الكيانُ الغاصِب.. تاريخٌ عريق في القتلِ والإجرام

منذ نشوء الحركة الصهيونية في العام 1897م في “مؤتمر بازل” بـ “سويسرا” بهدف إقامة “وطن” قومي لليهود وعلى يد صاحب هذه الفكرة الصهيوني “تيودور هرتزل” الذي ساهم وعمل بشكل حثيث للترويج لفكرة هذا “الوطن” الهجين واللقيط حيث نتج عن هذا المؤتمر سلسلة من التوصيات عكفت مجموعة من مؤسِّسيه وعلى رأسهم “هرتزل” في البدء بإنشاء مؤسسات مختلفة تعنى بالتواصل مع اليهود حول العالم وتنظيم شؤون الحركة الصهيونية العالمية.
ذ
بمساعدة الثري اليهودي اللورد “ناثان روتشيلد” (عائلة روتشيلد الشهيرة) استطاع “هرتزل” اللقاء بوزير المستعمرات البريطانية آنذاك “جوزيف تشمبرلين” الذي قدّم عروضًا للاستيطان في العريش (سيناء) وصُرِفَ النظر عن الموضوع لاحقًا خيفةً من إثارة حفيظة “الحركة الوطنية المصرية” في ذلك الوقت وقدّم “تشمبرلين” عروضًا أخرى منها أوغندا (شرق افريقيا) الذي رفضته بشدة الحركة الصهيونية واعتبرته خيانة في التخلّي عن فلسطين، وتوفي “هرتزل” في العام 1904م والذ كان جُلَّ همِّه إثبات مشروعية الحركة الصهيونية لدى الحكومات والدول.

كانت مخرجات “مؤتمر بازل” هي البرنامج الرئيسي للحركة الصهيونية على مدار خمسين عامًا ومنها إنشاء “الصندوق الاستعماري اليهودي والصندوق القومي اليهودي” مع فروع لها حول العالم وتولى إدارتها الألماني اليهودي “آرثر روبين” بهدف شراء الأراضي في فلسطين واستثمارها ومن الفروع التي أنشأت لهذه المؤسسات كانت في بيروت والقدس ويافا وحيفا وصفد والخليل وطبرية حتى العام 1951م حيث تم وضع برنامج آخر بعد نشوء “الكيان الغاصب” على أرض فلسطين.

اتخذت سلسلة من المحاور في إطار تملُّك الأراضي في فلسطين بما يسهل تنميتها والدفاع عنها لاحقًا أمام المخاطر والتهديدات، ومن هذه المحاور ما كان على الساحل بين حيفا ويافا، ثم باتجاه الداخل ونحو الشمال بين حيفا وطبريا وشرقًا من طبريا إلى منطقة نهر الأردن، ومن أفكار المدعو “روبين” أنشأت حينها ما سمّيت بالمزارع “الجماعية الاشتراكية” وعرفت في ما بعد باسم “الكيبوتس” والتي كانت رأس حربة الاستيطان الصهيوني في فلسطين والذي تسارعت وتيرته بعد “وعد بلفور المشؤوم” في العام 1917م واستطاعت الحركة الصهيونية أن تحصل على قرار بأن يكون هذا الوعد المشؤوم “وثيقة دولية” ضمن مقررات مؤتمر “سان ريمو” الذي عقد بعد الحرب العالمية الأولى وأيضًا مقررات المنظمة الدولية التي نشأت وعرفت بــ “عصبة الأمم” والتي أكّدت على إنشاء وطن قومي لليهود والذي أضفى شرعية دولية على برامج وأعمال الحركة الصهيونية في فلسطين.

عند انعقاد “مؤتمر بازل” في العام 1897م كان عدد اليهود في العالم ما يقارب الـ 3 ملايين يهودي معظمهم كانوا يعيشون في روسيا القيصر ودول أوروبا الشرقية الذين شكلوا عماد الحركة الصهيونية العالمية وخزَّانها وقلّةً منهم في أوروبا الغربية وأمريكا، مع وجود ضئيل لهم في أرض فلسطين (5 بالمئة) ممن كانوا بقايا التدمير الثاني للمعبد والتشريد الثالث لليهود حوالي العام 79م وفقًا للروايات التاريخية. أتوا إلى فلسطين وأحضروا معهم معتقدات وممارسات بغيضة وأنشأوا حركات قومية وتنظيمات ومجموعات فلاحية شبه عسكرية ومسلحة، وأيضًا أحضروا معهم عنصريتهم ونزوعهم للعنف والقتل والإجرام والفصل العنصري تجاه أصحاب الأرض الشرعيين من السكان العرب الأصليين وتضاعفت هجرتهم في استغلال مقيت للكذبة المعروفة بــ ” المحرقة النازية” إبان الحرب العالمية الثانية ما بين العام 1939 و العام 1945م حيث انطلت أكذوبة (الهولوكوست) بعد التلفيق والتضخيم والمبالغة من قبل الصهاينة على الشعوب والأمم. ومن هذه الحركات والتنظيمات الصهيونية كانت حركة “هاشومر” أو “الحارس” والتي فيما بعد أصبحت عصابات “الهاغاناه” والتي ارتكبت الجرائم والمجازر الجماعية بحق الفلسطينيين في الداخل واللبنانيين في القرى الحدودية على حدٍّ سواء في المراحل الأولى لعمليات الاستيطان والتي شكّلت لاحقًا نواة ما سمّي بـ “جيش الدفاع الإسرائيلي” ومن مؤسسيها المجرم دايفيد بن غورويون الذي أضحى أول رئيس وزراء لهذا “الكيان الغاصب” عند إعلانه في العام 1948م.

تاريخ هذا الكيان اللقيط مخزٍ ومليء بالدماء والقتل والعدوان، والإرهاب فيه ركيزة أساسية يستند إليها السلوك الصهيوني الإجرامي بل هي في صلب العقيد التلمودية للصهاينة، وارتكاب المجازر والقتل الجماعي على أيدي العصابات الصهيونية المعروفة والسيئة الصيت “شتيرن وآرغون وهاغاناه والإتسل وليحي والبالماخ والوحدة 101” كان بهدف ترهيب السكان الفلسطينيين ودفعهم لترك قراهم ومدنهم والتي أحصيت في اعتداءات العام 1948 وما بعدها ما لا يقل عن 478 قرية من أصل 585 قرية وبلدة فلسطينية وتم تشريد ما يقارب الـــ 780 ألف مواطن فلسطيني من سكانها وألحق بهم 350 ألفًا آخرين بعد عدوان العام1967 واحتلال القدس الشريف.(1)

ما بين عامي 1937 و1939 نفذت العصابات الصهيونية عشرات المجازر في القدس الشريف وحيفا وبلد الشيخ والعباسية ذهب ضحيتها المئات من السكان الآمنين، وما بين العام 1947 والعام 1948 نفذت تلك العصابات مجدَّدًا مجازر وحشية ودامية في القدس ويافا وحيفا ويازور والرملة والشيخ بريك وبلد الشيخ وعرب الخصاص ومجزرة تفجير السرايا العربية في يافا وفندق سميراميس في مدينة القدس وبلدات ومدن طيرة طولكرم وسعسع والحسينية وأبو كبير وتفجير قطار حيفا – يافا وحيفا – القاهرة وفي قالونيا واللجون وناصر الدين ودير ياسين وطبريا وصفد وبيت داراس والطنطورة وجمزو واللد والمجدل والدوايمة، واستمرت المجازر في هذا العام في كل من عيلبون والحولة والدير والبعنة وقبيلة عرب المواسي وفي مجد الكروم وأبو زريق وأم الشوف والصفصاف وجيز ووادي شوباش.

وتابع المجرمون الصهاينة مجازرهم وجرائمهم ما بين عامي 1950 و1956م فارتكبوا جرائم مروّعة بحق قبيلة عرب العزازمة وشرفات وبيت لحم وبيت جالا وفي مدينة القدس ومخيم البريج في غزة وقبية ونحالين ودير أيوب وفي غزة المدينة لمرات متعددة وفي قلقيلية وكفرقاسم من قضاء طولكرم هذه الجرائم التي كان على رأس مرتكبيها ديفيد بن غوروين وموشيه دايان وشمعون بيريز وآخرين، حيث كان يتم تقديم هؤلاء القتلة من قبل السلطات الصهيونية إلى محاكم صورية وهزيلة أشبه بالمسرحيات تخرج القتلة والمجرمين من الأبواب الخلفية للمحاكم.

استمر القتل والترهيب والإجرام للعصابات الصهيونية في الأعوام اللاحقة ونفّذت العديد من المجازر المهولة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في رفح ومخيم آخر في قرية الكرامة في الأردن الذي قصف أكثر من مرة بالمدفعية مما أدى إلى استشهاد العشرات من اللاجئين إليه بين عامي 1967 و1968م، ناهيك عن ارتكاب المجازر في مخيمات اللاجئين في لبنان في السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي والتي كانت أكثرها هولًا وترويعًا مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في العام 1982 على أيدي العصابات الانعزالية اليمنية الكتائبية بإشراف وتوجيه ودعم إسرائيلي مباشر، بالإضافة إلى عشرات المجازر والتي حصلت خلال الاجتياح الإسرائيلي ذلك العام في المدن والقرى والبلدات اللبنانية والمخيمات وخلال حصار العاصمة اللبنانية مدينة بيروت.

تتالت المجازر والجرائم الصهيونية في الداخل الفلسطيني وأبرزها وأكثرها دموية المجزرة التي نفَّذها إرهابيون صهاينة متطرفون تابعون لما يسمى ” أمناء جبل الهيكل” داخل المسجد الأقصى مستهدفين المصلِّين الأبرياء في العام 1990م، وتلتها مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل العام 1994م وايضًا بحق المصلّين الأبرياء على أيدي المتطرِّف الصهيوني “باروخ غولدشتاين” عضو حركة “كاخ” الإرهابية مع شركاء آخرين وبتواطؤ من قوات الاحتلال المنتشرة في المكان.

خلال العقود اللاحقة استمر القتل اليومي “الفردي والجماعي” للفلسطينيين وبدمٍ بارد على أيدي جنود الاحتلال والمتطرفين الصهاينة وقُتِل المئات من أبناء الشعب الفلسطيني في هذه العمليات الإجرامية وفي المواجهات الشعبية خلال الانتفاضة الأولى في العام 1987م والانتفاضة الثانية في العام 2000م وما بينهما وجرت فيها عمليات اعتقال وزج في السجون والمعتقلات وتعذيب للآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وتخللها هدمٌ لآلاف البيوت واقتلاعٌ لعشرات الآلاف من الأشجار المثمرة والمعمِّرة وتجريف لآلاف الدونمات من الحقول الزراعية في إطار عقاب جماعي ظالم. كما نذكر هنا معركة مخيم جنين الشهيرة في العام 2002م والمجازر والدمار الذي لحق بالمخيم على أيدي “آرييل شارون” رئيس وزراء الكيان الصهيوني في حينها وعصاباته والتي أدَّت إلى استشهاد ما لا يقل عن 500 فلسطيني من أبناء المخيم من النساء والرجال والأطفال والعجزة.(2)

اليوم يستمر الصهاينة في سيرتهم الدموية والإجرامية ويمعنون في قتل المدنيين الأبرياء العزّل في قطاع غزّة المحاصر أو في القدس والضفَّة الغربية من فلسطين، وقد مارسوا هذا الإجرام في اعتداءاتهم السابقة على القطاع في الأعوام 2008 – 2009 (عملية الرصاص المصبوب) وفي العام 2012 (عملية عمود السَّحاب) و(الجرف الصامد) في العام 2014، وفي العام 2021 شنَّ العدو الصهيوني عدوانًا على قطاع غزّة تحت مسمّى (حارس الأسوار) وكانت حصيلة هذه الاعتداءات المتكررة سقوط ما يقارب الـ 5 آلاف شهيد وما لا يقل عن 10 آلاف جريح بالإضافة إلى تدمير آلاف الأبنية والوحدات السكنية على رؤوس قاطنيها وتخريب للبنية التحتية والخدمية في القطاع.

اليوم يخوض قطاع غزة معركة ضارية في وجه آلة الحرب الصهيونية مدعومًا بشراكة عملية من الترسانة العسكرية الأمريكية والبريطانية والتي نفّذت العشرات من المجازر الدموية والقتل الجماعي وقدّر حتى تاريخه سقوط ما يقارب الـ3500 شهيد وحوالي 12 ألف جريح وإبادة عائلات كاملة (400 عائلة مسحت بأكملها من سجلات المواطنين) وسحقًا لمناطق سكنية وحاراتٍ أُزيلت عن بكرة أبيها، ولم تسلم من هذه العدوانية والأحقاد المراكز الطبية والاستشفائية ورجال الإسعاف والإنقاذ ودور العجزة والمعوقين وتجمعات النازحين في المدارس أو الساحات العامة، وكانت مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني (تابع للكنيسة الأسقفية الأنغليكانية –تأسس في العام 1889م) وصمة عارٍ على جبين الكيان الغاصب وداعميه المتشدِّقين بحقوق الإنسان وابتلعت منظمات الأمم المتحدة والجهات الدولية الحقوقية والإنسانية ألسنتها وأغمضت عيونها عن مشهد ذبح الطفولة البريئة في تلك المجزرة المروّعة والتي ناهز عدد شهدائها الألف شهيد في ضربة واحدة نفذتها الطائرات الحربية الصهيونية وأردفتها بمجزرة أخرى في إحدى المدارس التابعة للأونروا في مخيم المغازي والتي التجأ إليها عائلات نازحة من أماكن متفرقة من القطاع كانت قد فقدت بيوتها خلال الغارات الهمجية في الأيام السابقة، حيث تم استهدافها بشكل مباشر ومقصود دون مراعاة لقواعد القانون الدولي الإنساني التي تؤكد على حماية المدنيين وتحييدهم عن الاستهداف خلال العمليات الحربية.

لطالما كان القتل والإرهاب والإجرام والتعذيب والسحل والتدمير أسلوب المدرسة الصهيونية في ترهيب العرب عمومًا والفلسطينيين خصوصًا بهدف دفعهم للهرب والنزوح وترك الأرض وما فيها خوفًا على الحياة كما هو مخططٌ اليوم ونشهد ذلك في قطاع غزَّة، ولكن، تلك الأيام ولَّت إلى غير رجعة، وبعد توقف العدوان سنكتشف وسنشهد فظائع كثيرة كانت ما زالت مدفونة تحت ركام الأبنية المدمرة، وستروى قصص وحكايا عن الدماء البريئة للأطفال والنساء والعجزة التي سفكت ظلمًا وعدوانًا فوق مذبح الأحقاد والإرهاب الصهيوني العنصري تجاه الإنسانية والطفولة التي كانت تسحق فوق رمال غزّة، كما سنستمع إلى روايات البطولة والفداء والصمود والتضحية لشعبٍ مقاوم حوصِر ومورِس عليه القتل والتدمير والتجويع والتشريد وبقي عزيزًا يقاتل ولم يستسلم.

المصادر
(1) المبحث السابع: مسيرة الصهيونية في خمسين عامًا 1897 – 1947
(2) المصادر: كتاب المجازر الصهيونية المرتكبة بحق الشعب العربي الفلسطيني خلال القرن العشرين – 2001 ( اللواء طارق الخضراء – القائد العام لجيش التحرير الفلسطيني رئيس هيئة الأركان)

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع