمر الذي كانت شبكة الإنترنت جزءاً أصيلاً منه، ليس فقط بشن الهجمات السيبرانية أو بث الدعاية والتضليل، وإنما باستهداف مواردها وقطع خدماتها سواء بفعل تعطيل محطات الكهرباء أو الاستهداف المباشر لأبراج الاتصالات. ما جعل العزلة الرقمية سلاحاً في أيدي القوى المتصارعة لممارسة الضغوط والتعتيم على الانتهاكات الجسيمة، وجعل استهداف خطوط الاتصالات لا يقل أهمية عن استهداف الثكنات العسكرية والمنشآت الحيوية.
وبالمقابل، كان التواصل عبر الإنترنت سبباً في حشد التبرعات وتوزيع الإمدادات والإبلاغ عن الضحايا وإنقاذهم وتخفيف آثار تلك النزاعات على حيواتهم، ما يؤكد أهمية الدفاع عن الحق في الاتصال في مناطق الصراعات المسلحة والحروب.
سلاح العزلة الرقمية:
لا يقتصر توظيف تكنولوجيا الاتصالات بالصراعات المسلحة على تطوير الأسلحة الذكية والهجمات الإلكترونية وعمليات الاختراق المتطورة فحسب، وإنما بات استهداف شبكات الاتصالات واعتماد العزلة الرقمية لمناطق الصراع سلاحاً فعالاً يتم توظيفه بأوقات النزاعات.
وتُعد الحرب في غزة من أبرز الشواهد على استخدام الإنترنت كعنصر للضغط والعزل والترهيب في مناطق الصراعات المسلحة، إذ كانت انقطاعات الشبكة سمة رئيسية خلال الأحداث وانخفضت كفاءة الشبكة إلى 5% فقط ببعض المناطق. ولم تكتف إسرائيل بتدمير 80% من البنية التحتية لقطاع الاتصالات بغزة، عبر استهداف أبراج الاتصالات الخلوية وكابلات الألياف الضوئية ومكاتب مزودي خدمات الإنترنت، وإنما اتجهت إلى الاستهداف الصاروخي لطواقم العمال المدنيين الذين يحاولون إصلاحها، وكذلك المواطنين الذين يحاولون التقاط بث الاتصالات، إذ أعلن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنه وثق تعمد قوات الجيش الإسرائيلي قتل ما لا يقل عن سبعة مدنيين فلسطينيين في أقل من أسبوع خلال محاولتهم التقاط بث الاتصالات والإنترنت.
وفي الصراع المسلح بالسودان، عانت البلاد من انقطاعات متتالية كان أطولها في فبراير 2024، إذ عانت البلاد من الشلل الكامل للقطاعات المختلفة والخدمات العامة والنظم المصرفية بسبب الانقطاع الكلي لشبكات الاتصالات والإنترنت، ما زاد من عزلة السكان وعرقلة وصول المساعدات وصعوبة تواصل الأفراد للاطمئنان على ذويهم.
ولا يُعد توظيف سلاح العزلة الرقمية في مناطق الصراع بالشرق الأوسط استثناءً من بين دول العالم التي تشهد استهدافاً منظماً للاتصالات كجزء من الضغوط التي تتم ممارستها على الأطراف المعادية، ففي أوكرانيا، تم اعتبار قطع الإنترنت جزءاً من الاستراتيجية الهجومية الروسية سواء بالاستهداف المباشر لأبراج الاتصالات أو نتيجة لتدمير لبنى الخدمات الأساسية، وهو ما تسبب في الانقطاع الجزئي أو الكامل للخدمة.
وبالمقابل، تلقت مؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة (ICANN) الطلب الأول من نوعه باقتراح أوكرانيا إزالة المجالات الروسية عن الإنترنت باعتبارها مصدراً للدعاية والمعلومات الخاطئة التي تتسبب في جرائم ضد الأوكرانيين، وهو ما قوبل بالرفض إلا إنه يعكس رغبة متنامية في تسييس الإنترنت وتوظيفه في الصراعات واستخدام أسلحة المنع والحجب لممارسة الضغوط وفرض العقوبات خلال فترات الصراع لما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية خطرة.
كما تُعد دولة الهند الأبرز عالمياً من حيث انتهاج سياسة قطع الإنترنت في مناطق الصراعات، فخلال العام 2022 قامت منظمة “أكسس ناو”، للدفاع عن الحقوق الرقمية للمستخدمين المعرضين للخطر، برصد 187 انقطاعاً للإنترنت كان بينها 84 في الهند وحدها، منها 49 انقطاعاً في الجزء الذي تديره الهند من إقليم كشمير الذي سحبت تمتعه بالحكم الذاتي.
ولا تعكس تلك الحالات سياسات فردية أو استثناءات وإنما تُعد جزءاً من التوظيف الممنهج لقطع الإنترنت في الصراعات حول العالم، إذ رصدت منظمة مجتمع الإنترنت مطلع العام الجاري قيام الحكومات وجهات فاعلة أخرى بقطع الإنترنت أو منع الوصول لخدماته بنحو 124 مرة في 18 دولة منها 55 مرة خلال أحداث الاضطرابات، وهو ما امتد من بضع ساعات إلى أسبوع.
الإغاثة عبر الشبكة:
في يوليو 2023، أثار الكشف عن فيديو لامرأتين يتم عرضهما عاريتين من قبل حشد من الرجال في منطقة مانيبور بالهند غضباً بين المنظمات الحقوقية التي ربطت بين تأخر الإفصاح عن الفيديو لأكثر من شهرين وقرار قطع الإنترنت في المنطقة التي شهدت صراعاً عرقياً بين شعب ميتي وشعب كوكي القبلي المسيحي، كما تكرر الأمر نفسه في إثيوبيا التي تعتمد إغلاقاً مستمراً للخدمة في مناطق الصراع المسلح، إذ يستمر قطع الإنترنت عن إقليم تيغراي منذ نوفمبر 2020 أي لمدة 1199 يوماً، كما تعتمد إغلاقاً متواصلاً للشبكة في منطقة أمهرة منذ اندلاع النزاع المسلح بين القوات الفدرالية ومقاتلي فانو، وسط تزايد حالات القتل والاعتداءات وإعلان منظمات دولية قلقها من ارتكاب جرائم متزايدة ضد المدنيين دون القدرة على الإبلاغ عنها أو تقديم المساعدة للضحايا أو حتى الحيلولة دون وقوعها بسبب قطع الإنترنت.
تؤشر تلك الأحداث على القيمة الإيجابية التي يقدمها الاتصال بالإنترنت في مناطق الصراع والتخفيف من آثاره، والأدوار الفاعلة للشبكة في حماية أرواح المدنيين وتخفيف آثار النزاعات على حيواتهم، إذ تعمل المواقع الإخبارية والمنصات الإلكترونية للمنظمات المدنية والإغاثية وشبكات التواصل الاجتماعي على توفير المعلومات بكثافة وسرعة تساعد سكان مناطق النزاعات على النجاة أو الحصول على المساعدة أو الإغاثة في أوقات الطوارئ أو حتى الاستجابة لتحذيرات الإخلاء والتعريف بالممرات الإنسانية، فضلاً عن توفير الشبكة قنوات التواصل اللازمة لاطمئنان الأفراد على عائلاتهم والتواصل مع ذويهم، هذا إلى جانب توفير الفرصة لبث الصور والفيديوهات من قلب الأحداث بما قد يحول دون ارتكاب الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، ويساعد وسائل الإعلام الاحترافية خاصة الدولية على أداء مهامها والوصول لمصادر المعلومات، الأمر الذي يفرض حماية ضمنية للمدنيين باستخدام ضغوط الكشف والإدلاء، هذا بخلاف الحد من الدعاية العسكرية عن طريق إتاحة مصادر الأخبار البديلة.
ويساعد الإنترنت أيضاً على جمع التبرعات وحشد الحملات الإغاثية وتوجيهها بشكل أكثر عدالة وكفاءة، ففي السودان على سبيل المثال، دشن المواطنون هاشتاغ #حوجة_الخرطوم على تويتر لتوفير الإمدادات الإغاثية من الطعام والملبس والدواء وكذلك المأوى بمناطق القتال، إلى جانب تدشين المنصة الإلكترونية حوجة ووفرة لاستقبال طلبات الإمدادات وعروض التبرع كذلك، كما استخدم السودانيون في المهجر موقع وهاشتاغ #KeepEyesOnSudan لمشاركة المعلومات وتقديم التبرعات والمساعدة.
ولعل تلك الأهمية هي ما دفعت الأمم المتحدة لاعتبار الدفاع عن استمرار الاتصال عبر الإنترنت جزءاً من حقوق الإنسان ولاسيما في أوقات الصراع، وفي يونيو 2022 أصدرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان تقريراً بعنوان “حجب الإنترنت: الاتجاهات والأسباب والتداعيات القانونية” حذرت فيه من الأضرار الجسيمة التي تلحق بالحياة اليومية وحقوق الإنسان لملايين الأشخاص بسبب حجب الإنترنت، والذي أفرد جانباً لتداعيات الحجب على العمل الإنساني في المناطق المتضررة من النزاعات من حيث صعوبة الاتصال مع جهات تقديم الخدمات الطبية، وكذلك تزايد أعمال العنف بفعل غياب أدوات التوثيق والإبلاغ، وتضمن التقرير جملة من التوصيات الموجهة للدول والشركات والوكالات الإنمائية والمجتمع المدني لمنع سياسات الحجب ومقاومة تنفيذها، والتخفيف من آثارها وتأكيد الدور الكبير لاستمرار الاتصالات في حماية الأرواح وتخفيف توابع النزاعات.
شبكات بديلة:
برز اسم شركة ستارلينك المقدمة لخدمات الإنترنت الفضائي والمملوكة للملياردير الأمريكي إيلون ماسك خلال الصراعات المسلحة بأماكن متفرقة من العالم، كوسيلة فعالة لإعادة الاتصال بالشبكة العنكبوتية العالمية، ولاسيما في الحرب الروسية الأوكرانية التي قدمت خلالها الشركة آلاف المحطات التي أتاحت اتصالاً غير محدود للبيانات من أي مكان بالبلاد عبر شبكة من الأقمار الاصطناعية في مدار أرضي منخفض، تتيح الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة، وبما يسمح للحكومة بمواصلة الاتصالات وتجاوز الخوادم الروسية، أخذاً في الاعتبار التحديات التي تواجه تلك البدائل وفي مقدمتها التكلفة المادية، إذ بلغت تكلفة توفير الإنترنت الفضائي في أوكرانيا ما يقرب من 20 مليون دولار شهرياً بإجمالي 400 مليون دولار حتى نهاية 2023.
وفي غزة، أعلنت حكومة دولة الإمارات في فبراير 2024 أنها ستستعين بخدمات ستارلينك للاتصال عبر الأقمار الاصطناعية لتوفير خدمة الإنترنت عالي السرعة بالمستشفى الإماراتي الميداني جنوب غزة بهدف توفير الاستشارات الطبية عبر الفيديو في الوقت الفعلي، بالمشاركة مع عدد من المؤسسات الطبية العالمية.
ولا تُعد خدمات الإنترنت الفضائي التي تتيحها ستارلينك هي البديل الوحيد لقطع اتصالات الإنترنت الأرضية، إذ يطور منافسون آخرون خدمات للتقنية ذاتها مثل: شركات وان ويب وأمازون، وأعلنت الصين أيضاً تطويرها مشروعاً لشبكة من الأقمار الاصطناعية ذات النطاق العريض، كما تتوفر بدائل تقنية أخرى للإنترنت الفضائي مثل: الاعتماد على الشبكات المتداخلة أو الشعرية اللاسلكية (Mesh networking)، وكذلك مشروع بالونات لوون التابعة لشركة ألفابايت والتي توفر الاتصال بالإنترنت من طبقة الستراتوسفير بالغلاف الجوي ويتم تسييرها بالطاقة الشمسية وتوجيهها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي وتُعد فعالة لتوصيل الإنترنت في مناطق الإغاثة وتم تطبيقها في بيرو وكينيا.
والحقيقة أن البدائل التقنية لا تُعد المحاولات الوحيدة للحفاظ على استمرارية الاتصال بالإنترنت في أوقات الصراع، وهو ما لفت إليه منتدى حوكمة الإنترنت في أكتوبر 2023، الذي انعقد بكيوتو في اليابان، إذ اقترح دمج مؤشرات إغلاق الإنترنت في إجراءات التنبؤ بالأزمات ومراقبتها بما يحسن استجابة الجهات المسؤولة لها، ووضع الاستراتيجيات اللازمة لمواجهتها، مع تأكيد أهمية حوكمة القطاع الخاص في حماية الإنترنت من الضغوط السياسية، وإنشاء إطار رقمي قوي ومرن يضمن التشغيل السلس لأنظمة الاتصالات والمعلومات المهمة. مع اقتراح تطوير تفسيرات وتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني لتشمل توظيف الفضاء الإلكتروني وقطع الإنترنت خلال فترات الحروب والصراعات، وفرض العقوبات على الأطراف التي تتعمد قطع الاتصالات وتعريض حياة الأفراد للخطر.
والحقيقة أن توفير البدائل التكنولوجية لقطع خطوط الإنترنت لا يُعد حلاً طويل الأمد لحماية الحق في الاتصال بأوقات الصراع، أخذاً في الاعتبار تسييس تلك الحلول ذاتها بمنحها أو حجبها وفقاً للمواقف السياسية لموفريها، إذ تتحمل الأطراف المختلفة مسؤولية سياسية وإنسانية للدفاع عن حقوق الأفراد في وصول آمن للاتصالات السلكية واللاسلكية ومصادر المعلومات الرقمية، وهو ما تضطلع به الحكومات نفسها الملتزمة بالوفاء بتعهداتها والتقليل من تبعات الصراعات المسلحة قدر الإمكان.
هذا جنباً إلى جنب مع المنظمات الدولية والوكالات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني، فضلاً عن دور شركات التكنولوجيا في المناطق المتاخمة بتقوية نطاق البث وقدرات الشبكات على التغطية، وتعزيز تأمينها ضد القرصنة أو الاختراق لمنع استخدامها لأغراض مضادة، هذا بخلاف الالتزامات طويلة الأمد المتعلقة بالتعاون لإعادة إعمار البنية الاتصالية المتضررة، وتأمين الوصول لبدائلها من الحلول غير التقليدية.
د. فاطمة الزهراء عبد الفتاح – مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.