منتظر ناصر الدين* – خاص الناشر |
يبدو المشهد المستجد عالميًا يستعد لرسم وجه جديد للجغرافيا السياسية دوليًا، إذ إن الصراع قد بلغ نقطة التحول الكبرى بسرعة قياسية، فمع الهزائم والانكفاءات الأميركية من أفغانستان إلى العراق (المعقل الذهبي الأكبر بالنسبة للأميركيين)، وصولًا إلى رضوخه للعودة إلى الموافقة على شروط الاتفاق النووي الإيراني وتحريره قبل أيام الأرصدة الإيرانية وإيداع ٧ مليارات دولار في البنوك القطرية، وعدم استطاعته تحقيق أي نتائج في الحرب الأوكرانية على الرغم من تقديمه الدعم العسكري والمادي اللامحدود إلى جانب الدعم السياسي والدولي الشامل في وجه روسيا، ومع ما تكبده من خسائر مادية للوصول إلى أي انتصار نسبي، ما جعله يعود إلى اللعب بالورقة والملف السوري من جديد والتدخل بشكل مباشر مع الجماعات المسلحة والإرهابية التي أسسها وإعادة تكوين خلايا أكثر تجهيزًا فيها، جاءت مفاجأة غزة.
انتقل الصراع فجأة من واقع الدفاع السلبي الضعيف، إلى واقع الهجوم الصدامي القوي، فالمعادلة المستحدثة غيرت مجرى الصراع وحولت الجيش الإسرائيلي من جيش يعتمد الهجوم والاجتياح وبقوة الغطاء الناري والاستخباراتي والتكنولوجي إلى حالة الدفاع السلبي الضعيف، والذي لم يختبره منذ نشأته بهذا الحد، ما شكل الصدمة الحقيقية الكبرى للقوة المزعومة التي يمتلكها.
بدأ الخوف، وساد الرعب عند كل مستوطنة وثكنة عسكرية وناقلة جند، وفي كل مكان لم تعد “إسرائيل”، كل “إسرائيل”، تنعم بأي قدر من الأمان، ومعه فتحت جبهة الشمال الفلسطيني على مصراعي العمليات العسكرية المباشرة تمهيدًا للاقتحام والتحرير.
على عجل، حضر الأميركي بكل أطياف ضرورة العمل ميدانيًا واستخباريًّا وعمليًا (حاملة الطائرات) وحتى سياسيًا،وصولًا إلى حضور بايدن جلسة الكابينت.
سخن حزب الله جبهة الجليل، وهيأ الجولان، عمل ضمن قيادة محنكة في إدارة المعركة، ففتح الطريق ومهده لفلسطينيي العودة، وأعلن أنه ليس حرس حدود، ثم انتقل للمعركة وجاهر بذلك، وقصف المواقع الصهيونية في الأراضي اللبنانية التي ما زالت محتلة ضمن المستوى الأول من التصعيد العملياتي، وانتقل لاحقًا مع بدأ المجازر واستهداف المدنيين في غزة وتدمير المباني السكنية والأبراج إلى المستوى الثاني من الهجوم.
بعد المجزرة الكبرى في المشفى والكنيسة المعمدانية والإصرار الأميركي والإسرائيلي على الغزو البري والضوء الأخضر لارتكاب المزيد من المجازر، رفع حزب الله المواجهة إلى المستوى الثالث من العمليات العسكرية، فبالتأكيد سيدخل المعارك مع العدو الإسرائيلي إلى مستوى الأعمال الحربية، ما ينذر بتطور المواجهة عينها بشكل متدحرج وسريع حسب الوتيرة التي مرت بمعدل سابق لكل أربعة أيام مستوى، إلى ضيق في الوقت في الحالة المستجدة والتي يمكن أن تنزلق فجأة إلى مستوى الحرب الكاملة، وهذا ما يجعل أطراف النزاع المسلح أمام ضرورة اتخاذ الخيارات النهائية للحرب. كل ذلك سيتأكد بوضوح مع بدء الهجوم البري الإسرائيلي على غزة، ولربما سيكون ذلك من ضمن أعلى مستويات الاستدراج لقوات المشاة والمدرعات الإسرائيلية التي بالتأكيد ستدخل إلى استنزاف أصحاب الأرض الأصليين ومهندسي الأنفاق وأبطال حروب الميدان، وسيجعل عدد القتلى من الجنود هو حديث الساعة وتدمير المعنويات لدى الجيش الإسرائيلي هو الذي سيسرع هزيمته الكبرى، بل ولربما سيكون العدد الأكبر لقتلى ما يسمى بجيش الدفاع بالرصاص من الخلف، إما بسبب طبيعة الأنفاق في مستنقع غزة وإما لهروب القوات البرية، ولربما سيكون استبسال كتائب القسام وقتل أكبر عدد ممكن من الجنود الصهاينة بالتأكيد كجزء وسبيل للانتقام من المجازر الفظيعة التي ارتكبت بالمدنيين العزل.
ومما لا ضير فيه أن المعضلة الوحيدة التي ألمت بواقع المعركة هي الاستهداف المتعمد للمدنيين ومعاقبتهم جماعيًا كتعويض للهزيمة التاريخية الأولى التي مني بها الجيش الإسرائيلي، والتي أسست لمرحلة الانهيار المتلاحق.
كلنا ندرك المعركة، فهي ضمن المربع الحقيقي لحصد النتائج التي لم تبدأ بعد، وهي حبلى بالمفاجآت، وعلى كل صعيد، وما هو مخبأ أكثر مما هو معلوم .
إن واقع التخبط الذي عاشه الجيش الإسرائيلي إلى جانب القيادة السياسية التي تملّكها الرعب من اتخاذ أي من القرارات في ظل الفشل المعلوماتي الكامل عن حقيقة ما جرى جعلته في اليومين الأولين يقع في مهزلة كبيرة، لا سيما على مستوى التصريحات والبيانات الصادرة حول نظام الرصد والأمان، وشبكة الإنذار الممتدة على طول الجبهة الشمالية، بحيث ولأول مرة على صعيد الحروب في العالم يصدر تشخيص هزلي بأن حزب الله أرسل طيور البجع المحملة بالقناديل والفوانيس المضيئة لتبرير الإنذارات الخاطئة التي راح يتخبط بإطلاقها الجيش الإسرائيلي على مسافة واسعة من الجليل المحتل وفوق كامل مستوطنات المنطقة الممتدة لـ ٤٠ كلم، مما حدا بسلاح الجو الإسرائيلي للتحليق بحثًا عن أشباح الطيور التي زعم أنها اجتاحته.
من المؤكد أن بنية الجيش المهزوم وواقعه المأزوم تجلت بشكل أكبر في صورة فرض الرقابة العسكرية المشددة على وسائل الإعلام والقنوات الإسرائيلية، ولعل الصادق الوحيد الذي كان يختنق بالحقيقة الموجعة في الكيان الغاصب هو الإعلام والمراسلون والمحللون العسكريون والسياسيون الصهاينة، الذين وحدهم على ما يبدو يدركون حجم الفشل وانعدام المسؤولية التي ظهرت في الواقع العسكري والسياسي الإسرائيليين، ما حدا ببعض المحللين والمراسلين لوصف نتنياهو بأنه يشكل خطرًا على إسرائيل وعلى الوجود اليهودي في فلسطين، فلعل الخبرة الإعلامية وقراءة المشهد كانت كفيلة لمعرفة الانهيار الحاصل على مستوى إدارة المعركة وإدارة الحياة السياسية في الكيان، وهذا ما نبه له محللو وإعلاميو الكيان وما سيتضح قريبًا بعد الانتهاء من حصد نتائج الحرب إذا بقي أصلًا من داعٍ لدراسة وتقييم النتائج النهائية للمعركة، فلعل المفاجآت التي لم تخرج إلى العلن بعد، ستكون الكفيلة بإنهاء الصراع على تفكك وانهيار المؤسسة الأمنية والعسكرية للجيش الصهيوني وبالتأكيد نهاية الحياة السياسية لمجرمي الحرب.
على كل حال، الميدان الحقيقي، والواقع الفعلي للمعركة لم يبدأ بعد، ولعل الهشاشة السياسية الفعلية التي يعيشها أشخاص إدارة العملية السياسية في “إسرائيل” برمتها على غير ذي قيمة أو جدوى لهذا الكيان، سوى ما افتعلوه وسيفتعلونه من مجازر طيلة أيام الحرب، فـ”إسرائيل” اليوم انتهى وجود رجالات فيها، ويقتصر الحكم فيها على مفلسين في حماية الكيان .
في المقلب الآخر، وبالانتقال إلى الواقع الحربي الحقيقي والذي تخشى “إسرائيل” من حدوثه، لكنها وبسبب الفشل السياسي والأمني الذي تعيشه لا تتحدث عنه بل وربما تخاف الحديث عنه والتطرق إليه، لا سيما في هذا الظرف والمحنة التي تعيشها، فإن جبهة الشمال وما عليها اليوم هي ليست أكثر من صفعات صغيرة يقوم حزب الله بتلقينها للجيش الإسرائيلي لوضعه في حالة إعلام ومعرفة لما سيؤول إليه المشهد عند اتخاذ القرار بالانقضاض عليه من لبنان، فالوحدة الصاروخية في حزب الله على مستوى المعركة الفعلية لم تبدأ بعد، والقوات البرية وفرقة النخبة (الرضوان) لم تتحرك بعد، والصواريخ الدقيقة لم تنطلق بعد، والمسيرات التي ستغير مجرى الحرب بأكملها والتي لا حصر لعددها لم تخرج إلى حيز الانطلاق بعد، والصواريخ البحرية لم تنزل إلى المياه بعد، وما خفي أعظم ومن المفاجآت ما هو أكبر وأخطر، فما هو الوقت الذي سيصمد خلاله الجيش المنهزم؟ التقديرات ربما للصفعة النهائية التي يمكن أن تؤدي واقعيًا إلى انهيار هذا الجيش، وقد وعد بذلك الأمين العام لحزب الله، والذي حمل ثأر عماد مغنية على ظهره ١٥ عامًا ليفي بوعده (سينهار جيشكم عند أقدام عماد مغنية).
بالتأكيد، الإدارة الأميركية ليست بالغباء الذي عليه نتنياهو وحكام وقادة الجيش في إسرائيل، وإن كانت أحلام الزهايمر تحوم في مخيلة بايدن، إلا أن الإدارة الفعلية للولايات المتحدة تدرك تمامًا، أن نهاية إسرائيل أصبحت قريبة جدًا، ما سيجعلها تلعب ورقتها الأخيرة في الشرق الأوسط ولو على حساب حليفتها ويدها في المنطقة، فإن لم تعمل على الاستفادة منها حتى آخر رمق حياة لها اليوم، فلن تستفد منها لاحقًا، لمعرفتها الكاملة بأن حتمية زوال الكيان قاب قوسين أو أدنى، ولعل الحشد الدولي غير المسبوق الذي عملت على تأمينه ودعمه المفتوح لارتكاب أكبر وأفظع الجرائم منذ الحرب العالمية الثانية والذي يحصل على أصغر بقعة جغرافية في العالم خير دليل على أن الجنون الدولي وصل إلى ذروته، وإفلاس الإدارة الأميركية وصل إلى قناعة التضحية ببتر يدها أو ببطشها، ولربما هي المراهنة الخاسرة الأخيرة ولكنها المراهنة الكبرى من بين المراهنات التي دخلت فيها بالدم إلى المتوسط منذ العام ١٩٩٠، وبالتأكيد منذ نشأة الكيان على صعيد بناء الوجود الاستعماري.
إن التجربة والخبرة السياسية على مدى ٢٢ عامًا منذ ١١ سبتمبر (أيلول) الذريعة لاحتلال الشرق ووطء الجيش الأميركي وسيطرته السياسية والنارية على منطقة جوار روسيا والصين واستغلال كل أشكال التفرقة وإنشاء الجماعات المسلحة من عرقية وفكرية وإرهابية ودينية في كامل الشرق لم تؤدِ إلى النتيجة المرجوة، لا بل انعكست عليه سلبًا، مع ما رافقها من تطور الحالة النووية الإيرانية وتحالفها الجديد مع روسيا والصين وكأكبر قوة عسكرية نووية في المنطقة بعد “إسرائيل” جعلته يتسلل إلى الحديقة الخلفية الروسية.
الحرب قد بدأت فعليًا في السابع من أوكتوبر تشرين الأول، وهي تمتد وتتوسع، والعالم الغربي يعلم جيدًا أنها المفصل التاريخي الأخير في سايكس بيكو، فالخريطة العالمية الجديدة ستتبدل، وهم أخذوا علمًا بذلك مع بدء الحرب الأوكرانية الروسية، ولم يتبق لهم سوى فلسطين للحرب فيها بعيدًا عنهم بالمباشر، لذلك سيدعمون القتل والمجازر وسيظهرون على حقيقة بشاعتهم، وستسقط كل أوراق المناداة بالإنسانية والقانون الدولي وكل أشكال التزييف للمبادئ المكتوبة ليفرضوها بالدم على العالم أجمع، وستتعرى الحرية المزيفة، وسيكشف الغرب عن وجهه الحقيقي في الاغتصاب والقتل والتدمير وانعدام قيمة الإنسان لديه، وسيكشف مجددًا عن الوجه النازي، وعن الفاشية التي تتأصل فيه مع ما لحقته من قذارة في القرن الأخير لحيونة الإنسان .
ماذا ستفعل أميركا؟ هل ستدخل الحرب؟ وأي حرب؟ التي يمكن أن تكون الفرصة التي تتربص بها قوى المقاومة على البقعة الجغرافية العربية والإقليمية كاملة، وعلى واقع انهيار الجيش الإسرائيلي؟ هل سيقدم البنتاغون أكبر حاملة طائرات تملكها الولايات المتحدة بتكلفة ١٣ مليار دولار وما يرافقها وكل القواعد العسكرية والمصالح في الشرق الأوسط كوجبة دسمة للثأر العربي الممتد من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق وربما الأردن ومصر وبالتأكيد في الخليج العربي المحاذي لإيران كعربون تضحية لليهود الراحلين؟
ما يجب أن يدركه الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي، وكل من يراهن عليهما، أن الواقع الميداني والعسكري اليوم يختلف تمامًا عن كل الحروب السابقة. ففضلًا عن أن الجيش الإسرائيلي في حرب تمور ٢٠٠٦ استعمل كامل قوته ومن خلفه الأميركي وبدعم وتسليح كامل ومفتوح ودفع بستة ألوية عسكرية من القوات البرية إلى الميدان وفقط، من أجل دخول مدينة بنت جبيل التي تقع على تخوم مواقعه ولم يستطع، أي أنه دفع بستين ألف جندي صهيوني بمواجهة عدد لا يتعدى المائة مقاتل من حزب الله، ومني بالفشل وقاتل أشباحًا حسب زعمه، فإذا ما عدنا بالمقارنة إلى تلك الحرب، فإن كامل آلية الحرب الإسرائيلية وما يقارب مائة ألف جندي إسرائيلي مع أكبر سرب سلاح جو في الشرق الأوسط ورابع أقوى جيش في العالم، وأكبر جسر جوي أميركي من التسليح وتقديم الذخائر ومع أعتى دبابة عسكرية تعد مفخرة دبابات العالم (الميركاڤا ٤) كان عديد القوات العسكرية لحزب الله ٣٧٥٠ مقاتل فقط، فماذا سيفعل اليوم بعد ما خطط وجهز له الشهيد عماد مغنية أي المائة ألف مقاتل مدرب تدريبًا أعلى ومجهز تجهيزًا أضخم وأهم، وبتكنولوجيا متطورة أكثر وبدرجة تسليح أعلى ومع فرقة نخبة يمكن أن تشكل أقوى فرقة على وجه الكرة الأرضية يقارب عديدها الاثني عشر ألف مقاتل من وحدة الرضوان؟ هذا بالتأكيد مع ما سيشكله الفارق في المفاجآت والعتاد ونوعية وعدد الصواريخ، ويمكننا القول إن القوة العسكرية والتسليحية للجيش الذي أعده حزب الله لهذه المواجهة تفوق ما كان عليه الحزب عشية حرب تموز ٢٠٠٦ بعشرين ضعفًا، زد على ذلك الخبرة التي اكتسبها في سوريا، وأضف إليه المعادلة الجديدة كليًا، سلاح المسيرات والصواريخ الدقيقة، والتي بالتأكيد ستغير مسار الحرب ومصير المنطقة برمتها، وستجهز على الجيش الإسرائيلي.
عطفًا عليه، ولمن يدرك حدة الصراع، فإن الدخول المباشر لحزب الله على خط المواجهة ومهاجمة المواقع والدبابات والرادارات الإسرائيلية وقتل هذا العدد الكبير من الجنود الصهاينة وحتى من المستوطنين وتمهيد الجبهة بسلاسة مطلقة ليست لمجرد ضرب الإسرائيلي فقط، فمع دخولها اليوم الثالث عشر وارتقائها من مستوى إلى أكبر، تدفع المدركين إلى معرفة معنى تحطيم أجهزة الإنذار والكاميرات والرادارات بشكل كامل، وفقء العين الصهيونية بشكل نهائي عما يجري وسيجري لاحقًا وتمهيدًا للحدث الأكبر الذي سيغير مجرى الحرب ومسارها، ومعه مصير المنطقة.
الأيام القادمة صعبة طبعًا ولكنها الولادة الحقيقية لشرق أوسط جديد، خارج التبعية للغرب ومعادٍ له بالتأكيد .المنطقة كلها ستدخل حيز الحرب، ولذلك حزب الله قد درس المعركة جيدًا، وأمينه العام هو رأس المحور وقائده، والعالم كله يعول عليه، فهو رأس النصر بالنسبة للمستضعفين في العالم، من الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين والعراقيين والسوريين وحتى الإيرانيين منهم، وهو لم يخرج للحديث بعد، لأن كلمته هي الحرب وكل حرف ينطق به هو مسار ومصير للمنطقة، وعليه فإن غدًا لناظره لقريب…
- محامٍ لبناني
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.