محمد علي – خاص الناشر |
لا يخفى على متابع للشّأن اللّبنانيّ ما للطّوائف من دور في تكوين الرّؤى السّياسيّة لدى اللّبنانيّين. فبعد أن كان ديدن كثير من الزّعماء اعتماد أُسلوب المحاصصة وتوزيع الحقائب وغيرها من الأساليب التي استبدلت العمليّة السّياسيّة الطّبيعيّة؛ وبعد أن عملت بعض الأطراف الفاقدة لمشروع سياسيّ حقيقيّ على إقناع الرّأي العامّ بأنّ الإصلاح الشّامل في البلد أمر لا يتحقّق إلّا عن طريق إقصاء الآخر، اعتاد جزء كبير من الشّعب على تقبُّل التّبسيطات من قبل الزّعماء في خطابهم، لأنّه تفسير لمعاناتهم مُشعر بسهولة المعالجة، يختصر عليهم طريق النّظر والمعرفة، ويغنيهم عن اتّباع حكم الوجدان الوطنيّ والانسانيّ بوجوب تجنّب الشّحناء والبغضاء بين أبناء الأرض الواحدة، فضلًا عن محاولة إشعال حرب أهليّة كما قد يتمنّى العاجزون..
نطرح كمثال على ذلك: الخطاب الطّائفيّ الذي يعتمده بعض السّياسيّين عند كلّ إطلالة إعلاميّة لهم. فبعد أن عجزوا عن تغيير واقع البلد سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، قرّروا الانتحار الثّقافيّ، وتصدير الخلاصات استخفافًا بعقول النّاس. لا أتحدّث عن تبسيطات من قبيل اتّهام سعد الحريري لحزب الله باغتيال والده من دون دليل كما صرّح مؤخّرًا بملء الفم،[1] فهذه تبسيطات قد تكون طائفيّة من حيث إنّها تخرط الذّهنيّة المتطرّفة التي عُمل على زرعها بعد اغتيال والده وصولًا إلى الأحداث في سوريا، لكن بحسب الظّاهر يُراد بها تسلية جمهور فقد الأمل بزعيمه، أو ربما إخباره بأنه قد عاد أصلب عودًا ممّا كان عند اختطافه مثلًا..
كما أنّني لا أتحدّث عن تبسيطات من قبيل ادّعاء كون تأكيد المقاومة على الوحدة الوطنيّة مجرّد “ثرثرة” وزعم أنّ لحزب الله “مهمّة واحدة وهي تقوية المشروع الايرانيّ بحُجّة تقوية المشروع الشّيعيّ في لبنان، بكلّ بساطة”.[2] فمع أنّ هذه التّبسيطات تستند في جوهرها إلى التّخويف وفيها رشحة طائفيّة تحكي عدم تمكّن راميها من تجاوز الغيريّة المذهبيّة، أو اضطراره إلى ترميم عجزه عن سرد الوقائع السّياسيّة بلغة الدّليل والبرهان. ولكنّها أيضًا ليست من نوع التّبسيطات الذي أُشير إليه في المقام، والذي بات واضحًا لدى من يتابع تصريحات وتحليلات هؤلاء في اطلالاتهم الاعلاميّة وعلى مواقع التّواصل الاجتماعيّ أنّهم يتعمّدون إلقائها، فهي ممنهجة، وليست زلّة لسان تفضح طائفيّة المتكلّم..
بل إنّ ما أقصده من التّبسيط في المقام هو خطاب طائفيّ من نوع جديد، يتناول القضايا الدّينيّة بعينها، ويعتمده هؤلاء من أجل التَّهرُّب من الحوار المنهجيّ العلميّ المدعّم بالشّواهد والحُجج، لأنّه قابل للمساءلة من جمهورهم عندما يتبيّن كذبهم وتدليسهم، ومن أجل كسر حواجز اجتماعيّة يدركون جيّدًا أنه لطالما كان المناط في حفظ السّلم الأهليّ والتّعايش المشترك عليها. ولأنّ تعويد النّاس على التّجاسر في الخطاب الدّينيّ والتّخلّي عن الاحترام المتبادل، وهو ما قصدناه من الانتحار الثّقافيّ، قابل للاستثمار السّياسيّ والأمنيّ الذي لا يجد هؤلاء خيارًا غيره في تحقيق ماربهم. فلا حُرمة لمن “لا يشبههم”، بل إنّ دمه مهدور. لذا تراهم على أتمّ الاستعداد لاتّهام المقاومين بالاختباء بين المدنيّين،[3] “التّبسيط” الذي دائمًا ما يستخدمه العدوّ الصّهيونيّ لتبرير قتل الأبرياء..
إذن فهو خطاب دينيّ في الظّاهر، طائفيّ في الباطن، سياسيّ الغاية، صهيونيّ الرّعاية. فهو غير ملتزم بأيّ من أدبيّات وأخلاقيّات الخطاب الدّينيّ المعتمد في الحوار الكلاميّ أو مؤتمرات التّقارب بين الأديان مثلًا، كما أنّه لا يهدف إلى تقريب أصحاب الدّيانات المختلفة ولا الاستدلال على بطلان المعتقدات الدّينيّة للشّيعة بأُسلوب علميّ كلاميّ. إنّما هدفه ما يسمّى بالـ “othering”، ومعناه: التّأكيد على “آخريّة” الطّرف المقابل، يتبعه “تصدير خلاصة” تقول بأنّك “بدلًا من التّهديد بالطّلاق” أي من حزب الله وبيئته “فلتباشر به”..[4]
هذا الخطاب في غاية الفساد على المستوى الثّقافيّ، ليس فقط لأنّه يُخلّ بآداب التّواصل ويخدم مصلحة العدوّ الصّهيونيّ الذي يريد تقسيم لبنان، ولكن أيضًا لأنّه مفتقر إلى الخلفيّة المطلوبة لخوضه. ما الذي يدعو شخصًا لا علاقة له بمصادر التّاريخ الاسلاميّ لا من قريب ولا من بعيد، إلى انتقاد رأي الشّيعة بأنّ الذي جمع القرآن هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، أو إلى وصف ذلك القول بـ “المغالاة”؟ ورغم أنّه لم يشمّ رائحة علمَي الأُصول والفقه، يجرؤ على إدانة حكم شرعيّ كحرمة الغناء، وينعت الشّيعة بالمتطرّفين لكونهم يعتقدون بوجوب الاستعداد للمعركة الكبرى التي سيقودها الإمام المهديّ عليه السّلام عند ظهوره.[5] وهو يعلم بأنّه وأغلب الشّعب اللّبنانيّ ليس ملمًّا بهذه القضايا وبالتّالي يكون قابلًا للتّخويف. ثمّ لكلّ مقام مقال، فهذه مسائل منوطة بقيام الدّليل، لذا عليه إذا كان صادقًا أن يناظر أهل الاختصاص فيها، لكن أنّى له ذلك..
أو مثلًا عندما “يحلّل” أحدهم ويصف ولاية الفقيه بالـ “أُسطورة التي زيد عليها الكثير من الاجتهادات”،[6] مقحِمًا السّياسة في مسألة فقهيّة، أو يتحدّث أحد المحسوبين على الفريق الذي يحاول البروز كمناصر لقيام الدّولة وبناء الوطن وقبول الآخر، فيصف عقيدة الشّيعة بـ “التّجليطة”،[7] فهل يكون غرضه من ذلك – بالإضافة إلى تشجيع المواطنين على اعتماد نفس الخطاب التّحريضيّ – سوى إقناع من لا يعرف الشّيعة عن قرب بأنّ هذه المسائل تسدّ الطّريق أمام العيش المشترك، وأنّ هذه الاعتقادات هي التي تُشلّ مؤسّسات الدّولة وتحول دون صيرورة لبنان وطنًا ذا اقتصاد قويّ؟!
الحقّ والانصاف أنّ حزب الله لا يسعى إلى تطبيق ولاية الفقيه كنظام حكم في لبنان لأنّ من شروط إعمال النّظام الاسلاميّ المقبوليّة العامّة كما هو معلوم لمن له أدنى معرفة بمباني ولاية الفقيه. ورأي الشّيعة في أنّ الذي جمع القرآن هو الإمام عليّ عليه السّلام لديهم أدلّتهم عليه ويمكن للمستهزئ التَّعرُّف عليها من خلال مراجعة رواياتهم وكلمات علمائهم ومن ثمّ مناقشتهم بدلًا من أن يقفو ما ليس له به علم. وأمّا وجوب الاستعداد لظهور الإمام المهديّ عليه السّلام فهو أمر يتعلّق بتحصيل القدرة على الدّفاع وردع المعتدين، ولا ينبغي لمن لا ينوي الافتراء على الشّيعة أن يستاء منه. وأمّا اتّهام الشّيعة بالتَّطرُّف، أو وصف عقيدتهم بالتّجليطة، أو غيرها من الاتّهامات الرّخيصة التي تبشّر بإفلاس قائلها في الجوانب الأُخرى، فهي لا تستحقّ التّبيين والتّوضيح لسخافتها..
وعلى كلّ حال، فلسنا كشيعة مضطرّين للدّفاع عن عقائدنا وتوضيح كون هذه القضايا غير مؤثّرة في وضع البلد على الاطلاق، فإنّها معتقدات دينيّة وليست مجرّد قناعات أو عادات حتى يحاول من فشل في حقل الاصلاح السّياسيّ والاقتصاديّ أن يشكّك ويستهزئ بها أو يسقطها من أعيُن النّاس. وإذا كانت ورقة ضغط على الشّيعة أنفسهم، كأن يكون المطلوب منهم أن يتخلّوا عن ايمانهم ومقدّساتهم الدّينيّة من أجل أن يخفّفوا عمّن لا يستوعب كونهم “لا يشبهونه”، فهي محاولة واهنة وما عجزت عنه أنظمة الجور على مرّ التّاريخ لن يُفلح به هؤلاء..
[1] هو ما ذكره ضمن كلامه في مقابلة مع محمود شكر على قناة “الحدث” بتاريخ 14 شباط 2024
[2] هو ما صرّح به ايلي خوري في مقابلة مع فادي شهوان على قناة “البديل” بتاريخ 10 شباط 2024
[3] هو ما ادّعاه مارك ضو في برنامج “غرفة الأخبار” على قناة “سكاي نيوز العربيّة” بتاريخ 17 شباط 2024
[4] نقلًا عن ايلي خوري في المقابلة المذكورة في المصادر السّابقة
[5] كلّ ما أوردناه من كلمات في هذه الفقرة مقتبس ممّا ذكره مارك ضو في برنامج “Hide Park” بتاريخ 12 أيلول 2023
[6] هو ما ذكره مصطفى علّوش لقناة “الحدث” بتاريخ 8 تشرين الأوّل 2022
[7] هو ما قاله شارل جبّور في برنامج “هنا بيروت” على قناة “الجديد” بتاريخ 29 كانون الثّاني 2022
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.