عاشت منطقتنا العربية سنوات طويلة من الاستعمار والانتداب بل الاحتلال الأجنبي والذي تمظهر بشكل واضحٍ اعتبارًا من العام 1918 بعد اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا عقب هزيمة السلطنة العثمانية واندحارها عن المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وأقرَّت عصبة الأمم بانتداب فرنسا على سوريا ولبنان منذ العام 1920 حتى 22 تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1943 تاريخ استقلال لبنان عن فرنسا حيث حكم البلاد المفوض السامي الفرنسي المقيم في بيروت وكانت له اليد الطولى والعليا في إدارة شؤون “الدولة والمؤسسات والمحاكم القضائية” وغيرها، بل واستطاع تعطيل الدستور المُقر لهذه “الدولة” وفقًا لمصالح فرنسا وغاياتها. أيضًا كان انتداب بريطانيا على فلسطين رسميًا في أيار من العام 1921 والذي استمر حتى العام 1948م بعد أن أصدرت وعد بلفور الشهير والمشؤوم في 2 تشرين الثاني من العام 1917 الذي نصَّ على إقامة دولة صهيونية في فلسطين.
بقيت تلك الدول تمارس هيمنتها ونفوذها في الدولة التي انتدبت عليها من خلال ما أفرزته من زعامات وشخصيات طائفية ومناطقية أمسكت بالواقع السياسي الداخلي وعملت على حماية مصالح تلك الدول التي أجليت عنها، وتماهت مع سياساتها وتوجيهاتها بما يخالف المصالح الوطنية والسيادية مما عرّض التلاحم الوطني لهزّات وأزمات ظهرت في المواقف النافرة والمعادية لكل ما هو سيادي ومقاوم بوجه غطرسة العدو الصهيوني ورافض لإملاءات الخارج في الهيمنة على قضايانا الوطنية.
يعمل هؤلاء المبعوثون مرارًا وتكرارًا على استثارة قوى محلية هي عبارة عن رجعِ صدىً وتردادٍ لمواقف ولغة خشبية أضحت ممجوجة تجاه المقاومة وبيئتها وسلاحها لزوم التكسُّبِ وإرضاءً لمشغِّليها وأولياء نعمتها من دول الرجعية العربية موغلةً في التحريض على المقاومة باعثةً لرسائل مضمرة فيها خيارات أخرى تهديدية ومنها التهويل بحربٍ إسرائيلية سيكون من الصعب لجمها (وفق تصريحاتهم) في العدوان على لبنان، وكأنَّ العدو الصهيوني قد أنهى حربه في غزَّة محققًا أهدافه والتي ما زالت تواجه فشلًا ومعضلة حقيقية في مواجهة المقاومة الفلسطينية هناك، معتقدين أنَّ لبنان لقمة سائغة في فم العدو الذي خبر الميدان فيه وما زال طعم الهزيمة المذلَّة والمريرة في فمه وعلى أسنانه المحطمة، تهديدات فعلية في إثارة قلاقل وأزمات سياسية داخلية في تهديدٍ للسلم الأهلي على خلفية المواجهات في الجنوب اللبناني. وقد أطلّت بعض تلك القوى برأسها وأبدت استعداها للسير بمشروع المواجهة الداخلية سياسيًا أقلُّها حتى الآن، هذه القوى التي كانت دائمًا متماهيةً مع مشاريع الغرب و”إسرائيل” في الداخل اللبناني بل وشكلت دفرسوارًا ورأس جسرٍ وفصيلة سبَّاقة لهذه المشاريع المشبوهة في اجتياحات واعتداءاتٍ حصلت في السنوات الماضية.
ومن أهم أهداف تلك الحركة الغربية تجاه لبنان وعلى رأسها الفرنسية والأميركية والتي تعمل جاهدة لتحقيقها هي تأمين أمن الكيان الغاصب من تهديدات الجبهة اللبنانية الجنوبية متسلِّحةً بالقرار الأممي 1701 الذي داس عليه العدو الإسرائيلي وتجاوزه في آلاف الخروقات والاعتداءات الشبه اليومية برًّا وجوًّا وبحرًا وفي محاولة مشبوهة لوضع الجيش اللبناني في مواجهة المقاومة وبيئتها ولإدخال تعديلاتٍ على القرار المذكور والدفع لتنفيذه من طرفٍ واحد إرضاءً للعدو وتعزيزًا لسطوته وإعلاءً لكلمته في وجه لبنان ولإخراج العدو من ورطته التي تفاقمت على مدى أكثر من خمسة وستين يومًا بفعل ضربات المقاومة الإسلامية التي تكبَّد فيها العدو الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد والآليات والتجهيزات الإلكترونية والتجسسية وأجبرت عشرات الآلاف من المستوطنين من الشمال الفلسطيني على النزوح نحو وسط الكيان هربًا من نيران المقاومين وما ترتّب عليه من خسائر مادية واقتصادية وتعطيل الحياة في تلك المنطقة برمّتها، رسائل غاضبة وجهها أولئك المبعوثون الدوليون للحكومة اللبنانية ولأشباه الرجال من قيادات سياسية أخرى في ضرورة السعي لإبعاد المقاومة عن منطقة العمليات في جنوب الليطاني وكأنَّ المقاومة دخيلة على تلك المنطقة ومدنها وقراها.
من المخزي والمعيب سلوك العديد من القوى والشخصيات السياسية والحزبية والصروح الدينية والتي بادرت إلى إطلاق مواقف وتصريحات تساعد في عملية التوهين والتثبيط ورفع صوت الخوف الكاذب والمخادع على الوطن وأبنائه بل وتجاوزت في رفع عقيرة صوتها كل قواعد وأصول العيش المشترك وضرورات التلاحم الوطني أمام العدوان، وكأن المقاومين على الجبهة في الجنوب دخلاء قادمون من أماكن بعيدة عنها وليسوا من أبناء قراها وبلداتها، مع العلم وفي استعراض لأسماء الشُّهداء ولصورهم الباسمة المستبشرة أولئك الذين ارتقوا نتيجة هذه المواجهات على طريق القدس يعرف القاصي والداني بأنهم أبناء بنت جبيل وعيتا الشعب ومارون الراس والقوزح وكونين وبيت ليف وياطر وميس الجبل وعيناتا ويارون وبليدا والخيام وبلاط وحولا وعيترون ومروحين وطيرحرفا وكفركلا وعديسة والطيبة والطيري وعلما الشعب ورامية والبستان والناقورة وشبعا وكفرشوبا وكلُّها قرى جنوبية حدودية لبنانية يقطنها لبنانيون أصيلون منذ مئات السنين، قرى متاخمة لفلسطين المحتلة تصدّى أبناؤها للاعتداءات والإجرام الصهيوني وارتقوا شهداء وجرحى ودمرت بيوتهم وخرِّبت أرزاقهم فداءً لسيادة لبنان وحماية له من العدوان.
يخطئ هؤلاء المبعوثون ودولهم وحكوماتهم في أنهم بتهديداتهم الفارغة يرهبون شعب لبنان ومقاومته، هؤلاء الممثلون للانتداب المستتر الذي ما زال يعيش أوهامه بكلِّ غطرسةٍ واستعلاء وتدغدغه أحلام انتدابه ونفوذه القديم في لبنان والمنطقة والذي تم طرده وولّى إلى غير رجعة، لأنَّ في لبنان اليوم مقاومةً صادقة تجاه أهلها خرجت من رحم الحرمان والطغيان والاستضعاف والتهميش والهيمنة التي مورست على شعبنا ومجتمعنا منذ أكثر من مئة عام، مقاومةٌ أثبتت بدعم شعبها لها القدرة والجرأة على مواجهة كل الأخطار والتحدّيات واستطاعت أن تعطي الوطن وشعوب المنطقة بأكملها الشعور بالقوة والاعتزاز والاقتدار في مواجهة العدوان ولجمه بل وهزيمته ومنعه من تحقيق أهدافه التي يسعى الانتداب القديم المتجدِّد وبكل وقاحة وصلف لمحاولة فرضها بسياسة التهديد والوعيد والتي لم ولن يستطيع العدو الصهيوني تحقيقها في الميدان.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.