جواد نصر الله – خاص الناشر |
نحن أبناء الأحياء التي احتضنت الانطلاقة الأولى من بعلبك ومسجد الإمام علي عليه السلام الى بئر العبد ومسجد الإمام الرضا عليه السلام، وصلوات الجمعة التي كانت بإمامة آية الله السيد محمد حسين فضل الله عليه رضوان الله وصلاته على قوافل الشهداء التي لا زالت تجلجل في ذلك الشارع، وحفظت صورهم جدرانه، والضيوف في المنزل أهل المقاومة وقادتها وشهداؤها من الأستاذ السيّد عباس الموسوي رضوان الله عليه الى الحاج عماد والسيّد ذو الفقار ومن العلماء الكرام وآخرين كثر.
أسرد هذا لأقول إن الحضن الذي نبت فيه هادي زرع فيه هذا التعلق، من المسجدية الى الثوار والثورة.
ثم كانت ١٩٩٢ والانتقال الى حارة حريك، وهناك كانت مراكز المقاومين من القوة الخاصة والعمليات جيراننا ورفاقنا، نلعب معهم الكرة ويبادلوننا المحبة والأخوّة، وجلّهم قضى شهيدًا في الجبل الرفيع وعقماتا وسجد وغيرها من أماكن الملاحم البطولية والمواجهات. أنا إنْ ذكرتهم لا أعد منهم إلا أسيرًا محررًا مثل سامي شهاب أو شهيدًا قائدًا كأبي أدهم وعبد الرسول وجلال رمال وكثيرين، وبعضهم يستبشرون، ما زالوا يخوضون المعارك ذودًا وحبًا، ترى فيهم ذكريات الماضين، في السهرات والبيوتات وأدق تفاصيل الأيام. هم مثل أي أحد تراه في الشارع أو في الحياة، يبنون بيوتًا في الدنيا ويلعبون ويمزحون، لكنهم كانوا أكرنا جودًا وأنقانا قلوبًا لينجذبوا الى معدن العشق الأزلي. وإلا ما سر انقياد شاب في مقتبل عمره لم يلقّنه أحد الحب عنوةً أو يُلزمه بالمسير في درب ذات الشوكة.
هادي اختار ذات الشوق والعشق، اتساع الأفق في عقل الشاب الذي لم يكن يبلغ الخامسة عشرة من العمر، ومرافقته للكثير ممن هم أكبر منه سنًّا كانت من علامات النضجج والإدراك. هو لم يكن ينطلق الى الخطر للخطر والعراضة أو ليسجل حضوره بين المجاهدين ليعطي سهمًا لأبيه حبيبه وحبيبهم، كان يسلك الطريق الى الله، يحدّثني عن هذا العشق السامي عن المدى الرحب عن اللامكان ولا تعب ولا حدود، يقول فقط عليك الانطلاق بقلبك وتطهيره والتوسّل بالزهراء عليها السلام. ولطالما كانت روحه متعلقة بندبية مطلعها “سكني روع النفوس وامسحي فوق الرؤوس يا زهراء” ويرددها بصوته.
آخر ساعات الوداع لا زالت دافئة رغم سرعتها. أحس بخده وقبلته وتورّد وجهه. لم أتعود منه هذا الحنان ونحن ندان مشاغبان متحابان توأما روح ووجدان. قال سأعود خلال يومين وأرجو أن لا أعود، ادعوا لي كي لا أعود. كان مهندماً مرتباً حينها وهو ممن يكترث ويهتم لمظهره جدًا، لكن هذه المرة كان عريسًا، يتملّق السماء، كأن مناديةً من خلف الغيم سلبت سمعه عن ضجيج المحيطين به قبل لحظة الالتحام.
وجاء الخبر، قالوا مفقود الأثر، ثم أتتنا الصور ثم أُذيع أنه أُسِر. كان ذلك قدرًا ونصرًا يستوجب الشكر على مدار العمر، على مدى العرفان. هادي ابن هذا البيت، ولكنه يحمل صفات ربّ هذا البيت، وكثيرًا من خواص الشهداء، بالتواضع وخدمة الناس والمحبة والابتسامة وصفاء السريرة. لم أعهده يأكل لحم أحد، كان سخيًا بالنفس والكف، ولا عجب أن السماء تختار أجملنا وهي تدري أنها بلا سلّم للوصال، إن كنت تريدها عليك كسر قضبان القفص، ولا تناديك تكرارًا، هي لا تحب المتحيرين، انما اهل العشق الحقيقي.
ما إنْ تقولُ هيت لك
قال لبّيتُ لك
بعد هذا العمر أدركت بعضاً مما أحب وسكن جوفه، صار يقينًا أنه كان عاشقًا وبصيرًا، ولكن هذه السرعة في الوصال عجيبة قد أعلم سرّها يومًا ما.
السلام على أهل معرفة الله
الباذلين مهجهم
الى كل أخواني الشهداء
في الحب هم هادي
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.