عندما يعجز الاحتلال: كيف تُصنَع الحروب الأهلية بالوكالة؟

6

عندما تفشل قوى الاحتلال في إخضاع شعب ما بالقوة المباشرة، تلجأ إلى سلاح خطير هو تحويل الصراع من مواجهة تحررية واضحة ضد المحتل إلى نزاع داخلي مُنهِك، تُدار فصوله بأيدٍ محلية وقرار خارجي.

حين يفشل الاحتلال في كسر إرادة مجتمعٍ ما بالقوة المباشرة، لا ينسحب ولا يراجع نفسه، بل يغيّر أدواته. ينتقل من الدبابة إلى الميليشيا، ومن الحاكم العسكري إلى الواجهة المحلية، ومن القمع الفجّ إلى التفكيك الناعم. هنا لا يعود الصراع مواجهة واضحة بين محتلّ وشعب، بل يتحول إلى نزاع داخلي وأهلي، وصراع على “الشرعية” داخل المجتمع الواحد.

هذا الأسلوب استخدمته قوى الاستعمار القديمة والاحتلالات الحديثة على السواء: صناعة قوى محلية موازية تُؤدّي وظيفة واحدة واضحة: إعفاء المحتل من كلفة السيطرة، وتحميل المجتمع كلفة تمزيق نفسه بنفسه. هنا يلجأ المحتل إلى ما يمكن تسميته “الاحتلال بالوكالة”، فنكون أمام ميليشيات محلية بتمويل وتسليح خارجي، ولجان أمنية تُدار بعقيدة ليست وطنية، وواجهات سياسية تُقدَّم كبدائل “عقلانية” عن قوى التحرر.

الهدف هنا ليس بناء دولة، ولا حماية مجتمع، بل إدارة السكان وضبطهم كما يريد المحتل، وتحويل المقاومة من قضية وطنية جامعة إلى عبء داخلي يُخيف الناس من أنفسهم.

جنوب لبنان: جيش العميل أنطوان لحد
أسس الجيش الإسرائيلي عام 1976 في جنوب لبنان ميليشيا كان أفرادها من أبناء القرى الجنوبية بالإضافة إلى عناصر منشقة عن الجيش اللبناني. وكان أول قائد لها الرائد سعد حداد. وبعد الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان عام 1978 الذي عُرف بعملية الليطاني توسعت منطقة سيطرة هذه الميليشيا بسبب توسع احتلال جيش العدو.
بعد وفاة حداد عام 1984، خلفه أنطوان لحد. وفي عام 2000 بعد تحرير الجنوب اللبناني فر عناصر الميليشيا إلى داخل فلسطين المحتلة.

الجزائر: عندما حاولت فرنسا تحويل التحرير إلى حرب أهلية
خلال ثورة التحرير الجزائرية، جنّدت فرنسا عشرات الآلاف من الجزائريين في ما عُرف بـ”الحركي”. لم يكن هؤلاء مجرّد متعاونين، بل أداة استراتيجية لمحاولة تصوير الصراع على أنه نزاع داخلي بين جزائريين، لا حرب تحرير ضد استعمار. وقد فشلت فرنسا في كسب المعركة، لكنها نجحت في ترك جرح اجتماعي عميق ما زال حاضرًا في الذاكرة الجزائرية حتى اليوم.

فيتنام: دولة من ورق تنهار مع أول انسحاب
في فيتنام، أنشأت الولايات المتحدة دولة كاملة في الجنوب، بجيش وأجهزة وإعلام، لكنها كانت بلا جذور شعبية. ما إن انسحبت القوات الأميركية، حتى انهار كل شيء خلال أيام. وكان الدرس فاضحًا: الكيانات المصنوعة في غرف الاستخبارات لا تعيش خارج ظلّها.

فلسطين: من روابط القرى إلى السلطة الوظيفية
في فلسطين، حاول الاحتلال الإسرائيلي منذ وقت مبكر خلق قيادات محلية بديلة عن الحركة الوطنية. وقد فشلت “روابط القرى” لأنها كانت من دون أي شرعية شعبية. وفي العدوان الأخير على غزة دعم الجيش الإسرائيلي مجموعات من المرتزقة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، تعارض المقاومة الفلسطينية وتنشط في خدمة العدو.

ماذا يربح الاحتلال من هذه المجموعات؟ وماذا يخسر المجتمع؟
إن إنشاء مثل هذه المجموعات يخفض خسائر الاحتلال البشرية والسياسية ويشوه صورة المقاومة الوطنية ويحول الصراع إلى مشكلة داخلية. بينما يخسر المجتمع وحدته وبوصلته الوطنية وثقته بنفسه. والأمر الأشد خطورة أن هذه الخسائر لا تزول بزوال الاحتلال، بل تتحول إلى أزمات بنيوية اجتماعية طويلة الأمد.

لماذا تفشل هذه الاستراتيجية دائمًا؟
الملاحظ عبر التاريخ أن هذه الاستراتيجية تفشل دائمًا، لأن الشرعية لا تُصنَع بالقوة، ولا تُموَّل من الخارج. كل قوة محلية تُبنى ضد مجتمعها، لا معه، محكوم عليها بالسقوط، عاجلًا أم آجلًا. وقد ينجح الاحتلال في جعل أبناء البلد الواحد يتقاتلون، لكنه لا يستطيع أن يجعل هذا الصراع بديلًا دائمًا عن الحقيقة: أن هناك احتلالًا، وأن هناك شعبًا يرفضه.

الخلاصة: أخطر انتصارات الاحتلال
أخطر ما يحققه الاحتلال ليس السيطرة على الأرض، بل تشويه الصراع نفسه. حين يصبح العدو غير مرئي، وحين يتحول ابن البلد إلى خصم، يكون الاحتلال قد ربح جولة خطيرة. لكن التاريخ يقول شيئًا واحدًا بوضوح: كل صراع أُعيد إلى جذره الحقيقي، سقطت فيه الواجهات، وانكشفت الأدوات، وبقيت الحقيقة عارية: لا استقرار فوق الظلم، ولا سلام تُقيمه الميليشيات، ولا وطن يُبنى ضد شعبه.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.