“طفّي الكاميرا”

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

فكرة: علي القاضي، تحرير: مهدي زلزلي

سألتُ أحدهم مرةً: بماذا تشعرون وأنتم تتلون وصاياكم أمام عدسة الكاميرا؟
-بأشياء كثيرة.
-لم أقصد المزاح.
-اسمع. قد تكون جالسًا مع الإخوة، تمازح كرار، وتناكف الحرّ، بينما أبو علي “يعمّر” إبريق الشاي، ومن جهاز اللاسلكي يصدح في أرجاء الغرفة الصوت الحاد لمسؤول الفصيل “يجب أن تعرف أن جميع من تسمع أسماءهم الآن قد استشهدوا”. وفجأة يرنّ الهاتف الداخلي: “الشباب وصلوا”.
والشباب هنا هم “جماعة الإعلام” المكلفون بتصوير الوصايا.
“فليتفضّل من لم يسجّل وصيته بعد إلى الاستوديو”.

يتداعى “محسوبك” وبعض من لم يسجّلوا بعد. نقفز إلى “التندرا”، ونبدأ بالبحث عن بقعة مشجّرة وخلابة. يقولون إنّ الاخضرار في الخلفية “شغلة كبيرة”.
نصل. يقول لنا “شاب الإعلام”: استعدوا، وكلّ من ينهي تسجيل وصيته عليه أن يفسح المجال لمن يأتي بعده.
تشعر أنّ “شباب الإعلام” خبراء في الشهداء. يحبون المزاح كثيرًا. ينظر المصوّر إلينا: أنت، وأنت، سيماء الشهادة بادية على سحنتيكما. ويكمل مازحًا: أما أنت، فلن تراها أبدًا!
يصمت قليلًا، ثمّ يضيف بصوت خافت: كلّ من قلت لهم “لن تروها” سبقوا الجميع إليها!
يضحك، ثمّ تتبدّل ملامحه. لا أحد يعلم كم مرَّ أمام عدسته من شهداء.
المهم. يأتي دور “محسوبك”: يا شباب. أعيرونا درعًا حالته جيدة، وبندقية “م16” نظيفة، وإن لم تتوفّر أستبدل بها هذا “الكلاشنكوف” وأمري إلى الله.
أحيانًا، يُحضر “شاب الإعلام” معه بدلة نظيفة. تعرف أنّ بدلاتنا تكون ألوانها حائلة من حرارة الشمس، ومعفرة بالتراب فوق ذلك.
“بلا طول سيرة”، نجلس. يطلب منا المصور قراءة وصيتين: واحدة عامة – وتكون معه نصوص جاهز لمن لا يحب الارتجال – وواحدة خاصة بالأهل والعائلة والأبناء.
يصل “المايكروفون”، وتكون الكاميرا قد جهزت، فتبدأ التعليقات “المهضومة” من الشباب، كما لو كنا نتحضّر لمقابلة في التلفزيون، ولك أن تتخيل حجم الضحك. يقاطع الضحك المتكلم مرة بعد مرة.
“خلص يا شباب. خلونا نعرف نقول هالكلمتين”.
ولا تبدأ بالكلام مجددًا قبل أن يخرج الشباب وتأخذ راحتك.
يضغط المصوّر زر الكاميرا ويبتعد. “نادني حين تنتهي”، يقول لك قبل أن يغادر.


لا تعرف من أين يأتيك ذلك الشعور الغريب في عزّ الضحك. تشعر أنك استشهدت فعلًا، وصرت في مكان آخر. أول ما يحضر إلى ذهنك هو أهلك وهم يشاهدون الوصية. ولتواصل الكلام إن كنت تستطيع. تخنقك الغصة. من الصعب أن تتخيل نفسك غير موجود، لا تحزن على نفسك، بل على أهلك، صعب أن تتخيلهم وهم يودعونك. الوداع هو أصعب ما في الأمر. مهمتنا سهلة. نحن نستشهد فقط. الألم الحقيقي هو عند من يبقى، من يفقدنا، والأم والزوجة قبل الجميع.
نتمالك أنفسنا ونبدأ. كنت قد حضرت وصيتي مكتوبةً. سهّل ذلك من مهمتي، ولكن ثلاثة أشخاص لا بد أن يحضروا ليمنعوك بالبكاء من مواصلة القراءة حتّى عن ورقة مكتوبة: أمك، زوجتك، وابنتك إذا كانت لديك ابنة. تشعر أنك تخاطبهم من الجنة.
وإذا كنت تحمل بقلبك شيئًا ما تجاه أحد من معارفك، فإن أكثر ما تفكر به أثناء تسجيل الوصية هو المسامحة. تطلبها من الآخرين وتمنحها لهم بلا تردّد. ومع أنك لا زلت موجودًا، إلا أنك تتصرف كما لو كنت في عالم آخر، لا تساوي هذه الدنيا أمامه شيئًا على الإطلاق.
حين تصل إلى زوجتك، يمرّ شريط حياتكما معًا في ثوانٍ أمام عينيك، اللحظة التي أحببتها فيها أول مرة، اللحظة التي تقدمت فيها إلى أهلها لطلب الزواج منها، لحظة الخطوبة، لحظة وضعها مولودكما الأول، لا تنسى كلّ لحظة قال فيها أحدكما للآخر “أحبك”. تتذكر كم ضحّت معك، كم سهرت، كم صبرت.
كان الله في عون زوجتي من بعدي. لا أحد غيره يعلم كم تعبت وضحّت.
تودّ لو تخبرها عن أشياء كثيرة، ولكن كما تعلم، نحن لا نفصح عن كلّ شيء أمام الناس. لا نحب ذلك. أقول لها كلمات مختصرة، وتفهم هي البقية من عينيّ، ومن صوتي. هي تحفظ صوتي، وتعرف ما أريد قوله حين تتغير نبرته. والباقي عندها.
تخيل أنه من بين كم الذكريات المشتركة بيننا، لم يخطر في بالي لحظة التسجيل إلا دواء “حماية المعدة” (مضاد الحموضة)!
كنت قد هاتفتها قبل ساعتين، وسألتها عما تفعله، فقالت إنّها اصطحبت الأولاد في فسحة واشترت لها ولهم عصير الأناناس فأصابتها “الحرقة” كالعادة. تذكرتُ ذلك أثناء تسجيل الوصية، فقلت لها مازحًا “لا تنسي تناول (حبة الحماية) قبل الفطور”.
حين يأتي دور والدتك، تفكر كثيرًا قبل النطق بأية كلمة، كلّ كلمة إضافية يمكن أن تزيد من حزنها وألمها، ولكن عليك ألا تقول لها “سامحيني”. هذه الكلمة ستبكيها أكثر. تعرف قلب الأم، لذا عليك أن توجز ما استطعت. كلّ كلمة إضافية هي دمعة إضافية، وليلة شوق أخرى تُضاف إلى الليالي الطويلة.
تحتار في ما يمكن أن تقوله كي تضحكها، لأنك تخاف ما تفعله بقلبها تلك الضحكة أثناء مشاهدتها التسجيل. قلت لك: أنت تعرف قلب الأم!


والدك، يمكنك أن تترك له كلمتين تضحكانه، لأنك تعرف أنهما ستضحكانه وتسكنان قلبه فعلًا.
تصل إلى رفاقك وإخوتك، لعلّ هذه المحطة هي الأسهل. هؤلاء يفهمونك وتفهمهم، شباب مثلك، وسيلحقون بك يومًا.
يأتي دور ابنتك. قد يخرج اسمها على لسانك منذ المحاولة الأولى، وقد لا تستطيع. تمنعك الغصّة. تخفي وجهك قليلًا. تصطنع ضحكة فتكتشف أنك لا تضحك إلا على نفسك. تكرّر المحاولة. تغصّ مجددًا.
إذا نجحت المحاولة أخيرًا تكون قد أتممت المهمّة كما ينبغي لك، وإن لم تنجح، فستمسح دموعك وتهتف للمصوّر:
“خلصت. أطفي الكاميرا”.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد