ولد رامبو كشخصية سينمائية أميركية بعد الحرب الفيتنامية ـ الأميركية بعشر سنوات في فيلم تمت تسميته ” الدم الأول “، وتبعته سلسلة أفلام جال فيها عدة دول كان للولايات المتحدة الأميركية تدخل عسكري فيها مباشر وغير مباشر، وفي أحد الأفلام دخل رامبو أفغانستان مقاتلًا إلى جانب الأفغان في حربهم ضد الجيش السوفياتي.
ولادة هذه الشخصية الهوليوودية بعد الهزيمة الأميركية بعشر سنوات كانت ضرورة أميركية لخلق صورة لبطل أميركي خارق لا يهزم، ولشعور الأميركي بضرورة قلب صورة الهزيمة التي تعرضت لها الولايات المتحدة في فيتنام إلى صورة ثانية مغايرة.
صحيح أن أميركا هُزمت في فيتنام، وأدت تلك الحرب إلى تصدع الصورة الحديثة لأميركا، وخاصة بعد ظهور وجهها اللا إنساني البشع نتيجة استخدامها لكافة الأسلحة المحرمة دوليًا. وقد نشر سيمور هيرش في كتابه “مذكرات صحفي استقصائي” عن أنواع الأسلحة الكيمائية والجرثومية التي استعملتها، وأصابت الفيتناميين وجزءًا من الجنود الأميركيين، وقُضي على الغطاء النباتي بما أسموه ” العامل البرتقالي” الذي هو عبارة عن مواد سامة رشت فوق الغابات التي كان يختبىء فيها الفيتكونغ.
نتيجة هذه الصورة القذرة كان لا بد من خلق صورة بطل يحرف الأنظار في العالم عما حصل فعليًا، فكان رامبو. وأدت هذه الصوره دورها في العقل الجمعي وتمكنت من قلب الهزيمة في فيتنام إلى إيجاد البطل الأميركي الذي يقوم بتحرير الرهائن وبعمليات لمساعدة الناس، مقدمًا صورة إنسانية مغايرة عما حدث للجندي الأميركي الذي همه الأول والأخير العمل العسكري بقالب إنساني. وقد استطاعت هوليوود بفضل تمددها العالمي إنجاح هذه الصورة إلى حد كبير فحولت الهزيمة في فيتنام إلى نصر بفضل رامبو.
ماذا حل برامبو في العقود الأخيرة؟
نتيجة للانتشار الكبير للصورة غير المسيطر عليها أمريكيًا، وعلى امتداد البقاع الجغرافية التي أجرت الولايات المتحدة فيها غزواتها وعملياتها العسكريه، وخاصة في العراق وأفغانستان، رأينا تصوير الاستهدافات العسكرية للجنود الأميركيين وظهورهم مقتولين ومجروحين، ومأسورين مع قواربهم في الخليج على يد البحرية الإيرانية، إضافة إلى الصور التي تسربت من المعتقلات التي أنشؤوها، وطريقة معاملة المعتقلين والأسرى فيها، فهذه الصور مع تعميمها على الرأي العام العالمي أسقطت عن الجندي الأميركي خاصية البطل الذي لا يقهر، وخاصية الصورة الإنسانية بأنه الذي يقدم المساعدة للناس والمعذبين ويحررهم.
آخر جندي صعد إلى الطائرة العسكرية في مطار كابل مثّلَ آخر رامبو، مع المفارقة أنه كان رامبو الهارب والمهزوم، وليس رامبو البطل. وفي طريق هروبه الكبير والأخير تعلم هوليوود ومن خلفها الإدارة الأمريكية أنها بحاجة لرامبو جديد، وصناعة بطل عالمي جديد، وهذه الخاصية بحاجة لمسرح جديد، ومع خسارتها مسارح عملياتها، وبقاع انتشارها العالمية، والمنافسة الشديدة في الحرب الإعلامية، وظهور الأبطال الجدد الذين حطموا صورة رامبو فإن هذه الصناعة فقدت هيبتها، وأصبحت بحاجة للتجديد، والتجديد خارج أدغال فيتنام، وأدغال أميركا الجنوبية، وخارج آسيا، وأفريقيا، وحتى خارج حرب النجوم، والنزول على القمر، والإبحار إلى الكواكب المختلفة. وقد تيقنت الولايات المتحدة سابقًا أن الحرب والبطولة على الأرض وليست في الفضاء، وأن القوي من يسيطر على الأرض وشعوبها.
المنطق الأميركي تكشّفَ يومًا بعد يوم، وسقطت الهالة الكاذبة رغم كل الغطاء المالي، والإعلامي الضخم، ومن أسقطها الشعوب الفقيرة بإرادتها وأسلحتها البسيطة وإيمانها بأن المقاومة هي السبيل الوحيد للوقوف بوجه الغازي والمستعمر، وظهر أن المقاومة متعددة النتائج، منها أن قتل الجندي الأميركي المحتل سواء في أفغانستان أو العراق أو غواتيمالا أصاب هوليوود بهزيمة نكراء، ولم يعد باستطاعتها أن تحلم ببطل جديد وتولّده في استديوهاتها، فالسحق الذي تعرضت له صورة رامبو على مختلف المسارح العالمية حوّل رعاة البقر إلى مطاردين ومطرودين أينما حلوا، وفي أول هزيمة في آخر حروب الولايات المتحدة الأميركية تم ذبح آخر رامبو على مدرجات مطار كابل، وتناثرت صورته الممزقة على رمال صحراء رجيستان، ولم يعد بالإمكان خلق رامبو جديد.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.