تبتسم حين يصف بعض السياسيين أو المحللين في السياسة قيادة الحزب الحالية بالبراغماتية أو أنها تختزن خططًا مضمرةً ومواقف مستترة تحت مسمّى بالخطّة “ب” بما يتعلَّق ببعض الاستحقاقات القائمة حاليًا في لبنان والمنطقة ومنها استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، مع العلم وباعتقادي أنَّها القيادة الأكثر راديكالية وتصلّبًا عرفناها في ما يتعلق بالقضايا المبدئية التي على أساسها نشأت هذه المقاومة والحزب منذ العام 1982م وحتى يومنا الحاضر، قيادة حزب في قمة نضوجه السياسي ولديه من الديناميكية للاستمرار لعقود طويلة، ومن يعرف طبيعة العقل المدبر لهذا الحزب يعلم دقَّة ما أشيرُ إليه، كما ويمكن لنا في قراءة بسيطة للمحطات والمنعطفات الحساسة والدقيقة أن نرى تشدُّدًا وصلابة غير متوقعة لدى الأطراف المقابلين محليين كانوا أم خارجيين وتسقط في أيديهم وتثير الدهشة والإحباط لديهم ورغم هذا ما زال الكثيرون يمعنون في التعالي والاستخفاف تجاه المواقف المعلنة بوضوح وارتكابِ قراءاتٍ وفهمٍ خاطئ للسلوك السياسي لدى حزب الله في لبنان.
لطالما أبحر هؤلاء في عباب العقل السياسي لهذا الحزب وإستراتيجيته وتكتيكاته التي عجزت عن فهمها وتفكيك شيفرتها عقول مفكري أكبر وأهم مراكز الدراسات والأبحاث الغربية والصهيونية والرجعية العربية، وذهب الكثيرون في عملية التبسيط فوضعوها في إطار التكتيكات المتعارف عليها والمعتادة في ألاعيب السياسة الداخلية اللبنانية التي يمكن المفاصلة فيها في إطار البازار السياسي المفتوح. وقد فاتهم أنّ هذا الحزب وقيادته من قماشة مختلفة عن باقي السياسيين والأحزاب والحركات السياسية والممارسين للسياسة وزواريبها في لبنان والمنطقة.
إنَّ توالي الأحداث والمتغيّرات الداخلية اللبنانية والاختبارات القاسية التي مرَّ بها الحزب على مدار السنوات الطوال من حروبٍ إسرائيلية واغتيالات واستهدافات لقياداته من استشهاد الشيخ راغب حرب (رض) في العام 1984م وأمينه العام السيد عباس الموسوي (رض) في العام 1992 مرورًا بالعديد من القيادات الميدانية إلى اغتيال الشهداء الحاج عماد مغنية (رض) والسيد مصطفى بدرالدين (رض) وآخرين مضافًا إليها الخضّات والهنات الداخلية التي مرَّت على لبنان وسقوط منظومات سياسية وحزبية وغياب زعامات ذات امتداد عربيٍّ ودولي أمثال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومحاولة التوظيف والاستغلال لهذا الاغتيال الجبان في تصريفه داخليًا على طريق النيل من المقاومة وسلاحها، كلُّ هذا لم يجعل هذا الحزب وقيادته يحيدان قيد أنملة عن ثوابتهما في السياسة والمقاومة. وبعد سلسلة لاحقة من التداعيات السياسية الداخلية تجذَّرت أكثر وتأكَّدت هذه الثوابت مجدّدًا وتكرارًا في الوثيقة السياسية المحدَّثة والتي أعلنها الحزب في العام 2009م في رفضِ الطائفيّة السياسيّة وضرورة إلغائها من خلال “الديموقراطية التوافقية” ورفض الهيمنة واستنهاض الطاقات معطوفةً على ثوابت البدايات: “.. أننا نطمح أن يكون لبنان جزءًا لا يتجزّأ من الخريطة السياسيّة المعادية لأميركا والاستكبار العالمي وللصهيونية العالميّة .. الرسالة المفتوحة – 1985م “.
منذ انطلاقة الحزب – المقاومة لم تكن القيادة بمستوياتها المختلفة بعيدة عن العمل السياسي بمفهومه العام المرتبط بمصالح البلاد والناس الفقراء والمستضعفين ومواجهة الأخطار الخارجية والداخلية ولو أنَّ الجهد الأساس كان منصبًّا على العمل المقاوم ومواجهة الاحتلال، وبقيت لغة الموقف المبدئي ذاتها أي الدولة العادلة لجميع أبنائها ومنخرطًا في الجهد السياسي الوطني منذ انطلاق الانتخابات النيابية اللبنانية في العام 1992م حيث تضمَّن البرنامج الانتخابي آنذاك نصوصًا واضحة لا لبس فيها بأنَّ “المقاومة ضد الاحتلال هي خيار حتى تحرير كامل التراب المحتل”، “وأنَّ المقاومة قادرة على تفويت الفرصة أمام الغزاة لفرض أمرٍ واقع سياسي ضد مصلحة لبنان واللبنانيين”.
مع انهيار الوضع الاقتصادي في لبنان تواصلت تلك الهجمة على الحزب وخياراته السياسية وكان ما يسمى بــ “حراك 17 تشرين الفوضوي“ واحدًا من وجوه تلك الهجمة المبرمجة والممولة أمريكيًا وعربيًا، وما شعاراتها الفارغة إلا خير دليل على الاستهداف لهذا الحزب لما يمثله من مبدئية في العمل السياسي وثبات في اللغة والموقف حين انحرف الكثيرون ومنهم الحراك المذكور عن قضايا الناس ومطالبهم من خلال رفع شعارات تستهدف المقاومة وسلاحها وتستبطن الإساءة بل الاغتيال المعنوي لرمز هذه المقاومة وسيِّدها حين وضع في خانة الفاسدين أو حمايتهم (والعياذ بالله) تحت شعار “كلن يعني كلن” والتي لم تمنع الحزب من تجاوزها بكثير من المرونة والتهدئة والصبر الإستراتيجي، وفي مواصلة الاهتمام بقضايا الناس ورفع المعاناة المعيشية والاقتصادية عنهم حيث كانت البرامج والمبادرات الاجتماعية والحياتية التي ساهمت وبنسبة مقبولة في تخفيف الوطأة عن كاهل المواطنين وحاجاتهم اليومية، وما بواخر المازوت أو بطاقة السجّاد التموينية وتأمين الأدوية المستعصية والضرورية والمساعدات المادية والعينية ودعم الاستشفاء والمستشفيات التي استفادت منها شرائح واسعة من مختلف البيئات والمناطق في لبنان، كلُّ هذا ما هو إلا شاهدٌ على التزام مبدئي وأخلاقي وإنساني من الحزب تجاه الشعب اللبناني.
السياسة كما عرَّفها الفلاسفة والمنظِّرون عبر التاريخ هي فنُّ الممكن ودراسة وتغيير الواقع السياسي وليس الخضوع له وعدم تغييره وفقًا لموازين القوى أو المصالح. ولكن هذا الحزب أضاف بل أدخل عليها تغييرًا جوهريًّا لم تعهده السياسة في لبنان من قبل ولا يريد الكثيرون فهمه والإقرار به وهو الصدق والشفافية في الموقف والالتزام المبدئي بقضايا الصراع بوجه الاحتلال وحياة الناس وكرامتهم وعدم المساومة عليها أو المفاضلة فيها، ولم يكن له يومًا قط أي نوايا للانحراف أو التخلّي عمَّا وضعه من خططٍ لتحقيق الأهداف المرسومة، وأدعو ذاك البعض الى قراءة متأنية وهادئة لقواعد العمل السياسي المبدئي التي يعتنقها هذا الحزب والتي مارسها منذ عقود وهي ليست فردية أو أحادية أو كما يقال “كلُّ يومٍ بيومه” بل هي نتيجة مخاض طويل من النقاشات والدراسات والأبحاث وليست مبنية على مكاسب آنية مرحلية، فهذا الحزب ينظرُ “إلى أقصى القوم” والأهم أنَّ هذا الحزب من مدرسة ذاك الإمام الراحل الخميني العظيم (رض) والذي نعيش أيام رحيله المؤلم على قلوب أبنائه ومحبيه والقائل: “ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا”. وبفهمي البسيط والقاصر أرى معناها أنَّ هذا الحزب لا مساومة أو مفاصلة لديه أو بيع وشراء أو مصالح مضمرة تحت الطاولة أو على جوانبها، ويرى الله أمامها ومعها وفيها، وأنَّها علاقة متينة عروتها وثقى لا انفصام فيها مع الدين المحمدي الأصيل الذي يحدد الاتجاه الصحيح ويصوِّب الأمور والمحرِّك الأساس لحفظ قضايا الناس والأمّة، واللبيب من الإشارة يفهمُ. أمَّا الشواهد فهي كثيرة منذ أربعين عامًا وحتى اليوم لمن يحب أن يعرف أو أن يفهم جيدًا عمق مبادئ وثوابت العقل السياسي لهذا الحزب وقيادته.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.