لطالما لعبت السعودية دور الراعي لمصالح الدول العربية والاسلامية على مدى عقود من الزمن، مستفيدة من وجود استقرار سياسي داخل المملكة ودعم بريطاني اميركي مطلق، اضافة الى عامل اساسي تمثل بقيادة شخصيات متزنة للقرار السياسي في الممكلة ولو من منظورها الخاص.
وبمعزل عن التقييم الفردي للملوك وأولياء العهد والشخصيات الأمنية والعسكرية التي توالت على الحكم في السعودية خلال العقود الماضية، واذا ما فضلنا عدم الخوض بالمجازر التي ارتكبت في العالم العربي والاسلامي التي كانت السعودية خلف تمويلها وصناعتها، نجد ان المملكة خلال عقدين مضيا حافظت على حد ادنى من المقبولية والريادة في العالمين العربي والاسلامي، كانت تتمثل بانصياع السواد الاعظم من الدول العربية والاسلامية الى القرار السعودي خصوصًا فيما يتعلق بملفات النزاع في المنطقة. ولعل النفاق الذي كان يمارسه آل سعود حيال القضية الفلسطينية، كان يؤمن لهم حد مقبولًا من النفوذ ولعب دور القائد للقضايا العربية.
بعد تولي الملك سلمان مقاليد الحكم ودخول ابنه محمد المشهد السياسي من الباب العريض بتعيينه رئيسًا للديوان الملكي عام 2015 اولًا، ومن ثم تعيينه وليًا لولي للعهد في العام نفسه، بدأت الصورة العامه للمملكة بالتغير والاهتزاز في وعي الشارع العربي والاسلامي، وبدأت الحكومات العربية تجنب نفسها متاهات الحروب العبثية التي عزم ولي العهد غير المتزن على خوضها.
الصورة الاكثر وضوحًا ظهرت بعد توليه ولاية العهد عام 2017، إذ اظهر محمد بن سلمان خلال فترة وجيزة نية كبيرة بتغيير وجه المملكة من الداخل والخارج لا سيما فيما يتعلق بالقضايا الكبرى وخصوصًا تلك المتعلقة بالصراع مع كيان العدو.
تغييرات كبرى اجراها ابن سلمان داخل الممكلة من تقويض عمل هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واستحداث ما بات يعرف بهيئة الترفيه، وعزمه نقل المجتمع السعودي من اسلامي متشدد بلباس الوهابية الى مجتمع اشبه بالمجتمعات الغربية المتحللة من الاخلاق والضوابط الدينية، فضلًا عن الازمات والمعارك الداخلية التي خاضها الرجل غير المتزن مع ابناء عمومته والتي كان ابرزها حادثة الريتز كارلتون الشهيرة وما تلاها من اخفاق اكتتاب أرامكو وانهيارات المال والاقتصاد التي تواجه الممكلة اليوم بفعل الحروب العبثية والاصرار على فرض القرار على دول المنطقة بالقوة والحصار. ولعل حصار قطر كان ابرز اوجه التعنت والبلطجة التي مارسها ابن سلمان دون جدوى ولا نتائج تذكر سوى المزيد من الازمات وتقويض الدور السعودي في المنطقة وخسارة الاوراق والحلفاء والادوات.
المستنقع الاكبر الذي اصر ابن سلمان على الوقوع فيه رغم وضوح فشل الخيار العسكري منذ الاسابيع الاولى، كان اصراره على خوض عدوان واسع على اليمن الذي مارس ولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد دورًا اساسيًا في التحضير والتنفيذ له برعاية ومباركة ومشاركة اميركية واضحة.
سلسلة الاخفاقات والفشل الذريع لم تتوقف عند حدود معينة، فبعد الفشل في سوريا من اخضاع الدولة والجيش السوري وتغيير وجه سوريا السياسي، انكفأ السعوديون تاركين وراءهم خسائر بآلاف مليارات الدولارات كانوا قد انفقوها هم وقطر وتركيا في سبيل تغيير وجه سوريا لاخضاعها.
الحروب العبثية الفاشلة التي خاضها محمد بن سلمان تعد ولا تحصى، حيث وصل به الامر لتقطيع اوصال من يتجرأ على توجيه النقد لسياساته، في تجل واضح للحنق والمراهقة السياسية التي يمارسها “الأمير غير المتزن” في تصرفاته وقراراته.
ولعل ما يحدث اليوم في لبنان على خلفية ما زعمت المملكة انها تصريحات غير مقبولة من وزير الاعلام اللبناني جورج قرداحي، يمثل احد آخر المعارك التي يحاول من خلالها السعوديون تسجيل انتصار ولو شكلي ضد خصم يعتقدون انه ضعيف، حيث صب الجنون السعودي جام حقده على الوزير قرداحي معتبرين انه احد اوجه ما يصفونه بهيمنة حزب الله على القرار السياسي في لبنان. وهذا ما عبر عنه لاحقًا وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان مطالبًا بتغيير وجه لبنان السياسي.
الحنق والغضب السعودي مرده الى سوء تقدير منظومة العمل والتحالفات بين ايران وحلفائها في المنطقة. تشير المعلومات الى ان السعوديين طلبوا مرارًا من الايرانيين خلال جلسات التفاوض التوسط لهم مع انصار الله لوقف عمليات تحرير مأرب وايجاد مخرج سياسي للحرب، في حين كان رد الايرانيين مرارًا ان الامر مرتبط بأنصار الله وعليكم التفاوض معهم مباشرة، وهذا ما تردد مرارًا في الاعلام. ما زاد الجنون السعودي هو الرد الايراني المماثل بعد طلب السعوديين من ايران التوسط مع حزب الله للعب دور في حل ازمات السعودية في اليمن ولبنان، وكان الرد الايراني مطابقًا لسابقه بأن الشأن اللبناني شأن داخلي لا تتدخل فيه ايران لا من قريب ولا من بعيد.
رغم حشدها لكل الابواق الاعلامية والسياسية وقطعان المطبلين لم يجارِ السعودية في قرارها قطع العلاقات مع لبنان سوى امارات ابن زايد وممكلة الريتويت في البحرين، في حين كانت الاستجابة الكويتية خجلة بعد ان اوصل الكويتيون للجانب اللبناني حرصهم على العلاقات الثنائية والمصالح المشتركة بين البلدين.
بالمحصله فإن السعودية تواجه اليوم نتائج مسلسل طويل من الاخفاقات والفشل السياسي والامني والعسكري من صنعاء الى بيروت مرورًا بدمشق وبغداد. وفي حين كان ابن سلمان يتبجح بنقل المعركة الى داخل طهران باتت الرياض غير قادرة على حماية امنها ونفطها فضلًا عن معاركها الاستراتيجية التي يتردد صدى هزائمها بعيدًا.
السعودية اليوم وحش كاسر متعطش للدماء، لكن قواه وادواته لا تعينه حتى على اقالة وزير في حكومة هشة ببلد مشرذم، فما كان زئيرها الا صدى للالم الذي تتجرعه في مأرب والخيبة التي لاقتها في كل المعارك التي خاضتها. فهي اليوم بلا انيابٍ قادرةٍ على تنفيذ مخططها في لبنان والمنطقة. كل هذا يجعلنا نلاحظ وجه الشبه بين ابن سلمان ووكيله في لبنان سمير جعجع، فإن الرجلين يشتركان في الخسارة الدائمة في كل الحروب التي خاضاها حتى اليوم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.