انطلاقًا من منطقة الشرق الأوسط، وما يحدث فيها، أو ما قد يحدث على وقع صعود آمال إحياء الاتفاق النووي الإيراني وانكفائها، يرتفع مجددًا صوت طبول مواجهة “إسرائيلية” إيرانية، ميدانها أمني استخباري بالدرجة الأولى، وتتبدّى حتى الساعة على هيئة ما بات يعرف بـ “حرب الظلال”.
ولا شك أن “إسرائيل”، المتخوفة بصورة مزدوجة من أي آفاق دبلوماسية للتعامل مع البرنامج النووي لطهران، من جهة، أو تلاشي تلك الآفاق لصالح “إيران مسلحة نوويًا”، من جهة ثانية، تعكس مستويات عالية من قلقها على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية كافة، سواء من خلال العزف المنفرد المستمر على وتر جهوزيتها لضرب الأراضي الإيرانية، أو عبر تنفيذ عمليات سرية، غالبًا ما تأتي مصحوبة بأنباء عن اغتيال شخصيات عسكرية ومدنية، أو عن تعرض منشآت نووية للتخريب داخل إيران.
فبدءًا من اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده قبل نحو عامين، وصولًا إلى تصاعد وتيرة هذا النوع من العمليات في الأسابيع الأخيرة، تجزم مصادر استخبارية غربية بأن “حرب الظلال تتصاعد” بين طهران وتل أبيب، لتبني توقعاتها بشأن المرحلة المقبلة على أساس معطيات أمنية حساسة جمعتها الاستخبارات “الإسرائيلية” خلال الأعوام القليلة الماضية، وتحديدًا منذ العام ٢٠١٨، عن تطور البرنامج النووي لطهران، وأبرز الوجوه العاملة فيه. وقد عملت “إسرائيل” في الخفاء على تقويض البرنامجين النووي والتسليحي للإيرانيين. ولم يقتصر هذا الدور التخريبي على تصفية الوجوه البارزة من الخبراء المشرفين على تنفيذ تلك البرامج، من بينهم فخري زاده، وقبله من كان يعرف بـ “المؤسس الرئيسي لصناعات الصواريخ الإيرانية” حسن طهراني المقدم، بل تعداه إلى شن عمليات تخريبية و”سيبرانية” ضد المنشآت النووية، ومصانع المسيّرات والصواريخ.
ويتتبع محللون في الشأن الإقليمي الخط البياني للاغتيالات في إيران، التي ترافقت مع عودة “الحزب الديمقراطي” إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، وما تعنيه من إمكانية تراجع واشنطن عن خطوة الانسحاب من اتفاق فيينا النووي، وتعاظم قوة حركات المقاومة، لا سيما على الصعيد التكنولوجي، الذي يعود الفضل فيه إلى الخبرات الإيرانية. فمن استهداف صياد خدايي، وهو أحد أبرز ضباط الحرس الثوري الإيراني، عبر هجوم نفذه مسلحون على دراجة نارية في العاصمة الإيرانية، إلى قتل أحد المهندسين العاملين في وزارة الدفاع بواسطة طائرة مسيّرة، وصولًا إلى وفاة عالمين إيرانيين بطريقة غامضة، إضافة إلى الإعلان “المثير للجدل” عن مصرع ضابط آخر في الحرس الثوري، هو علي إسماعيل زاده، بعد نحو أسبوع من اغتيال خدايي، تنحو الأمور أكثر فأكثر باتجاه انفجار كبير في أي لحظة.
وبحسب تقارير غربية، يعد الرجلان “من أبرز الوجوه القيادية في الوحدة 840، في عداد الحرس الثوري الإيراني، والتي يعدها القادة الإسرائيليون مسؤولة عن عمليات قتل الأجانب خارج الأراضي الإيرانية”. ففي تصريح علني لرئيس الحكومة “الإسرائيلية” نفتالي بينيت، مطلع الشهر الجاري، أشار الأخير إلى انزعاج تل أبيب مما أسماه “الإرهاب الذي تمارسه إيران، عبر وكلائها الإقليميين (من حركات المقاومة)، ضد إسرائيل”، معلنًا “حقبة إفلات إيران من العقاب قد ولّت”.
أمام ذلك، تطرح تساؤلات عدة حول مدى انكشاف الساحة الإيرانية أمنيًا، وحول الإجراءات المضادة التي سوف تعتمدها طهران للحؤول دون وقوع هذا النوع من الهجمات إلى أقصى قدر ممكن، والرد المتوقع من الجانب الإيراني الذي اتهم “إسرائيل” علانية في ملف الاغتيالات. وفي هذا الإطار تلفت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أنه “ورغم غياب التبني الإسرائيلي لتلك الاعتداءات، إلا أنها تعكس نسقًا مألوفًا من الهجمات “الإسرائيلية” في فترات سابقة”. وتنقل الصحيفة عن مصادر استخبارية تأكيدها أن الحكومة “الإسرائيلية” أبلغت الإدارة الأميركية عن مسؤوليتها على هذا الصعيد.
وبخصوص الرد الإيراني المتوقع، تشير مجلة “فورين بوليسي” إلى أن استمرار وقوع اعتداءات من هذا النوع داخل الأراضي الإيرانية، قد يجر طهران إلى مسار تصعيدي قد تكون غير راغبة في السير فيه. وفي هذا السياق، تطرح مجلة “فورين بوليسي” عدة سيناريوهات من ضمنها تبني طهران نهجًا أكثر تشدّدًا على طاولة المحادثات في فيينا، عندما يحين وقت عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، وفق توقيت وتصورات الرئيس الأميركي جو بايدن.
وبحسب المجلة، فإن أيًّا من خيارات إيران، على المدى القصير، لن يكون خاليًا من التبعات الخطرة. أما على المدى البعيد، فأخشى ما تخشاه “إسرائيل”، هو أن يأتي الرد الإيراني خارج حسابات الجميع، واستنادًا إلى قناعة القيادة الإيرانية بأنه لم يعد هناك من سبيل لردع أميركا و”إسرائيل” سوى خيار التسلح النووي، بصرف النظر عن التكاليف المترتبة على هذا الخيار، وفق المجلة.
وعلى صعيد الاستراتيجية “الإسرائيلية” للتعامل مع السيناريوهات المفتوحة ربطًا بمسار المحادثات الدبلوماسية بشأن الملف النووي الإيراني، ثمة من يحذّر من أن فشل المفاوضات النووية الجارية بين طهران والقوى الكبرى، وما قد يعقبه من تسريع طهران وتيرة برنامجها النووي، وتخفيض مستوى تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ينذر باحتمال تحول المواجهة الخفية بين “الإسرائيليين” والإيرانيين إلى “صراع مفتوح”. فمن جهته، يرجّح المحلل في الشؤون الإيرانية، هنري روم، أن يأخذ هذا النزال بين إيران و”إسرائيل” “منحى تصعيديًا أوسع، سواء تم التوصل إلى اتفاق نووي أم لا”. ويضيف الباحث في “مجموعة أوراسيا” للاستشارات السياسية، أن الأولى تعزز من إحكام الطوق على “إسرائيل”، فيما تعمد الأخيرة إلى توسيع هامش تأثيرها واختراقها للداخل الإيراني.
هذا، ويأتي القلق المتنامي لدى تل أبيب على أرواح مواطنيها في الخارج، والذي حمله تحذير حكومة بينيت لمواطنيها من السفر إلى تركيا، كشكل من الأشكال المكملة للتحريض السياسي والإعلامي ضد طهران، وكإقرار ضمني بوقوفها خلف ما يجري على الساحة الإيرانية. وفي هذا الإطار، تشير الوتيرة المتسارعة للاغتيالات داخل الجمهورية الإسلامية، معطوفة على تصريحات قادة الدولة العبرية، إلى ما تصفه دوائر أمنية بـ “تحول في استراتيجية إسرائيل” إزاء الطموحات النووية والإقليمية لطهران. وتستذكر تلك الدوائر ما أعلنه بينيت صراحة خلال اجتماع للجنة الأمن والخارجية في الكنيست، إذ قال: “لقد مثّل العام الماضي، عام تغيير مسار الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع إيران بسرعة أعلى”، متعهدًا بمواصلة التحرك على هذا الصعيد “في كل زمان، ومكان”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.