مع اشتداد العدوان على إيران واندلاع ما يمكن وصفه بأوسع مواجهة في تاريخ المنطقة الحديث، تدعي الولايات المتحدة الأميركية ومعها جوقة الأطلسي بتبرير العدوان بوصفه “حربًا وقائية” تهدف إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني وتقويض قدراته الباليستية كونها تشكل خطرا إستراتيجيا لوجود إسرائيل في المنطقة. غير أن ما يجري واقعاً يشير إلى أهداف العدوان تتجاوز كثيرًا العناوين العسكرية والتقنية، لتلامس عمق الصراع الحضاري والسياسي العالمي.
ما يُخيف المنظومة الغربية اليوم ليس مجرد امتلاك إيران لسلاح نووي محتمل، بل امتلاكها “المعرفة النووية” وتطويعها بشكل مستقل، في ظل حصار شديد وعقوبات متواصلة منذ عقود. لقد تمكنت إيران من بناء شبكة أبحاث متقدمة وإنتاج أجهزة طرد مركزي محلية وتطوير البرنامجين النووي والصاروخي دون الحاجة لأي دعم خارجي.
هذا التقدّم العلمي في دولة غير خاضعة للمنظومة الغربية يمثل كسرًا خطيرًا للاحتكار المعرفي والتقني الذي تقوم عليه الهيمنة الغربية عالميًا. فالمعرفة النووية، كما المعرفة العسكرية والتقنية، لم تعد حكرًا على “نادي الأقوياء” بل باتت بيد دولة تعتبرها واشنطن “مارقة”، وهذا ما يجعلها خطرًا وجوديًا بنظر الغرب، لا تهديدًا أمنيًا فحسب.
إلى جانب خطرها المعرفي، تُمثّل إيران نموذجًا سياسيًا-اجتماعيًا مختلفًا عمّا تسعى المنظومة الغربية لفرضه عالميًا. فهي تتبنى سياسة خارجية مستقلة وفق مصالحها ومصالح الجوار، ترفض التبعية الاقتصادية للسوق النيو ليبرالي الغربي وتسعى الى تنويع المصادر والاستقلال الاقتصادي من خلال الشركات مع دول آسيا وميكا اللاتينية إضافة الى دعمها قوى المقاومة والتحرر في المنطقة.
هذه الاستقلالية والقدرة على الصمود، جعلت منها “نموذجًا حيًا” للدول والشعوب الساعية في التحرر من الهيمنة الغربية. هذا ما يفسّر حالة القلق في العواصم الغربية من “تصدير النموذج الإيراني” إلى باقي دول “العالم غير الغربي”، بدءًا من أميركا اللاتينية، وصولًا إلى أفريقيا وآسيا الوسطى.
رغم أن العنوان الرسمي للحرب هو “وقف التهديد النووي والباليستي”، فإن ما تُنفّذه إسرائيل بدعم أميركي وأطلسي هو مشروع أعمق بكثير، يشمل إسقاط النظام في إيران عبر شل مؤسساته وبنيته التحتية، تقسيم وتفتيت الجغرافيا الإيرانية إلى كيانات إثنية أو مذهبية متناحرة (بلوش، أكراد، عرب، تركمان وغيرها) تعميم الفوضى الإقليمية لتشمل العراق وسوريا ولبنان ومصر وتركيا والأردن، بما يُعيد تشكيل خريطة المنطقة بالكامل. اما الهدف الاستراتيجي الأبعد فهو منح إسرائيل المجال لتتسيّد غرب آسيا بالكامل، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لقرن كامل دون منافس.
بسيطرة إسرائيل والغرب على عمق آسيا الغربية تحرم الصين من أحد أهم مسارات “مبادرة الحزام والطريق” وتُحاصر روسيا استراتيجيًا من الجنوب حتى يُعاد رسم نظام عالمي أحادي القطبية، تقوده واشنطن وتديره تل أبيب بعدما ظنّ البعض أن عصر التعددية بدأ.
وبهذا المعنى، فإن العدوان على إيران ليس معركة محلية، بل حلقة في مشروع عالمي لتصفية كل البدائل السياسية والحضارية والاقتصادية التي تهدّد “نظام الهيمنة الغربي” القائم منذ نهاية الحرب الباردة.
إيران اليوم ليست مجرد دولة إقليمية صاعدة؛ إنها عنوان لمشروع مقاوم، مستقل ومعرفي يملك مفاتيح التحدي الحقيقي للهيمنة الغربية. لذلك، فإن ما يجري ضدها هو محاولة استباق تاريخية لضرب البديل قبل أن يكتمل، ولمنع “نموذج المقاومة والسيادة “من التحوّل إلى “عدوى سياسية” تنتقل إلى شعوب ودول أخرى.
العدوان على إيران هو عدوان على فكرة الاستقلال والكرامة، وعلى حق الشعوب في بناء نماذجها الخاصة وهذا ما لن تتمكن من تحقيقه امبراطورية الغرب المتوحش. وهو في جوهره، معركة بين عالم يحتضر وآخر يُولد.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.