لطالما كان مسار التطبيع بين بعض الأنظمة العربية وكيان العدو، وجهًا من أوجه وأد القضية الفلسطينية تباعًا بتعبيد الطريق أمام جعل الكيان عنصرًا طبيعًا في قلب العالم العربي. وإزالة مبررات المقاومة ورفض بقائه، يروّض من خلالها الرأي العام العربي الغارق أصلًا بأزماته الداخلية. لتصاغ العلاقات السياسي والدبلوماسية ولاحقًا الاقتصادية والثقافية بين الكيان والدول المطبّعة.
لكن، وفي كل مرة تعيد بنادق المقاومين في غزة عقارب الساعة إلى الوراء. حيث يتبيّن رغم كل الحفلات والأنشطة التطبيعية، أن القضية الفلسطينية لازالت تحظى بالاهتمام الأول لدى الغالبية العظمى في عالمنا العربي والإسلامي. ولعل أبرز موجات التطبيع وأكثرها خطورة على القضية المركزية هو المسار الذي انطلق بعد عقد اتفاقات أبراهام بين كيان العدو ودول عربية في آب من العام 2020، لتنضم الإمارات العربية والبحرين الى المغرب ومصر والأردن كدول وقّعت اتفاقات سلام مع الكيان. في موازاة ذلك كان لمسار التقارب السعودي الإسرائيلي الأهمية الأكبر بين كل المسارات السابقة، وذلك تبعًا للموقع الهام الذي تتمع به السعودية في العالم الإسلامي كقطب أساسي “جامع”. لكن التطورات التي شهدتها المنطقة في الآونة الاخيرة جعلت من ملف التقارب السعودي الإسرائيلي – رغم ما شهده من زيارات لمسؤولين صهاينة إلى السعودية ومشاركات رياضية وغيرها – يسير بخطى غير ثابتة شابتها ثغرات أساسية تمثلت أبرزها بتوقيع الاتفاق السعودي الإيراني في الصين في العاشر من آذار الماضي وما تبعه من عودة تدريجية للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والذي اعتبره كيان العدو بمثابة صفعة قاسية لمسار التطبيع السعودي الإيراني.
السابع من تشرين الأول 2023 غيّر كثير من المعادلات، بعد عملية طوفان الأقصى تبدّل المشهد بشكل جذري يستحيل ترميمه وفق التوازنات القائمة في المنطقة. فـ”إسرائيل” الكيان الذي كان يسعى إلى تتويج مسار التطبيع بعقد صفقة كبرى مع المملكة العربية السعودية، بات اليوم أمام مواجهة مصير مجهول واقعًا بفعل الصدمة والصفعة الكبرى التي تلقاها فجر السبت الماضي. المعضلة لا تكمن في عدد القتلى الصهيانة أو باختفاء الجيش الإسرائيلي لساعات قبل أن يستفيق من صدمته ويحصي قتلاه وأسراه. المعضلة الأساس تكمن في الوعي الصهيوني الذي بات من المستحيل ترميمه أمام العجز والفشل وعدم القدرة على تأمين حياة تتمتع بالحد المقبول من الأمن لمستوطين الكيان.
لم يكن لردود الفعل الدولية الأميركية والغربية تحديدًا أي تبدّل أو تغيير, دعم مطلق ولا متناهي للكيان ومدّ بالسلاح والعتاد والغطاء السياسي، مقابل صمت عربي مطبق. الجديد ربما هو الموقف الإماراتي الداعم للعدوان والمبرر للهمجية الإسرائيلية، وهو ما كان متوقعًا وفق المسارات الثنائية بين الكيان وإمارات بن زايد. أما اللافت كان الموقف السعودي الذي جاء متمايزًا عن المواقف المطبّعة حيث جاءت المواقف السعودية متعاطفة مع أهل غزة رافضة للاعتداءات الإسرائيلية. وهو ما يعتبر جديدًا على المواقف السعودية في المرحلة الأخيرة خصوصًا وسط الحديث عن الدفع الأميركي الكبير لعجلة التطبيع السعودي الإسرائيلي. ما يثير قلق الإدارة الأميركية من التمايز الذي تحاول أن تؤسّس له السعودية.
وربما ما كشف عنه وزير الخارجية الإيرانية يوم السبت في بيروت خلال مؤتمره الصحافي، يؤكد ذلك، حيث قال: إن اتصالاً جرى بين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان حول الأحداث في فلسطين المحتلة، مؤكدًا على أن موقف البلدين داعم للشعب الفلسطيني.
السؤال الذي يخطر في بال كثر، ما هي ارتدادات عملية طوفات الأقصى إلى جانب تأثيرها المباشر والعميق في وجدان الكيان ووعي مستوطنيه؟ هل يضرب مسار التطبيع وتعود عقارب الساعة إلى الوراء، أم أن المسار المقبل قد يكون أكثر قتامة بالنسبة للكيان في تحوّل السعودية من صديق سابق وحليف محتمل، إلى دولة تبحث عن مصالحها وفق المعطيات والأولويات المتاحة، ما يجعل العلاقة بين الكيان والمملكة في غير محل اهتمام. وسط حديث عن تعليق المملكة لمحادثات التطبيع مع الكيان وسط العدوان الإسرائيلي على القطاع. وما هو أثر هذا التراجع الكبير الذي سيواجهه الكيان في إمكانية استمراره وترميم صورته أمام مستوطنيه أولًا والمقاومة والعالم ثانيًا؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.