لم يتوقّف حكّام أبو ظبي عن التباهي والتفاخر بمسلسل التطبيع المخزي، والذي أبرمته حكومة الإمارات في عهد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب السابقة. فمنذ أن شنّت دولة الاحتلال الإسرائيلي مؤخَّراً عدوانها على الشعب الفلسطيني في مدينة القدس المحتلة وحيّ الشيخ جراح وقطاع غزة، سارعت دولٌ متعدِّدة في المنطقة إلى إدانة الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، والدعوة إلى تجريم التطبيع، والتراجع عنه فوراً، نظراً إلى الخطر الكبير الذي لحق بالقضية الفلسطينية، وشجَّع الاحتلال على التجرُّؤ على ارتكاب مزيد من الجرائم وتدنيس المقدَّسات الإسلامية، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، إلاّ نظام الإمارات ومن يقفون معه في محور التطبيع في المنطقة، لم يغيّروا أو يبدّلوا من المواقف.
لم تتوقّف جريمة التطبيع هنا. وأمام جرائم الاحتلال الوحشية، سارعت الإمارات طوال أحد عشر يوماً من العدوان على قطاع غزة إلى التغطية على الجرائم الإسرائيلية، وتحميل فصائل المقاومة الفلسطينية مسؤولية ما آلت إليه الأحداث من مواجهات عسكرية مسلَّحة. وأمعن حكّام الإمارات في الإسراع في توثيق خطوات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ أعلنت إدارة التجارة في وزارة الاقتصاد الإسرائيلية أنها ستفتتح مكتباً تجارياً جديداً لها في أبو ظبي مطلع صيف العام الجاري، سيكون مسؤولاً عن العلاقات الثنائية، وتعزيز الروابط التجارية، والعمل على جذب الاستثمارات من الإمارات إلى “تل أبيب”، كما تعتزم تطوير علاقاتها بالإمارات في قطاعات متعددة، كالطيران والنفط وتصدير حلول الطاقة وصادرات الماس وغيرها من المجالات.
لم تتوقَّف حالة الاندماج الكامل بين الإمارات ودولة الاحتلال، فلقد قرَّرت الإمارات، في خطوة إضافية، جرَّ المجتمع الإماراتي إلى التطبيع في مجال التعليم، بحيث وقّع السفير الإماراتي لدى الاحتلال مؤخَّراً اتفاقية مع وزارة التعليم الإسرائيلية لتبادل البعثات العلمية الطلابية في مجال التعليم العالي.
ما تقوم به الإمارات اليوم، على الأصعدة التي ذكرتُ، ليسَ تطبيعاً عادياً، وإنما هو هرولة غير مسبوقة نحو الاندماج الكامل في مشاريع “دولة” الاحتلال، ويُعَدّ جنوناً سياسياً غير مسبوق في الانصياع لحالة من التصهين مع “دولة” الاحتلال، وهو حصيلة علاقات سرية استمرت سنوات طويلة، وثمرة من ثمار المحاولات الإماراتية لتوثيق العلاقات بالغرب من جهة، وبالولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من جهة أخرى.
المسألة لم تعد، بين الإمارات و”دولة” الاحتلال الإسرائيلي، قائمةً على علاقات سياسية واقتصادية مجرَّدة، بل تعدّى الأمر أكثر من ذلك كثيراً، وأصبحت المسألة صهينةً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وعلاقات أمنية ورياضية ودينية وغيرها. هذه العلاقات المشبوهة كان وسيكون لها تأثيرٌ سلبي في كل موقف عربي تجاه القضية الفلسطينية. وإن استمرار مثل هذه الطعنات الغادرة لدول التطبيع سيُلحق الضرر الأكبر بالقضية الفلسطينية، سواءٌ كان علنياً أو سرياً.
على الرغم من سوداوية المشهد وحالة الخذلان العربي من سلوك محور التطبيع تجاه الشعب الفلسطيني، فإن المقاومة الفلسطينية، في معركة “سيف القدس”، وجَّهت ضربة قوية إلى معسكر التطبيع، وأحدثت صدمة كبيرة لدى عدد من الأنظمة، هذا غير الخسارة التي مُنِيت بها تلك الأنظمة، أخلاقياً وسياسياً، وفشل كل محاولات الشيطنة والتشويه للمقاومة الفلسطينية. وهذا الانتصار للمقاومة يُسجَّل لمحور بالمقاومة بأكلمه، والذي لم يتوانَ لحظةً في دعم المقاومة وتطوير ترسانتها، لتقف قوية صُلبة في وجه الاحتلال ومَن يصطف في صفِّه.
حالة التعاطف العالمي مع الشعب الفلسطيني ومقاومته ارتفعت أضعافاً بعد معركة “سيف القدس”، التي فرضت فيها المقاومة معادلة جديدة، فاهتزَّت الدنيا، وظهرت حالة من الاصطفاف الشعبي على الرغم من محاولات التطبيع التي مورست خلال السنوات.
الشعب الفلسطيني لم يعد يراهن على الموقف العربي الرسمي، وباتت المواقف الرسمية أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى إعادة نظر قبل فوات الأوان. وثمة تساؤلات مهمة يجب أن تُطرح أمام هذه المعادلات الجديدة التي فُرضت من خلال صمود الشعب الفلسطيني وقوة المقاومة ومحورها وتماسكهما في المنطقة. فلماذا لَمْ يُعَدِ النظر في مسلسل التطبيع الذي جرى؟ ولماذا لم يتوقف مسلسل العار الذي يُصِرّ بعض الأنظمة على الاستمرار في السير في خطاه؟ أين الجامعة العربية التي أصبح المال الخليجي مسيطراً عليها؟! لماذا لم يُطرَد سفراء “دولة” الاحتلال من الدول العربية حتى اللحظة؟ والأهم من ذلك: أين الأنظمة العربية من دعم صندوق القدس المحتلة ودعم صمود المقدسيين؟
أعتقد أنه حان الوقت، أمام هذا المشهد الجديد الذي رسمته المقاومة، لأن تجري مراجعات للمواقف، وتُترجَم قرارات دعم الفلسطينيين في مواقف، ويوضَع حد للصلف الإسرائيلي في المنطقة.
شرحبيل الغريب – الميادين
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.