طفت الأحداث الأخيرة في كازاخستان على واجهة الأحداث العالمية، وبدأت التغطية الإخبارية تسلط الضوء على ما يحصل هناك. ورغم ضآلة الأخبار الآتية من الداخل إلا أن الصورة العامة قد أصبحت شبه واضحة من ناحية أسباب وأهداف الاحتجاجات العنيفة التي تحولت إلى مسلحة في بعض الأحيان.
موقع كازاخستان الجيوسياسي هو إحدى بقع الصراع بين روسيا والغرب؛ فبمساحة تصل إلى مليونين وسبعمئة كيلومتر مربع مع امتداد يبدأ شرقًا من الصين إلى حدود شرقي أوروبا من ناحية جبال الأورال، وثروات طبيعية هائلة من النفط والغاز وإنتاج كبير من اليورانيوم، تشكل هذه الدولة مجالًا حيويًّا أساسيًّا لروسيا من ناحية الجغرافيا والاقتصاد، ومجالًا حيويًّا للصين وخاصة مع مشروع “الحزام والطريق”.
إن الهدف الأميركي من إشعال كازاخستان على الطريقة الأوكرانية وقلب النظام فيها وتحويلها لبلد معاد بشكل أساسي لروسيا يأتي في هذا الوقت مع تصاعد الأزمة في أوكرانيا، فخلق مشكلة لروسيا وتحقيق انفلات أمني على حدودها الجنوبية يأتي أولًا ضمن الأولويات الأميركية بعد خروج واشنطن من أفغانستان، وثانيًا لإيجاد مشكلة حقيقية للعبور الاقتصادي الصيني عبر البر الآسيوي.
إن سرعة التحرك الروسي ودول منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقوات تدخل سريع وقوات مكافحة الإرهاب ما هو إلا دليل على أن روسيا قد انتقلت في مسألة القرار السياسي من مواقف الحياد أو التدخل الجزئي إلى التحرك السريع ووقف الهجمة الأميركية عليها ومنع أي مخطط أميركي لإحداث تغييرات في المحيط الروسي لصالح الولايات المتحدة؛ فالمشهد الأفغاني، والأوكراني ثم الليبي والسوري أصبح حاضرًا في صلب السياسة الخارجية لروسيا.
إن ما خسرته الولايات المتحدة في أفغانستان تحاول تعويضه اليوم في كازاخستان؛ فإيجاد انفلات أمني في بلد بمساحة وامتداد كازاخستان يهدد استقرار آسيا بشكل عام، وخاصة مع المعلومات التي تتحدث عن ظهور مقاتلين شاركوا في حروب أفغانستان وغرب آسيا، أي “داعش وأخواتها”؛ فالمصلحة الأميركية في كازاخستان تقتضي تحويلها إلى بلد موال لها على النموذج الأذربيجاني أو الأوكراني، أو تحويلها الى بلد متفجرفي الفناء الخلفي لروسيا تخاض فيه الحروب الأهلية ويستجلب الإرهاب التكفيري. وفي هاتين الحالتين ما يعاكس تمامًا المصلحة والأمن القومي الروسي خاصة في عز المواجهة مع الناتو والحديث عن نشر روسيا لمئة ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا.
على ما يبدو فإن الأسلوب المستعمل من قبل الولايات المتحدة في كازاخستان يدمج بين ما حدث في أوكرانيا وبداية ما حدث في سوريا من ناحية السيطرة على المقرات الحكومية والبدء بقتل عناصر الشرطة والجيش مباشرة والسيطرة على مدن بكاملها وإخلائها من أي شكل من أشكال النظام.
تعتمد التحركات الشعبية على طبقة من الشباب الذين درسوا في بريطانيا والولايات المتحدة؛ فالمعلومات تتحدث عن أن عدد الطلاب الذين يذهبون للدراسة في الولايات المتحدة حوالي 5000 طالب سنويًّا، ويقودهم من الخارج من يسمونه زعيم المعارضة الكازاخية المصرفي “مختار أبليازوف” الذي يعتبر لاجئًا سياسيًّا في فرنسا وعليه دعاوى قضائيه بتهم اختلاس أموال تقدر بـ 7,5 مليار دولار، وقد رفضت فرنسا تسليمه الى السلطات الكازاخستانية، إضافة الى مجموعة موجودة على الأراضي الأوكرانية.
ما يلاحظ من التصريحات الأميركية المطالبة بإعادة شبكة الإنترنت إلى العمل، وأملها ببقاء المظاهرات السلمية، وتصريحات منظمة العفو الدولية التي تتحدث عن عمليات القمع بحق المتظاهرين، ثم النفي الأميركي للتصريحات الروسية التي اتهمت واشنطن بالتدخل في كازاخستان أنها نفس السلوك الأميركي في الأحداث المشابهة التي افتعلها الأميركي في أي مكان في العالم وظهر بعد ذلك الدور الأميركي بالتبني والدعم المباشر والعلني.
إن ما يحدث في كازاخستان هو هجوم إرهابي أميركي على وسط أسيا مجددًا بالاعتماد على وسائل أصبحت تقليدية ومكشوفة، وفي هذا الهجوم تهديد مباشر لروسيا والصين ولدول الجوار. وإن سرعة الاستجابة الروسية تحت غطاء دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وقد تستدعي الأمور تدخلًا ودعمًا صينيًّا، جاء للحفاظ على استقرار وسط آسيا وحماية الأمن الإقليمي ومنع الولايات المتحدة من إعادة عقارب الساعة الى الوراء وتأخير المشاريع الآسيوية عشرين سنة أخرى كما حدث في أفغانستان؛ فالدول المحيطة بكازاخستان تدعم بشكل واضح الاستقرار وترفض الفوضى، وأكد على ذلك تصريح منظمة الدول التركية ومقرها اسطنبول بالقول: “لدينا الثقة بقدرة السلطات الكازاخية على إخماد التوتر في البلاد سلميًّا، واستعادة النظام والهدوء، وبالتالي فإن الرفض الجماعي لما يحدث من فوضى في كازاخستان ما بين منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة الدول التركية، يعبر عن موقف يجمع بين روسيا وتركيا برفض محاولة زرع الفوضى في قلب آسيا، وإن الهدف الأميركي والأسلوب المعتمد أصبح واضحًا ولن يُسمح بتمريره كما حصل في السابق.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.