تحمل القضايا الإنسانيَّة كلُّها هاجسًا واحدًا يتخطَّى حدودَ الفرد والعالم، لتصبح همًّا كوزموبولوتيًّا يَخرج من كلِّ نمطيَّة تتجاوز بها كلَّ الحدود، وربَّما يكون هذا التَّجاوز واحدًا من أسباب الثَّبات والخلود.
لم تكن اللُّغة يومًا جزءًا خارجًا عن الحقيقة، لكنَّها حتَّى في ألغازها تمثِّل مرآةً فريدةً للحقيقة ولصورتها. إنَّها كيان مستقلٌّ ممتدٌّ عبر التَّاريخ ولن ينتهي. امتدادٌ عميقٌ يعكس وجه الإنسان في روحه وعقله. إنَّها الملكةُ الَّتي تنضوي تحتها فلسفة العالم. إنَّ هذا التَّماثل، والتَّوافق المترابط في حتميَّتها، له قدرةٌ على الجمع والوصل مهدِّمًا حدودَ الزَّمن، بانيًا صرحًا لغويًّا عاليًا في أصل كلماته، وفي أصل دلالته.
هناك قاعدة رائجة منذ زمن أرسطو؛ أنَّ كلَّ ما هو جدِّيٌّ وعميق يكون مهمومًا، وكلَّ ما هو مبتذل يكون مضحكًا، ومفرحًا. إنَّ الاتِّصال المباشر بين الإنسان والإنسانيَّة متعلِّقٌ بالهمِّ، والإدراك والوعي، ما يجعل الإنسان يقطع صلته بكلِّ ما هو مادِّيٌّ في الحياة، ويبدِّله بما هو روحيٌّ، فيُظهر الإنسان نفسه غريبًا عن هذا العالم، ويصنع لنفسه عالمًا خاصًّا به بعد أن تمرَّد على الواقع ورفضه. هي حال إنسانيَّة واحدة شاملة، ومتواترة بجوهرها، وتطلُّعاتها على مدى الأزمنة والعصور، حال الرَّفض وإحداث الشَّرارة الأولى للتَّمرُّد على كلِّ ما هو داخليٍّ لا يقبله العقل المقترن بصيغة الوعي. وفي عملية استنطاق اللغة من حيث الوعي والتَّأمُّل والهاجس الوجوديُّ، تتبدَّى مفاتن اللُّغة في انتقاء الجوهر، وتنضوي فيها مآلات الكتابة، وما ينتج منها من الأثر البالغ في القضايا والأفكار والمواقف. في اللُّغة نكرِّس الثَّوابت لمفاهيمها، والعواطف لحالتها الذَّاتيَّة، وكلَّ ما يؤسِّس للتَّعامل مع المعرفة من غير لبس وغموض.
عدَّ رولان بارت الكتابة صيرورة في اصطلاحها الفلسفيِّ، وعدَّ نفسَ الكاتب لها مآلات وتغيُّراتٍ، وارتحالاتٍ، وقال في الكتابة نقيض للفكر المكرَّس، أو المؤسَّس، وإنَّها ذاك الظِّلُّ الَّذي يعيش في هواجسنا مع إحساسنا بالوجود.
هل يمكن للكتابة أن تخرج عن قيمتها الحقيقيَّة، وتصبح في سوق الاستهلاك اليوميِّ كحالةٍ نفعيَّة تتبدَّد فور الانتهاء منها؟
في ظلِّ الاهتمامات الحاليَّة، والقدرة الهائلة للشَّكِّ في التَّمييز بين القيمة الحقيقيَّة لكلِّ ما يحيطنا، وما ورثناه، وما يؤثِّر فينا، تصبح الكتابة مغامرة فكريَّة، ومخاطرة في ظلِّ معمعة نظريَّة الكلِّ العارف، والكلِّ المستنطِق للحقائق، والفاهم لظاهر الأمور وبواطنها.
وفي ظلِّ حاجاتنا القصوى للتَّأمُّل، وبثِّ تجاربنا الذَّاتيَّة في أدوات حيويَّة تشكِّل نفسها من التَّجربة الأخلاقيَّة والإنسانيَّة، تبقى مساهمة الكتابة واللُّغة هي المعيار الأساس لفهم هسهسة هذا العالم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.