مخطئ من يتصور أن بريغوجين مات حتف أنفه. الرجل قُتل بعملية مدبرة، وهناك ثلاثة متهمين أساسيين تدور حولهم الشبهات: بايدن، وزيلنسكي، وبوتين، فأي من هؤلاء الثلاثة ضالع في قتل بريغوجين؟
إذا أعملنا القاعدة الجنائية التي تقول ”فتشْ عن المستفيد“ فإن الحيثيات والمعطيات تقودنا إلى اتهام الثلاثة كلًّا على حدة، وذلك لسببين:
١- لأن بريغوجين كان على عداوة مع الأطراف الثلاثة.
٢- لأن الثلاثة مستفيدون من تصفيته.
روسيا – بوتين
المتهم الأول، وفقًا لأكثر التكهنات والنظريات شيوعًا وتداولًا في الغرب، هو روسيا، فما القرائن التي تثبت تورط روسيا؟ وهل من دلائل تثبت براءتها؟
لم يأتِ اتهام روسيا عن عبث، فهناك عدة قرائن تشير إلى احتمال ضلوعها في مقتل بريغوجين، منها على سبيل المثال:
١- العلاقة المتوترة بين بريغوجين ووزير الدفاع الروسي شويغو، وما أعقبها من محاولة تمرد قادها بريغوجين، وكادت أن تدخل روسيا في أتون حرب أهلية، لولا تدارك بوتين بمعية صديقه الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو الأمر، حيث أسفرت جهود الأخير عن حلحلة الأمور العالقة بين الطرفين.
٢- هناك من يصوِّر بوتين على أنه أحد قياصرة القرن الحادي والعشرين، بمعنى أن الرجل يحكم روسيا بالحديد والنار، على غرار أسلافه القياصرة، وعليه فإن تجرؤ بريغوجين على عصيان أوامره ومحاولة زحفه على رأس مقاتليه إلى مقر وزارة الدفاع، أغضب القيصر وأخرج الوحش الكامن في داخله، فكان أن أمر بتصفية طباخه المتمرد بعد شهرين.
٣- وفق كثيرين في الغرب، فإن بوتين يدير الأمور في روسيا بعقلية رجل العصابات، فصَفْحُه عن بريغوجين كان من الممكن أن يفتح الباب واسعًا أمام حالات تمرد مشابهة، وأن يشجع آخرين من أصحاب الطموح على نحوِ منحى بريغوجين، لذا كان لا بد لبوتين من أن يصفي الأخير، لكي يكون عبرةً لسواه.
٤ – لو نجا بريغوجين بفعلته، فمن المحتمل أن يكرر ذلك على جبهات أخرى ـ إفريقيا على سبيل المثال ـ الأمر الذي حدا ببوتين إلى الإجهاز عليه.
٥ – بعض الصحافيين الغربيين ذهبوا بعيدًا في تقديراتهم، فاعتبروا أن سكوت بوتين المريب إزاء تمرد بريغوجين، وعدم سوقه إلى قفص العدالة بعد انتهاء مفاعيل تمرده، يُستشف منه أن سيد الكرملين كان يضمر نيةً سيئة حيال بريغوجين، وإلا لاتخذ في حقه المقتضى القانوني، ولَسيق إلى السجن، لِيقضي بقية حياته هناك.
أوكرانيا – زيلنسكي
تعد أوكرانيا أكبر المستفيدين من قتل بريغوجين، بل تكاد تكون المتهم الأول في هذه القضية، وذلك للأسباب الآتية:
١- تنظر أوكرانيا إلى بريغوجين على أنه ذراع بوتين العسكري ويده الطولى في كافة ميادين النزاع العسكري، لذا فإن النجاح في اغتياله يعد ضربة قوية للكرملين ولشخص الرئيس بوتين.
٢- لأوكرانيا ثأر قديم في عنق بريغوجين، فعلى مدى عام ونصف من مشاركة جماعة فاغنر في المعارك الدائرة في دونيتسك ولوغانسك وزابورجيا، أثخنت تلك الجماعة الجيشَ الأوكراني جَرحًا وتقتيلًا، فهل لدى أوكرانيا من دافع أقوى من هذا الدافع لاغتيال بريغوجين؟!
٣- سبق لأوكرانيا أن أعلنت وقوفها خلف الكثير من الاغتيالات المشابهة، منها على سبيل المثال حادثة اغتيال ابنة الأب الروحي لبوتين، ألكسندر دوغين العام الفائت، حيث نجحت الاستخبارات الأوكرانية في وضع عبوة ناسفة داخل سيارة الأب، ما أسفر عن مقتل الابنة.
٤ – ثم إن لأوكرانيا مصلحة كبرى في الإيقاع بين فاغنر والقيادة الروسية عبر الإيحاء بأن الأخيرة هي من أصدرت قرار التصفية.
أميركا – بايدن
هناك معطيات عديدة ترجح فرضية تورط أميركا، منها على سبيل المثال:
١- ضلوعها في أكثر من عملية اغتيال من هذا النوع.
٢- لأميركا مصلحة كبيرة في إزاحة بريغوجين من طريقها، فهو فضلًا عن كونه أضر بالمصالح الأميركية طوال مدة عمله في خدمة بوتين، فإن لقتله في هذا التوقيت بالذات مصلحة كبرى لأميركا.
العلاقة مضطربة بين القيادة الروسية وبريغوجين بعد حركة التمرد الأخيرة، والجميع يتوقع ردة فعل انتقامية من بوتين، فلماذا لا تسارع إدارة بايدن إلى استغلال الأمر، والدخول على خط الأزمة؟
ببساطة إنه الوقت المناسب لضرب عصفورين بحجر واحد، التخلص من أحد ألد أعداء الولايات المتحدة، ومن ثم اتهام بوتين بذلك.
إن قتل عدو، وتشويه سمعة آخر، هو عين ما يتمناه أي مرء. لقد سبق للولايات المتحدة أن فعلت ذلك مرارًا، ألم تأمر من قبل باغتيال حليفها رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، تمهيدًا لاتهام سورية والمقاومة باغتياله؟! فما المانع من أن تعيد الكرة مرة أخرى؟
مضبطة الاتهام
بعد عرض القرائن، بات بمقدورنا القول، إن للأطراف الثلاثة دوافع كافية لتصفية بريغوجين، فبوتين يريد أن يضمن عدم تكرار أي حالة تمرد مماثلة في المستقبل القريب والبعيد، وكييف تحلم بالثأر لأرواح الآلاف من جنودها الذين قتلوا على يد فاغنر، والولايات المتحدة أرادت أن تتخلص من رجل لطالما سبب لها صداعًا، بطريقة توحي كأن القاتل هو بوتين.
نعم، كل ما سلف صحيح ولا ريب، ولكن ماذا لو طرحنا على أنفسنا السؤالين الآتيين: ما مصلحة روسيا في تصفية بريغوجين ومعركة أفريقيا على وشك الانطلاق؟ لبريغوجين مقطع مصور، قيل تم التقاطه في صحراء مالي، تبدو فيه بوضوح حماسة الرجل لخوض ما أسماها معركة تحرير إفريقيا، فما مصلحة روسيا في تصفيته؟
لا ينبغي تصوير روسيا كأنها دولة من دول العالم الثالث. الأمور هناك لا تدار بعقلية زعماء العصابات كما يحاول الغربيون إيهامنا. روسيا دولة مؤسسات، وبريغوجين مواطن روسي شأنه شأن أي مواطن آخر، كان بوسع القضاء الروسي الاقتصاص منه، دون الحاجة إلى تصفيته.
آخر مكان يمكن أن تفكر فيه روسيا للنيل من طباخها المتمرد هو العاصمة موسكو!
قرار الإدانة
يبدو واضحًا، بحسب مضبطة الاتهام، أن المستفيد الأكبر من مقتل بريغوجين هما نظاما كييف وواشنطن، في حين أن مورد استفادة روسيا محدود للغاية، وعليه، بكلمة واحدة يمكننا أن نقول إن نظام كييف وواشنطن هما القاتلان المحتملان.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.