مقدمة
مع بدء حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في السابع من أكتوبر 2023، سعت دولة الاستعمار الصهيوني لاستهداف جميع مكونات المجتمع الفلسطيني، متجاوزة بذلك التصنيفات الإنسانية والأخلاقية كافة، ليكون معيار الاستهداف، بصورة أساسية، الهوية والانتماء الفلسطيني، كون هذه الدولة عبارة عن نظام استعماري تقوم بنيته على مبدأ الإبادة؛ هذا المبدأ المبني على عدة مستويات، لعل أبرزها ذلك المرتكز على الإبادة الفيزيائية من خلال فرض مزيد من العنف المكاني، أو عمليات التهجير القسري والمجازر الجماعية، بالإضافة إلى الممارسات التي تستهدف مناحي الحياة اليومية للفلسطيني.
كان تأثير هذه الممارسات كبيراً في المرأة والفئات المهمشة الأُخرى، انطلاقاً من فرضية أن النساء يعانين من الاستعمار أكثر من الرجال،[1] فكان لهنّ نصيب كبير من حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة، حيث سُجّل سقوط أكثر من 7200 شهيدة من إجمالي عدد الشهداء البالغ 25,700 شهيد، و4700 امرأة وطفل ضمن عدّاد المفقودين حتى اللحظة،[2] عدا عن آلاف الإصابات المُباشرة بالقصف المكثف، إذ هناك 31.441 امرأة في قطاع غزة،[3] ضمنهن 546 ألف امرأة في سن الإنجاب (15-49 عاماً)، وهناك أكثر من 2784 امرأة أصبحن أرامل وربات أسر جدداً بعد وفاة شريكهن، وكل ساعة يُقتل اثنان من الأمهات، وكل ساعتين تُقتل 7 أمهات في ظل استمرار حرب الإبادة على القطاع.
تُظهر هذه الإحصاءات أن تأثيرات حرب الإبادة تركزت، بصورة كبيرة، على النساء كونهنّ يحملن الجيل القادم، ولهن دور مركزي في النضال والقضية الفلسطينية من خلال إنجاب الجيل الفلسطيني القادم وتنشئته، وهذا ما فرض على المرأة الفلسطينية أدواراً متنوعة، كضحية ومناضلة وأم تسعى للحصول على متطلبات الحياة التي استخدمتها دولة الاستعمار كأداة من أدوات الحرب تجاه الفلسطينيين في غزة.
تسلط هذه الورقة الضوء على معاناة النساء اليومية في أثناء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر.
خلفية تاريخية
تعيش المرأة الفلسطينية في سياق واقع استعماري لطالما كانت شهيته مفتوحة على قتل النساء الفلسطينيات، إذ كان يرى فيهنّ عدواً يحمل في رحمه الأجيال الفلسطينية القادمة، وأنهنّ قادرات على المقاومة بشكل دائم من خلال إعادة تشكيل “العائلة” كونها البنية التقليدية والأساسية للمجتمع الفلسطيني، وبالتالي لا بد من إبادتهن وانتهاك أجسادهن، وهذا ما دفع الاستعمار إلى بناء منظومة من العنف التمييزي قائمة على أساس الجنس والنوع الاجتماعي لاستهداف جنسانيتهن وأنوثتهن، الأمر الذي ظهر في أحد تصريحات أريئيل شارون الذي قال: “المرأة الفلسطينية والطفل خطران أكثر كثيراً من الرجل، لأن بقاء طفل واحد معناه استمرار عدة أجيال.”[4] وكما حدث مع النساء اللواتي بُقرت بطونهن في مجزرة دير ياسين سنة 1948، ومع النساء اللواتي كن يعملن في قطاف الزيتون في مجزرة كفر قاسم، وما تلا ذلك من ممارسات استعمارية طوال السنوات الماضية استهدفت مناحي حياتهن كافة، من خلال الاعتقال والقتل وتجريدهن من حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى وجود نظام اجتماعي ذكوري قائم على اللامساواة الجندرية، كل هذا تشابك بشكل أو بآخر مع أنظمة القمع المضطهِدة للنساء، الأمر الذي فرض عليهن جملة من التحديات والصعوبات من خلال تغيير الأدوار التي تؤديها النساء داخل المجتمع وفي مواجهة النظام الاستعماري لمواجهة هذا القمع.
وفي خصوصية المجال الجغرافي الذي فرضته سياسات الحصار والإغلاق من جانب سلطات الاستعمار على غزة منذ حزيران/ يونيو 2007، عانت نساء غزة بشكل كبير جرّاء هذا الواقع، الأمر الذي فرض عليهن تحدياً جديداً في ظل واقع معقد تتشابك فيه الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، وترتفع فيه معدلات الفقر والبطالة، إذ سُجل وجود فجوة بالغة بمقدار 11.1 نقطة مئوية لمصلحة الأسر التي على رأسها إناث بنسبة بلغت 30.6% في مقابل 41.7%[5] للأسر التي على رأسها ذكور. كما أنه كان يوجد أكثر من 1000 أرملة يعملن على إعالة أسرهنّ بسبب استشهاد أزواجهن خلال الحروب السابقة على قطاع غزة.
نساء غزة في مواجهة حرب الإبادة
في تصنيف الحروب الاستعمارية، فإن حروب مكافحة التمرد “التي عادة ما تسمى بالأنثوية” تتمحور، في الأساس، حول استهداف السكان والبنى الاجتماعية، وبالتالي تحويل كل أحياء المدينة إلى ساحة معركة ومحط استهداف مركزي،[6] ما يعني أن مجالات الحياة الخاصة التقليدية، كالمنازل والمستشفيات والمدارس، والتي تُعتبر مجالات طمأنينة وأنثوية كانت هي الشاهدة على قتل وإبادة النساء في غزة.
وفي حروب مكافحة التمرد التي تنطلق من فرضية أن النساء مركزيات في صنع السلام كونهن أكثر نبذاً للعنف وتغلب عليهن العاطفة، وأكثر تقبلاً لثقافة التسامح والحوار، ومن السهل إشراكهن في عمليات بناء السلام،[7] وبالتالي تفكيك البنى التحتية لمجتمع المقاومة، ومع بدء الاجتياح البري واقتحام الأحياء السكنية والمنازل، أعادت إسرائيل استخدام سياساتها المتمثلة في اعتقال جميع الرجال، والإبقاء على النساء والأطفال في محاولة لتفكيك دورهن وصمودهن من خلال إجراء حوارات تدفعهن إلى نبذ المقاومة، أو إجبارهن على ذلك بقوة السلاح، وتصويرهن، وابتزازهن، أو من خلال إقناعهن بأن إسرائيل ستقدم لهن الأمان، إلاّ إن النساء رفضن الخضوع أو الانسياق لأوامرهم، الأمر الذي أدى إلى اعتقالهن، أو قتلهن، أو اختطاف أطفالهن، أو قتل أزواجهن وعائلاتهن، وخصوصاً في مناطق شمال غزة ومَنْ بقي فيها في سبيل تكريس حالة من الصمود المجتمعي من خلال رفض مخطط التهجير القسري الذي مارسته دولة الاحتلال.
ومع بدء الاستهداف الإسرائيلي لقطاع غزة في السابع من أكتوبر، بدأت تخرج إحصاءات وزارة الصحة بشأن أعداد الضحايا، التي اتضح أن في معظمهم من النساء والأطفال. وبحسب إحصاءات الوزارة (24 كانون الثاني/يناير)، فإن 70% من إجمالي عدد الضحايا، بمَنْ فيهم شهداء وجرحى، هم من الأطفال والنساء، الذين جرى استهدافهم داخل منازلهم أو في أماكن لجوئهم، مثل المشافي ومدارس الإيواء وغيرها. وفي شهادة للصحافية مها أبو الكاس تقول: “تم استهداف المنازل المجاورة لي بدون سابق إنذار ما أدى إلى إصابتي أنا وأفراد الأسرة. الدرع والخوذة الخاصين بي تحت الركام، توجهت بعد ذلك للاستمرار بالتغطية الإعلامية.”[8]
وبحسب ما وثق المرصد الأورومتوسطي، فقد جرى تنفيذ إعدامات ميدانية للنساء، ومنهن مسنات، في مناطق شمال غزة خلال الاجتياح البري[9] مع انتشار القناصة التي كانت تخترق جدران المنازل، وهذا ما أكدته شهادة ميدانية عن استهداف سيدة بقناصة الاحتلال في أثناء تجهيز سفرة الطعام داخل منزلها في منطقة اليرموك: “كنت بداخل بيتي وبفكر أنه شوية أمان، يعني حتى ما طلعت على السطح لأولع نار أطبخلهم عشان القناصة والقصف، بس استهدفوني وأنا بجهز بدي أحط مفرش نايلون ليأكلوا عليه الأولاد.”[10] كذلك جرى استهداف سيدة بقذيفة دبابة في أثناء نزوحها من منطقة حي الدرج وسط غزة عقب تساقط قذائف المدفعية على مدرسة الإيواء ما أدى إلى استشهادها على الفور.[11]
ولا تقتصر الحروب الأنثوية على استهداف الأجساد فحسب، بل تعمل أيضاً على استهداف “تضاريس المجتمع” بما في ذلك العلاقات والبنى والهياكل الاجتماعية في أطرها التقليدية، أي “القرابة والنسب”، إذ أفرزت هذه الحرب عدداً كبيراً من النساء الأرامل واليتامى. وتقول دعاء بدوي في شهادتها في إطار مشروع “أصوات النساء من غزة” ما يلي: “ما بين أن يموت أحباؤك واحداً تلو الآخر، أو أن تُمحى من الوجود أنت وكل من هو من صُلبك. أو لعلك بنهاية المطاف تنجو بنصف جسد، بنصف روح، بنصف قلب.”[12]
كل هذه الأمور فرضت على هؤلاء النساء أدواراً اجتماعية جديدة في إعالة الأسرة والأبناء، وحمايتهم وتوفير الطعام والغذاء لهم في ظل عدم توفرهما، عدا عن الأعمال الشاقة الواقعة على كاهلهن ولا تتناسب مع طبيعة أجسادهن الأنثوية وبنيتها، في ظل انعدام جميع مقومات الحياة، مثل تقطيع الأخشاب لإعداد الطعام، أو الوقوف في طوابير طويلة لنقل المياه، بالإضافة إلى المخاطرة العالية بحياتهن لتوفير لقمة العيش. وبحسب المفهوم الشائع مجتمعياً، فإن النساء دائماً ما يكنّ هن المتضررات الأوائل، والمفروض عليهن أن يكنّ متماسكات قدر المستطاع ليحافظن على استقرار الأسرة،[13] وفي هذا الإطار تقول مها أبو الكاس: “الخوف والرعب اللي بنمر فيه واللي بمروا فيه أطفالنا شيء غير طبيعي، حتى إحنا بطلنا قادرين نمثل قدام الأطفال إنه إحنا طبيعيين وما بنخاف، لأنه هالمرة مختلفة.”[14]
ناهيك عن أن عدداً كبيراً من النساء يقمن بهذه الأعمال وهن مصابات، أو فقدن أولادهن وعائلاتهن خلال الحرب، وهذا ما أظهرته مقابلة مع سيدة بقيت في مناطق شمال غزة بعد استشهاد زوجها، والتي قالت: “أصبتُ بيدي بحروق متوسطة بعد قصف منزل ملاصق لمنزلنا واستشهاد زوجي، لكنني مضطرة للوقوف في طابور لنقل المياه إلى مركز إيواء في مدرسة فهمي الجرجاوي الواقعة وسط غزة، لتأمين أولادي البالغ عددهم 4 أطفال.”[15] وتقول سيدة أُخرى في شهادة أدلت بها للصحافية سمر أبو العوف: “كنت خايفة لما قربت ع الكفن بس فتحته تعرفت عليها وقلتلها، إنتي أول فرحتي وبكري وأول كلمة ماما كانت منك وأولادك غير أربيهم زي ما ربيتك.”[16]
انتهجت سلطات الاستعمار سياسة استهداف أجساد النساء وبيوتهن وعائلاتهن من خلال “سياسات الإماتة”، بعد حرمانهن من كل ما يمكّنهن من استكمال حياتهن، والقيام بدورهن كأمهات مقاتلات يواجهن حرب الإبادة هذه بالحفاظ على أجسادهن وعائلاتهن من خلال إنتاج العديد من الأنماط المعيشية المقاومة، مثل لجوئهن إلى استبدال الطحين بالقمح، واستخدام النار للطبخ، وغيرها من الوسائل البدائية، بالإضافة إلى الممارسات التضامنية التي أوجدتها النساء والهياكل الاجتماعية ككل، ليتخذن موقعاً جديداً لأنفسهن في المواجهة كونهن أم الأسير أو الشهيد أو المصاب، وليس ضمن النموذج الذي تحاول منظومات الهيمنة والاستعمار فرضه عليهن كنساء مغلوبات على أمرهن، على الرغم من مرارة الظروف القاسية المفروضة عليهن.
النساء وحيز النزوح
أجبرت سلطات الاستعمار آلاف النساء والفتيات على النزوح القسري مشياً على الأقدام مسافة تقدر بـ 22 كيلومتراً وسط كثافة النيران نحو مناطق جنوب غزة، التي ادّعى جيش الاحتلال أنها آمنة، ففرض حيز اللجوء جملة من التحديات الجديدة على النساء، اللواتي لم يجدن أنفسهن في وضع جديد يفتقر إلى ظروف الحياة الآدمية فحسب، بل أيضاً افتقرن إلى آليات الحماية التقليدية لهن.
فقد غيّر حيز النزوح من موقع المرأة، سواء داخل عائلتها أو في سياقها الاجتماعي الأوسع، نظراً إلى إجبارها على القيام بوظائف جديدة فُرضت عليها، في ظل فقدانها السيطرة على أبنائها، وفقدانها خصوصيتها في حيز النزوح، الذي أسقط الحدود الاجتماعية والأسرية إلى حد ما.
كما أن الاكتظاظ الشديد الذي فاق القدرة الاستيعابية لكل حيز نزوح، سواء في الشارع أو المدارس أو داخل منازل الأقارب، وضع النساء وسط حالة كبيرة من الضغط في عدة مواضع، مثل بقائها في الحجاب طوال الوقت، أو التقليل قدر المستطاع من مأكلها ومشربها تفادياً لاستخدام المراحيض والوقوف في صفوف الانتظار أمام أعين الغرباء،[17] وكذلك النوم في كثير من الأحيان على الأرض لتوفير بعض من المساحة أو ما توفر من الفراش والملابس لأطفالهن، وهذا ما أكدته سيدة حامل في شهرها الرابع اضطرت إلى النوم والجلوس طوال الوقت على التراب لعدم وجود متسع لها ولعائلتها في إحدى مدارس دير البلح.[18] وتقول الناشطة الحقوقية هيا أبو ناصر في شهادتها: “لا نملك حتى ثياباً تقينا من البرد القارس. اعتقدنا أن غيابنا عن بيوتنا سيدوم لفترة قصيرة، ولكنه استمر لأكثر من 43 يوماً حتى اللحظة. والأكياس التي حملناها لكي تكفينا خلال رحلتنا للبحث عن مأوى يجب عليها الآن أن تكفينا لأسابيع طوال عجاف.”[19]
كما فرضت هذه الأوضاع على النساء تناول أقراص منع الدورة لقطع الدورة الشهرية في ظل عدم توفر الفوط الصحية، الأمر الذي انعكس سلباً على صحتهن وسبب لهن آلاماً جسدية. فقد كانت أجساد النساء وجنسانياتهن محط الاستهداف الأول بشكل ممنهج، كجزء من منطق الإبادة العرقية والإجلاء اللذين اعتمدهما المشروع الاستيطاني الإسرائيلي،[20] وهذا ما أكدته ثلاث شقيقات نزحن إلى منطقة دير البلح ولم يجدن أي من الفوط الصحية خلال فترات دورتهن المتتالية، ما اضطر والدتهن إلى استخدام خرق من القماش وغسلها بالماء فقط وما توفر من مواد تنظيف بشكل قليل جداً، وإعادة استخدامها مرة أُخرى لهن جميعاً.[21]
ولم تقتصر المعاناة على هذا الحد، بل عايشت النساء الحوامل ظروفاً قهرية صعبة في أثناء ولادتهن بدون تخدير، وبدون أي رعاية صحية أو تعقيم. وفي شهادة ميدانية لسيدة اضطرت إلى الولادة في أحد ممرات مستشفى كمال عدوان خلال حصاره، من دون أي مراعاة لخصوصيتها وحالتها الحرجة، تقول: “ولدت وأنا أسمع زخات الرصاص وقذائف المدفعية في كل مكان بالمستشفى، لم أتوقع النجاة بتاتاً لي ولطفلتي التي حملتها وركضت في الشوارع من بين الدبابات الإسرائيلية المتواجدة في بلدة جباليا شمال غزة، عقب ولادتي بساعتين فقط بعد اقتحام جنود الاحتلال للمشفى”،[22] وفي منشور على فيسبوك تقول علياء الخالدي من غزة: “رغم مرور 20 يوماً على ولادة طفلي الأول، لم أتمكن من الاستحمام أو الاهتمام بنظافة مولودي الشخصية، طفلي ما زال في الهيئة التي ولد فيها، ولا أجد مكاناً أو ماء لتنظيفه من مخلفات الولادة.”[23]
وحتى النساء العاملات في الحيز العام كنّ محط استهداف، مثل الصحافيات والمعلمات ومَنْ كنّ يقدمن الخدمات الطبية في المستشفى، مثل المسعفة وفاء البس التي جرى استهداف منزلها بصورة مباشرة.[24] وتقول المعالجة النفسية عالية أبو مريم: “أعمل أخصائية نفسية منذ ٥ سنوات، لم أنقطع يوماً واحداً عن دعم السيدات المعرضات للعنف، وفي كل حرب أسعى جاهدة أن أقدم جميع الدعم في الاتصال عبر الموبايل، وفقدت زميلاتي الأخصائيات اللواتي أعمل معهن منذ 3 سنوات.”[25]
طريق النزوح والموت
جرى اعتقال عدد كبير من النساء في أثناء سيرهنّ في شارع صلاح الدين نحو الجنوب، حيث تعرضن لممارسات وحشية، فجرى توقيفهن على حاجز نتساريم بشكل عشوائي، وإبقائهن في حفرة عميقة لساعات طويلة مع إبقاء السلاح على رقابهن ورؤوسهن، وهذا ما أكدته طبيبة امتياز استدعاها أحد الجنود بشكل عشوائي خلال مرورها، وبعد معرفته بأنها كانت ضمن الطاقم الطبي المحاصر في مستشفى النصر للأطفال، احتجزها أمام عائلتها وأبقاها في حفرة عميقة ملوثة جداً مع تهديدها طوال الوقت بقتلها والتمثيل بجثتها بعد القتل.[26] كما أن بعض النساء اضطررن إلى الافتراق عن عوائلهن أو عن بعض من أبنائهن الذين ظلوا في المناطق المحاصرة أو في مناطق الشمال، مع انقطاع سبل التواصل والاتصال، ولا سيما النساء المطلقات اللواتي يعيش أبناءهن في بيت الزوج السابق.[27] وفي هذا الإطار تقول ألاء القطراوي، في مناشدة لها عبر فيسبوك في محاولة للاطمئان على أطفالها الثلاثة الذين تحاصروا في منطقة خانيونس، عقب اعتقال والدهم: “إن أقسى ما في هذه الحرب، أن تفقد الأم كل أمومتها وهي لا تستطيع حتى أن تعرف أين يوجد أطفالها عدا عن كونها لا تستطيع حمايتهم.”[28]
وبحسب إحصاءات هيئة شؤون الأسرى،[29] فإن دولة الاحتلال اعتقلت منذ بداية الاجتياح البري حتى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر ما يقارب 142 معتقلة يتواجدن في عدة معتقلات وسجون، منها الدامون وهشارون، وكان بينهن طفلات ورضيعات ونساء مسنات، الأمر الذي اضطر بعضهن إلى ترك أطفالهن في الشارع مع أناس غرباء لا تجمعهن بهم صلة قرابة أو معرفة، هذا إلى جانب سرقة مقتنياتهن الثمينة وأموالهن وإجبارهن على رمي جزء كبير من أغراضهن اللازمة، مثل الملابس والفراش.[30] وجرى اعتقال جزء آخر من هؤلاء النساء لرفضهن اختطاف أبنائهن من جانب جنود الاحتلال، أو قتلهم.[31]
خاتمة: مستقبل نساء غزة عقب الحرب
بعد الحرب على غزة وانعدام الرعاية، ينتظر النساء مستقبلاً معقداً يتسم بالتحديات الصحية والنفسية. ومن المتوقع زيادة مستويات التوتر والاكتئاب، مع نقص حاد في الرعاية الطبية وتزايد حالات الإصابة. كما قد تؤثر الحرب في فرص العمل والتعليم للنساء، الأمر الذي يتطلب جهوداً من أجل إعادة بناء الاقتصاد وتعزيز الشبكات الاجتماعية. وتحتاج النساء إلى رعاية طبية فورية وبرامج دعم نفسي للمساعدة على تخطي آثار الحرب وتحسين جودة حياتهن، مع التركيز على تعزيز حقوق المرأة ومكافحة العنف الجنسي.
وقد أظهرت حرب الإبادة الأخيرة على غزة أن واقع النساء قبلها وخلالها بالغ الصعوبة، إذ كنّ ضحايا رئيسيات للعنف والاستهداف الممنهج الذي أطلقته دولة الاستعمار الصهيوني. ويُظهر استمرار الاستهداف العنصري بحقهن والانتهاكات الجسيمة لحقوقهن بوضوح كيف تُعرَّض هويتهن وأجسادهن للتشويه بشكل فظيع.
لقد سعت دولة الاستعمار إلى تسييس أجساد النساء واستهداف جنسانيتهن كأدوات استعمارية. وفي سياق حروب الإبادة يُعَدُّ استهداف أجساد النساء وتحويلها إلى ساحة معركة جنسية أداة فعالة لتحقيق أهداف سياسية واستعمارية، يشمل ذلك تعريضهن للتشويه الجسدي والنفسي والاعتداءات الجنسية الوحشية، ما يخلق بيئة من الخوف والهمجية تؤثر بشكل كبير في حياتهن وخصوصيتهن.
وعمل الاحتلال والصراع إلى استهداف أجساد النساء، بصورة خاصة، وتشويهها، بعدما جرى عسكرة جنسانيتهن وأمومتهن التي عايشنها تحت وطأة الحصار وقوة النار والحرب، كما جرى استغلال هويتهن الجنسية كوسيلة لتفتيت الهوية الوطنية وتفكيك البنى الاجتماعية المقاومة.
[1] Rachael Hill, “Decolonizing Women”, Khan Academy.
[2] وزارة الصحة الفلسطينية – غزة، موقع فيسبوك.
[3] موقع الأونروا الإلكتروني.
[4] سهاد ظاهر ناشف ونادرة شلهوب كيفوركيان، “الرغبات الجنسية في آلة الاستعمار الإسرائيلية الاستيطانية”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 104 (خريف 2015).
[5] جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني.
[6] لالي خليلي، “الجندر وحروب مكافحة التمرد”، في “النسوية العربية: رؤية نقدية” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012).
[7] عنان الحمد الله، “موجز في الحروب الاستعمارية والنوع الاجتماعي ‘الجندر'”، 9/10/2017.
[8] شهادة للصحافية مها أبو الكاس منشورة ضمن مشروع “أصوات النساء في غزة” لمعهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت، موقع فيسبوك، شوهد بتاريخ 23 كانون الثاني/ يناير 2024.
[9] المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، “شهادات صادمة عن تصفيات وإعدامات ميدانية بغزة والصليب الأحمر مطالب بالقيام بمسؤولياته”، 20/12/2023.
[10] مقابلة هاتفية مع سيدة نزحت من حي الشجاعية إلى منطقة اليرموك وسط غزة، بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2024.
[11] مقابلة هاتفية مع سيدة نزحت من منزلها في شارع الشفاء غرب غزة إلى منطقة حي الدرج ومن ثم إلى منطقة تل الهوى، بتاريخ 7 كانون الأول/ديسمبر 2023.
[12] شهادة دعاء بدوي ضمن مشروع “أصوات النساء من غزة”، لمعهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت، موقع فيسبوك، شوهد بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير 2024.
[13] مقابلة هاتفية مع سيدة فلسطينية من مخيم الشاطئ كانت تعمل معلمة لغة عربية في وزارة التربية والتعليم في غزة قبيل حرب الإبادة، بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
[14] شهادة للصحافية مها أبو الكاس، مصدر سبق ذكره.
[15] مقابلة هاتفية مع سيدة فلسطينية من مخيم الشاطئ، مصدر سبق ذكره.
[16] شهادة لسيدة أدلت بها للصحافية سمر أبو العوف، منشورة على فيسبوك، شوهد بتاريخ 24 كانون الثاني/يناير 2024.
[17] مقابلة هاتفية مع سيدة نزحت مع عائلتها من منطقة حي النصر نحو دير البلح جنوب قطاع غزة، بتاريخ 20 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
[18] المصدر نفسه.
[19] شهادة هيا أبو ناصر منشورة ضمن مشروع” أصوات النساء من غزة” لمعهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت، شوهد بتاريخ 24 كانون الثاني/يناير 2024.
[20] المصدر نفسه.
[21] مقابلة هاتفية مع سيدة نزحت مع عائلتها من منطقة حي النصر نحو دير البلح، مصدر سبق ذكره.
[22] مقابلة هاتفية مع سيدة من مخيم جباليا، نزحت أثناء حصار بلدة جباليا إلى منطقة الصناعة وسط غزة، بتاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 2023.
[23] علياء الخالدي من غزة، منشور على فيسبوك.
[24] “مسعفة بمستشفى كمال عدوان: الاحتلال منعنا من علاج المصابين”، “الجزيرة نت”، 16/12/2023.
[25] مقابلة لعالية أبو مريم منشورة ضمن مشروع “أصواء النساء في غزة” لمعهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت، موقع فيسبوك، شوهد بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير 2024.
[26] مقابلة هاتفية مع طبيبة امتياز عام في مستشفى النصر للأطفال، بتاريخ 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
[27] ملاحظة من الباحثة في مجموعات وقنوات الأخبار والمناشدات المحلية.
[28] ألاء القطراوي، في مناشدة لها عبر فيسبوك في محاولة للاطمئان على أطفالها الثلاثة الذين تحاصروا في منطقة السطر الشرقي – خانيونس، عقب اعتقال والدهم.
[29] هيئة شؤون الأسرى.
[30] مقابلة هاتفية مع طبيبة امتياز عام، مصدر سبق ذكره.
[31] شهادة نشرت عبر مواقع التواصل عن اعتقال سيدة وزوجها من حي الزيتون عقب اختطاف أطفالها أمام أعينها.
مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.