الثروة البحرية وهوية التغيير الضائعة!

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

استحقاق تلو آخر، وتحدٍّ تلو تحدٍّ، يُثبت الوعي السياسي اللبناني أنه لا يفقَه من الأزمة إلا اسمها، وأنه لا أمل قريبًا في حل الأزمة اللبنانية وتغيير مسار الحكم في الأمد المنظور.

الناس في مكان، والمشكلة في مكان آخر! يتصارعون في حلبةٍ أخرى، ويتنازعون على صفيحٍ مختلف.

أفرزت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة نمطًا من النواب المُسَمَّينَ “تغييريّين”، اسمٌ أُطلِقَ على الوافدين الذين يمثّلون ثورة (حراك) 17 تشرين. لكن المُسمّى غير خاضع لأدنى المعايير حول صفات النائب التغييري، فـ “ملحم خلف”، على سبيل المثال لا الحصر، يُسمّى نائبًا تغييريًّا، و “بولا يعقوبيان” تُعدّ تغييريّة!

إن الذي يُدقق بهُوية الانهيار اللبناني الراهن، يرى أن الموجات التغييرية تضرب بعيدًا عن شاطئ الأزمة، و”عليل” التغيير لا زال بعيد المَنال.

عن أي تغييرٍ نتحدّث ونحن لا نزال نختلف حول أسباب الأزمة السياسية القابعة على صدور اللبنانيّين منذ عشرات السنوات؟ عن أي تغييرٍ نتحدّث ولا زال وعيُ شبابنا السياسي مُشبّعًا بالدعاية الأميركية وأفكار الخنوع والوَهن واليأس؟ عن أي تغييرٍ نتحدّث ونحنُ نِيامٌ تُسَيِّرُنا محطاتٌ مُرتَزَقة، تُشبِعُنا أوهامًا وتُشَتِّت انتباهنا عن الأسباب التي أدَّت إلى وقوعنا في القعر السياسي، ونحن الذين لم نخرج منه يومًا؟ عن أي تغييرٍ نتحدّث ونحن لا نحتَسِبُ أميركا، الامبراطورية التي تُهَيمِن على الشعوب والأوطان، من ضمن الأسباب الرئيسية للأزمة (وهي السبب الرئيسي)؟ عن أي تغييرٍ نتحدّث ونحن نضع النواب المدعومين من “الصناديق” الأميركية في خانة الإنقاذ والتغيير؟!

هذا اللبنان الاستثنائي، وحالته الفريدة، تحتاج إلى مقاربة مختلفة ومسار دقيق، ونحن نعيش في طيف ذكرى تحرير لبنان من العدو الصهيوني عام 2000، حيثُ استطاعت الإرادة والعزيمة والتوَكُّل على الله، إلى جانب الإعداد العسكري والتسليح، بدعمٍ مباشر وكُلّي من الجمهورية الإسلامية الايرانية والعربية السورية، طرد المُحتَل الإسرائيلي، المدعوم من دول المَركز والسيطرة، مُرغَمًا ذَليلًا، ومن دون أي قيدٍ أو شرط. وقد مثَّل هذا الإنجاز العظيم، وغير المَسبوق في وطنِنا العربي، الفرصة الأولى لبناء دولةٍ قوية، قادرة، ومُستَقِلّة، تَمتَلِكُ قرارها بِيَدِها، وتُدافِعُ عن مصالِحها لا مصالح الدول التي تَرعى قِوى الحُكم فيها.

فرصة التحرير، الاستراتيجيّة، مثّلَت حجر الأساس نحو النهوض؛ فبناء الدولة القادرة والعادلة لا يمكن أن يحدث تحت وطأة احتلال عسكري أجنبي للأرض، يسيطر على مواردها ومقدّراتها، ويكبح جماح التقدّم والازدهار.

إن الحديث عن حلولٍ تقنيّة، وخُطَطٍ اقتصادية، في غاية الأهميّة، لكن ليس في بلدٍ عُجِنَ على مقياس الاستعمار، يؤدّي وظيفةً مطلوبة، ويعمل تحت فَيءِ الخطوط الحمراء المرسومة من قبل أميركا ومن خلفها دول الغرب الأوروبي.

في زمن المزايدات والشعارات الباهرة، أضحى من الواجب الإنساني على كل فردٍ منّا، التفتيش عن السبيل المؤدّي إلى التحرُّر، وتحديد الوُجُهات الملائِمة في الصراع المرير مع القوى التي استَضعَفَت بلادَنا وأفرغَت مضامينها وسلبَت منها إرادة التغيير. هنا يكمن التغيير الحقيقي، في الطريق “الوَعِرة” التي تؤدّي بنا في نهاية المطاف إلى الاستقلال واسترجاع الحقوق واستلاب حق “القرار” من الدول المعادية. علينا أن نسلك الطريق التي تقف صدًّا أمام المَدّ الامبراطوري الأميركي الذي أنهك مجتمعاتنا وأسكنها الدرك الأسفل من مرارة العَيش.

كيف لي أن أعوِّل على حفنة من النواب الذين امتَطوا خيول “الشرق الأوسط الأميركي”، ينشدون الدّوس على ما تبقّى لنا من زوّادةٍ قِيَميّةٍ تسندنا في المواجهة، وتعوّل آمالها على وعيِنا في مسار التحرُّر؟ يبهرون شبابنا بالشعارات البرّاقة، التي تُخفي بين طيّاتها خُبث الخضوع وإفراغ الوعي، كي تقودنا عقولنا نحو الاستسلام والتطبيع.

لا، ليس هناك خلاصنا، ولا في تلك المحلّة نجاتنا. إن خلاصنا في مقلبٍ آخر، وفي وُجهةٍ أخرى. التغيير الحقيقيّ يبدأ بتمكين وعيِنا السياسي، والتركيز على مكامن الأزمة اللبنانية التي تمثّل جزءًا من الأزمة الشاملة في المنطقة، وعدم السماح لصعاليك السياسة، القدامى منهم والجدُد، بتشتيت انتباهنا أو تقييد وهج قِيَمنا، ولا حتى في إرضاخ وعيِنا وإفراغ مضمونه.

هي إذًا مواجهة شاملة متكاملة، سياسية ثقافية، يندرج ضمن تبعاتها المساران الاقتصادي والاجتماعي، هذان العنصران اللذان يشكّلان المَرمَيَين الأوليَن في بنك أهداف العدو.

يريد الأعداء أن يجعلونا دُمًى متحرّكةً، يحرّكونها كما يشاؤون وفي الوقت الذي يريدون، خدمة لمشروعهم الكبير، الذي يتجدّد بين الفينة والاخرى تبعًا لظروف المعركة، وإذا قلنا لا، شدّدوا الخناق عبر وسائلهم المتاحة، والتي تمتلك كل موارد الأرض، لكن في النهاية هي معركة واحدة، ذات هويّة واحدة، أقلّها منذ نصف قرن، حينما غزانا السرطان الاسرائيلي، وسعى إلى تفتيت منظومة العيش والسيطرة على الأرض والبشر.

يريدون إلهاءنا عند كل استحقاق، وتوجيه بوصلة السلوك حيث تهوى سفنهُم العائمة على صدور شعوبنا المستضعَفة. فحينما يكشف البحر عن وجود خيرات هي ملكٌ لنا في سوريا ولبنان وفلسطين، ينقضّ العدوّ لسرقة الثروة الفلسطينية، ويحاصر سوريا ويقطع أنفاسها، ويمنع لبنان من الاستفادة دون سيطرته وإدارته.

العالم ظالم لدرجة أن الاسرائيلي يفاوض على غاز لا يملكه، هو أصلًا ملكٌ للشعب الفلسطيني، ويرسل الوفود لحماية هذه السرقة واستملاك المزيد من موارد شعوبنا التي تقبع تحت خطوط الفقر العريضة. لكن لا أحد يلتفت أصلًا. هم يزايدون على المقاومة، ويا للمهزلة، وكأن لو لم تكن قوة الردع التي صنعتها المقاومة موجودة، لكانت أمريكا و”إسرائيل” وقفتا عند خاطر اللبنانيين وقبلتا حتى بمفاوضتهم! وهؤلاء يعلمون حق المعرفة، أنه لولا وجود المقاومة، لكانت البلوكات البحرية مُستباحة من الشمال إلى الجنوب، تسرقها شركات الرأسمال العالمي كما تفعل اليوم في بحر فلسطين، والكلُّ كان ساكتًا. والمضحك أن القضية تصبح قضية مرسوم بحري، وكأن العدوّ الاسرائيلي يسأل عن مراسيم وقوانين وقرارات!

هكذا هو الحال، منذ عشرات السنين، لا بل منذ المئات. مستعمرٌ يتسلم عن مستعمر، ومحتلٌّ يصل إلى العاصمة في صيف عام 1982 بمعاونة بعض اللبنانيين، الذين للمفارقة أصبحوا اليوم رموزًا للسيادة والاستقلال!

وسط هذه الصورة الواقعية عن حالنا وحال أوطاننا، يصبح الحديث عن حلول تقنية هراء، أو بالحدّ الأدنى زغاريدَ من خارج السرب.

الأزمة سياسية، وكل تبعاتها التي نراها اليوم هي صنيعة تلك الأزمة. من غير المسموح لبلداننا أن تعيش الرخاء وحُسن الحال، ومن غير المسموح أن نستثمر ثرواتنا بأنفسنا ونديرها باستقلالية. من غير المسموح التوجّه اقتصاديًا نحو الشرق، وكأن العالم خُلق للغرب فقط. من غير المسموح فتح علاقات مع أي دولة لا تخضع لإرادة أميركا. من غير المسموح التشابك مع سوريا، كأرضٍ واحدة، وتشكيل كيان اقتصادي صلب يعمل كآلة واحدة تتكامل بها وسائط الصمود والتقدُّم.

هي بلادٌ قُسِّمَت كَي تكون هكذا، تجمّعات متناحرة، وصراعٌ حول الهويّة، واقتيادٌ نحو الخضوع الكامل والاستسلام. هي بلادٌ رُسِمَت على خاطر المشروع الصهيوني، ولُوِّنَت بألوان الخداع والتزييف.

هنا مكمن الأزمة، ومن هنا ينبثق مكمن الحَلّ. التغيير في بلداننا يبدأ بتقويض الهيمنة الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ويُستَكمَلُ بطرد نفوذها وكسر سيطرتها وإزالة هيمنتها كُليًّا. وحينها يأتي دور الغدّة السرطانية المزروعة في كبدِ الأمّة، فلسطين. وعليه، فإن كل كلامٍ تحت هذا السقف لا يرتقي إلى مستوى الأزمة التي نعيشها، ولا يقودنا نحو التغيير والإصلاح.

إن الخطوة الأولى نحو الإصلاح هي طرد الغزاة، كيفما كان شكل احتلالهم، عسكريًا كان أو سياسيًا، ثقافيًا أم اجتماعيًا، كلّه احتلال، وكله بحاجة إلى مقاومة، على مختلف أشكالها، كي تطرده وتحقّق الاستقلال. حينها، وحينها فقط، نستعيد أرضنا وخيراتنا، ونستثمر مواردنا، وتكون لنا سلطة القرار على مقدّراتنا وعناصر القوّة لدينا.

إن ما نعانيه على صعيد الوطن، تعانيه كل الشعوب التي رفضت الرضوخ لأميركا، وسنظلّ جميعًا مُستهدَفين نتعرّض للنيران الأميركية بكافة أشكالها، العسكرية والسياسية والاقتصادية. وقَدَرنا في هذه المواجهة أن نستخدم قدراتنا، المادية منها وغير المادية، لمواجهة هذا المَدّ الامبراطوري المُستكبِر. وهنا، تُصبح الارادة في مقابل التجويع، والمحافظة على القيَم في مواجهة التهشيم القيَمي الذي نتعرّض له بغية إقصاء هويّتنا وإزاحتنا عن درب المواجهة بشكل كُلّي.

يعوم لبنان اليوم على 122 ترليون قدم مكعب من الغاز، أي ما قيمته حوالي 770 مليار دولار، بحسب الدراسات التي نشرتها مؤخّرًا مصادر مقرّبة من وزارة الطاقة اللبنانية، وهي تشكّل الأمل شبه الوحيد للخلاص من الأزمة التي تفشّت في الجسم اللبناني منذ عدة سنوات. وقد سبق أن تم توقيع عدة عقود لبدء الاستكشاف والتنقيب على الغاز والنفط، لكن تم إشهار الفيتو الأميركي المعتاد في وجه الشركات الأجنبية، ومُنع لبنان من إجراء أي نشاط يتعلّق بتحصيل ثروته البحرية، مع العلم أن الجزء الأكبر من تلك الثروة يقع ضمن نطاق غير متنازع عليه مع العدو الصهيوني، دون جدوى، فأميركا هي الآمر الناهي في المنطقة، وتقدّر الأمور حسب مصلحة الكيان الصهيوني الذي يسرق موارد الشعب الفلسطيني، والنواب “التغييريون” يصدحون بالعبارات التي تشجب التلكؤ عن الاستفادة من الثروة، لكن من دون الاقتراب إلى المانع الوحيد، وهو أميركا، لارتباط معظم هؤلاء النواب بصناديق أميركية وجمعيات ومؤسسات تابعة لواشنطن، وربما هذا الاستبسال مقابل الخط 29، يخفي تحت طيّاته أهدافًا خبيثة، ستَتّضح أشكالها في الأيام المقبلة.

يعترف النواب “التغييريّون” بأنهم منبثقون من حراك 17 تشرين، أي الثورة الملوّنة التي أدار مسارها الأميركي واستحكم بتوجّهاتها وسيّر الفقراء الذين انضمّوا إليها. وبالتالي، يصبح هؤلاء النواب أداة للهيمنة لا أكثر ولا أقل. ومن المعيب الحديث عن تغيير عبر نواب امتطوا خيول الخضوع للهيمنة وعبروا نحو الندوة البرلمانية. هم يمثّلون مشهدًا ضمن مسلسل طويل، بدأ من عشرات السنين، ولن ينتهي قريبًا.

إذًا، هي إشكاليّة طموح استعماري يجتاح شعوب العالم، ومشروع صهيوني يسعى إلى القضاء على كل كيانات المنطقة من أجل السيطرة على مواردها ومقدّراتها وحُكمها عن طريق الإرضاخ والتَوهين. المسألة ليست نائبًا جديدًا من هنا، وناشطًا في ثورة ملوّنة من هناك، ولا مسألة الاختلاف على شكل الثورة المنشودة للخلاص. لبنان، الحالة الفريدة، يقبع تحت ظل الهيمنة الأميركية، ويسيطر الغرب على قراره السياسي والاقتصادي، ويتحكّمون بالعقد الاجتماعي والكيان المجتمعي، ومنهم من يريدنا أن نتخطّى كل هذا الأمر والمناقشة في الخطة الاقتصادية وأرقامها وجداولها، التي لا تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به إن لا زلنا خاضعين لقوة الهيمنة. فقدرنا في هذا البلد المقاومة، مُتسلّحين بإرادتنا وعزمنا وبصيرتنا، ومتمكّنين في وعيِنا ومعرفتنا بطبيعة الصراع، بهذا المسار نصل إلى مبتغانا، ونحصل على استقلالنا، ونمتلك قرارنا، ونزدَهِر.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد