لا تزال تداعيات معركة “طوفان الأقصى” تضرب في كلّ جبهات الكيان الصهيوني، بعد أن أحدثت تردّداتها المباشرة وغير المباشرة ثغرات عميقة في الجبهة الداخلية المتصدعة أساسًا، لتنكشف معها معالم حرب أهلية حقيقية بدأت تطفو على السطح بشكل أشدّ علانية مما كانت عليه في مرحلة ما قبل السابع من أوكتوبر، وذلك في ظل انهيار سياسي وعسكري واقتصادي لم يشهد له الكيان المحتلّ مثيلًا على امتداد تاريخه المزعوم.
معالم الحرب الأهلية الصهيونية لم تكن وليدة الأحداث الأخيرة التي هزت الكيان المحتلّ، بل إن توقع حدوثها يعود فعليًا إلى حقبة تاريخية بعيدة نسبيًا، وقد تبلورت مع مرور الوقت وتعاقب الحكومات فيه، وما كان يعرف سابقًا بمصطلح “الحرب الثقافية” تحوّل لاحقًا لـ”حرب أهلية” بعد اغتيال رئيس وزراء العدوّ السابق “إٍسحق ربين”. وقد بدأ هذا المصطلح ينتشر على نحو كبير جدًا في أوساط المجتمع الصهيوني ووسائل إعلامه.
اغتيال “رابين” كشف عن حقيقة وجود عدو داخلي في أوساط الكيان، لا يقل خطورة – بحسب الجمهور الصهيوني – عن العدوّ الخارجي، لا سيما وأن عملية الاغتيال هذه جاءت بفتوى من أحزاب الصهيونية الدينية التي صنفت نفسها أنها أطراف مختلفة ومعادية للمجتمع الإسرائيلي العلماني، ومنذ ذلك الوقت تشهد قوة هذه الأحزاب الدينية تعاظمًا كبيرًا سمح لها بفرض شروطها مؤخرًا في ظل حكومة التحالف التي يديرها نتنياهو، عبر التعديلات القضائية التي أجرتها، والتي حدّت من صلاحيات المحكمة الإسرائيلية العليا لصالح الحكومة، مما خلق موجة من الاحتجاجات الواسعة في أوساط الرأي العام الصهيوني.
تطرف الأحزاب اليمينية الدينية في “اسرائيل” لا سيما في ظل تشتت القوى والأحزاب الأخرى وضعفها سياسيًا، ولّد مخاوف كبيرة من تأجج الصراع الداخلي الدائر ما بين الأطراف العلمانية والدينية، حيث حذر العديد من علماء الاجتماع والسياسة الصهاينة من انزلاق الأمور مستقبلًا نحو حرب أهلية حقيقية. وفي هذا الإطار نشرت القناة الإسرائيلية 12 استطلاعًا للرأي عام 2022 يظهر أن 67% من الإسرائيليين عبروا عن خشيتهم من حدوث حرب أهلية إسرائيلية.
هذا الاحتدام والصراع التراكمي بلغ ذروته مع صفعة السابع من أوكتوبر التي وجهتها المقاومة الفلسطينية للاحتلال وحكومته، والتي كشفت على نحو لا يحمل الشك حجم التشتت الداخلي الذي يعيشه هذا الكيان، فبينما تشهد شوارع “تل أبيب” تظاهرات واسعة تطالب الحكومة بوقف الحرب وإبرام صفقة تبادل للأسرى، يمضي نتنياهو بقراره في استكمالها متمسكًا بكرسيّه السياسي حتّى الرمق الأخير، متنصلًا من تحمل مسؤولية هجمات السابع من أوكتوبر وما أتى بعدها، مستندًا إلى دعم اليمين المتطرف لا سيما وزير الأمن القوميّ الإسرائيلي بن غفير.
أمام تعنّت نتنياهو وجهله السياسي، ثمة في المقابل واقع مأزوم جدًا يعيشه الكيان المحتلّ، فالاقتصاد في انهيار مستمرّ وخسائر فادحة تقدر بما يقارب الـ 18 مليار دولار، مما دفع الحكومة إلى تسريح الآلاف من جنود الاحتياط، مع حركة نزوح هائلة من الجنوب والشمال شملت 200 ألف نازح توجهوا نحو الداخل.
وإلى جانب كلّ ذلك، تشهد عملية التسليح الأميركي لـ”إسرائيل” تقلصًا نسبيًا في محاولة من بايدن للضغط على نتنياهو لتعديل مسار العمليات العسكرية والتفكير بمنحى آخر، إلا أن هذا الأخير ما زال يمضي قدمًا في تحقيق مكاسب وانتصارات وهمية على جثث وأشلاء جنوده، الأمر الذي خلق موجة من الانتقادات والتذمر وسط القيادة العسكرية التي بدا واضحًا بالنسبة لها أنها رهينة عجرفة وانفصام رئيس حكومتها.
هذه الوقائع الخطيرة على الجبهة الإسرائيلية الداخلية أتت أيضًا بلسان وسائل إعلام العدو، حيث تحدثت صحيفة “هآرتس” في تقرير نشرته يوم الخميس المنصرم عن التظاهرات التي تخرج في شوارع “تل أبيب” في ظل المشهد الأمني الحالي معلقةً بعبارة “استعدوا لحرب أهلية”، معقبةً على ذلك بقولها “تصوروا ما سيحدث عندما تخرج الحشود إلى الشوارع فيما في الخلفية حرب مشتعلة، ستكون الشوارع قابلة للاشتعال ومتفجرة”، مشيرة إلى أنه “سيتم تصوير المتظاهرين على أنهم خونة ويطعنون الأمة وجنودها في الظهر، وسيتم التعامل معهم وفقًا لذلك” مضيفةً أن “سنة 2024 ستكون سنة سيئة وقاتمة “.
وفي السياق نفسه، يذكر أنه لم تكن المرة الأولى التي تحدث فيها الإعلام العبري عن إمكانية نشوب حرب أهلية صهيونية في الآونة الأخيرة، إذ قال كاتب صهيوني في تقرير نشرته صحيفة “هآرتس” عام 2022 حول مسيرة الأعلام الصهيونية “أن عملية ليّ الذراع الدينية أو العرقية بين اليهود والعرب التي صاحبت هذه المسيرة لم تكن سوى عملية إحماء للصراع العنيف الذي يختمر بين اليهود أنفسهم”. وأضاف “إن مسيرة الأعلام التي شهدتها القدس وما صاحبها من جدل داخل إسرائيل؛ تعد استمرارًا وليست ذروة لعملية أدت في بلدان أخرى وفي أوقات أخرى إلى نشوب حروب أهلية”.
يواجه الداخل الصهيوني اليوم حربًا حقيقيةً متعددة الأطراف والجوانب، حرب قد تندلع شرارتها في أي وقت، وربما مع اللحظات الأخيرة لخمود نيران الحرب في غزّة، نظرًا لما توفّره الجبهة الداخلية الحالية من أرض خصبة لمعركة الاقتتال التي كانت كلما تصاعد دخان احتقانها، صُدّرت إلى الخارج عبر سفك الدماء الفلسطينية أو الترهيب بحتمية التكاتف أمام الخطر الخارجي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.