د. سلام العبيدي* – خاص الناشر |
المرحلة الراهنة التي تمر بها روسيا تعد مرحلة مصيرية لروسيا نفسها بالدرجة الأولى. البلاد تشهد مرحلة إعادة توزيع للقوى وإعادة تموضع للنخب التي تمسك بزمام الأمور. مخاض هذه المرحلة عسير ودراماتيكي، وكأن روسيا تمشي على شفرة سكين. الحرب في أوكرانيا فُرضت على روسيا. النصر العسكري الذي يجري الحديث عنه قد يتحول إلى وهم وسراب. نعم، يمكن هزيمة الجيش الأوكراني وتكبيده خسائر فادحة والاستيلاء على مزيد من الأراضي. لكن ماذا يمكن العمل بهذا النصر على الصعيد العملي؟ هل روسيا بحاجة إلى اراض جديدة وهي لا تستغل سوى مليون كيلو متر مربع من مساحتها التي تبلغ 17 مليونًا؟ صحيح أن تعداد سكان روسيا متواضع جدًّا قياسا بمساحتها الشاسعة، وأن ضم أراض جديدة يعني ضم سكان جدد. عدد سكان المناطق التي ضمتها روسيا، بضمنها شبه جزيرة القرم، كان يقدر بنحو 8 ملايين نسمة قبل الحرب. اما بعد الضم فانخفض بمقدار النصف، أي إلى 4 ملايين فقط ضمن الحدود الجديدة لروسيا. فهل هذا نجاح فعلًا؟ لماذا فرّ نصف السكان من “المناطق المحررة”؟
مئات المدن والقرى تحولت إلى ركام. من سيعيد بناءها؟ من سيتحمل التكاليف؟ ما مصير أكثر من 300 مليار دولار من الودائع الروسية المجمدة في الغرب؟
أوكرانيا مهدّدة بالتفكك على غرار يوغسلافيا. هل هذا من مصلحة روسيا؟ هل من مصلحة روسيا أن تنضم هذه الشظايا لدول الناتو المجاورة لتصبح جغرافيا الحلف أكثر قربًا إلى روسيا؟
روسيا شنّت الحرب لإيقاف عملية دمج أوكرانيا في الناتو. في المحصلة انضمت فنلندا والسويد إلى الناتو وما سيتبقى من أوكرانيا سينضم إلى الناتو أيضًا. أين الربح والخسارة في هذه المعادلة؟
الاعلام الغربي بالفعل يشن حملة إعلامية غير مسبوقة ضدّ روسيا، لكن هل الإعلام الروسي هو الآخر نزيه؟ هل نقل بنزاهة وشفافية واخلاقية مهنية جرائم الإبادة الجماعية التي لا يزال الكيان الإسرائيلي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني؟ هل ما ينقله الإعلام الروسي حول ما يجري في منطقة الحرب وحتّى في روسيا نفسها يمكن اعتماده كتغطية موضوعية وموثوقة؟ من الطبيعي أن يوظف الإعلام في الحرب لخدمة أهداف كلّ طرف منخرط فيها. لذا، يجب البحث عن الحقيقة عند طرف محايد.
ليس كلّ ما تروج له روسيا يتفق مع الواقع. الصناعات الروسية، بما في ذلك العسكرية، لا تزال متأخرة إلى حد ما عن التكنولوجيات الغربية. روسيا لديها تفوق كمّي وكثافة نارية اعلى، لكن أوكرانيا لديها أسلحة وعتاد أكثر دقة، وهذا ما يفسر عدم حسم المعركة حتّى الآن لصالح روسيا. إضافة إلى ذلك فان الأوكراني يدعي انه يقاتل من أجل قضية – تحرير الأرض – اما الروسي فيقاتل من أجل شعار العالم الروسي! هل الكل في روسيا يتفقون مع هذا الشعار؟
مذ اعلن ميخائيل غورباتشوف البريسترويكا مرت 4 عقود. انها فترة كفيلة بغسل ادمغة أبناء المجتمع الروسي الذي لم يبق فيه أي اثر للاتحاد السوفييتي السابق. الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة كانا على طرفي نقيض. روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي بكلّ القيم والمقاييس والأهداف. روسيا دولة رأسمالية أوليغارشية تتعامل مع كلّ شيء ببراغماتية، أي بانتهازية ومصلحية.
في المرحلة الراهنة، كما ذكرنا أعلاه، تشهد روسيا صراعًا بين النخب. حتّى تعثر الحرب الأوكرانية الذي نراه مرتبط بهذا الصراع. هناك نخبة موالية للغرب وداعمة للكيان الإسرائيلي تضع العصا في الدولاب وتعرقل أي تقدم عسكري أو حل سياسي مربح لروسيا. المفارقة أن هذه النخبة مرتبطة مع نخبة مماثلة في أوكرانيا.
لذلك، فإن الحرب الأوكرانية تبدو مما أوردنا أعلاه حربًا عبثية في كلّ المقاييس والاعتبارات؛ تدمير للقدرات البشرية والاقتصادية والعسكرية لكل من روسيا وأوكرانيا. لو كانت روسيا منذ البداية فعلًا حريصة على مقارعة الغرب من أجل بناء عالم جديد أكثر عدالة لسلكت طريقًا آخر، طريقًا سلميًا سياسيًّا دبلوماسيًا. روسيا كانت تراهن حتّى قبل الحرب الأوكرانية على الاتفاق مع الغرب حول حدود ومناطق النفوذ. هي لا تنفي ذلك. الرئيس فلاديمير بوتين قال في أكثر من مناسبة إنه كان يريد ضم بلاده إلى حلف شمال الأطلسي. روسيا كانت دائمًا مستعدة للمساومة على كلّ شيء مقابل مكانة ودور ينسجمان مع تطلعاتها ومصالحها وأطماعها. هي بالأساس استغلت كلّ ما كان لديها من أوراق (إيران، سورية، إفريقيا، القوقاز واسيا الوسطى، بريكس،…) للمساومة مع الغرب. لكن الأنانية الغربية حالت دون التوصل إلى اتفاق. الحكومة العالمية لا ترى في روسيا ندًّا. هي تعتبر روسيا مكمنًا للثروات التي يجب استغلالها لا أكثر.
فقط بعد أن تورطت روسيا في وحل الحرب الأوكرانية وسقطت في فخ العقوبات والحصار والشيطنة المدمرة بدأت تخرج من جعبتها ملفات قديمة تكدس عليها غبار الزمن وتعود إلى الحقبة السوفييتية. نرى روسيا اليوم ترفع شعار النضال ضدّ الاستعمار والإمبريالية والرأسمالية المتوحشة. شيء غريب. روسيا نفسها أصبحت جزءًا من هذا العالم المتوحش. روسيا حتّى الآن تصادر قراراتها السياسية حفنة أوليغارشية متوحشة مرتبطة بالإمبريالية الجديدة والصهيونية العالمية.
العمل الإرهابي الدموي الذي استهدف قاعة حفلات “كروكوس” هو الأخير يصب في مجرى الحرب التي تدور في روسيا وضد روسيا وبمشاركة روسيا. في هذا العمل الدنيء التقت مصالح الإرهاب الدولي والصهيونية العالمية والإمبريالية الغربية الجديدة والطابور الخامس في روسيا المرتبط بالأطراف الثلاثة آنفة الذكر.
في خطابه السنوي قال بوتين إن النخب الجديدة التي ستلعب الأدوار الرئيسية في البلاد بعد انتهاء الحرب الأوكرانية ستشكّل من المشاركين في الحرب! من هؤلاء؟ وكيف سيديرون شؤون البلاد؟ علامة استفهام كبيرة.
اما الاسئلة الجوهرية التي تحتاج إلى جواب الآن: ما هو موقع بوتين على الرقعة الشطرنجية التي تمثل أحجارها النخب التي تسيطر على روسيا؟ هل هو الملك؟ الأبيض أم الاسود؟ هل هو حجر آخر؟ ومن هم البيادق؟ هل سيتم استبدالهم ببيادق أخرى من جبهات الحرب؟ ومن سيكسب اللعبة في النهاية؟
أخشى أن غزّة، فلسطين، الشرق الأوسط وكلّ شيء آخر مجرد رهانات في لعبة الشطرنج الروسية.
- مركز “اتّجاهات” للدراسات السياسية والتنبؤات واستشراف المستقبل
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.